هــيـثــم البـوســعــيــدي
مشروع النهضة العربية مشروع قديم تمتد جذوره إلى ما يقارب الـ 200 عاما حيث برز هذا المفهوم بقوة مع نشأت الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي حاكم مصر آنذاك، بحيث تمكن هذا الرجل من تشكيل دولة جديدة مغايرة في الأنظمة والقوانين عن نمط الدولة العثمانية التقليدية التي أغرقت معظم الدول العربية في براثن الجهل ومستنقعات التخلف طوال حكم امتد لأربعة قرون ماضية، كما أنها لم تقدم أي انجاز علمي يذكر أو نبوغ فلسفي يخدم البشرية جمعاء طوال الفترات الماضية لتستحق في النهاية لقب " رجل أوروبا المريض"، ولكــن للأسف فإن الدولة الواعدة في مصر سقطت عبر فترات لاحقة بين مخالب الإستعمار وخضعت لكل مطالبه وشروطه واستفزازاته.
أما المقصود من مشروع النهضة العربية كما يؤكده فلاسفة ومروجي هذا الفكر أنها عملية واسعة ومهمة كبرى وحركة فكرية ونشاط عقلي يهدف لاخراج العالم العربي من مستنقعات الظلام والجهل إلى مشاعل التنوير والحرية والسعي الدؤوب نحو الإلتحاق بحركة العلم وتحقيق قفزات كبيرة في جميع المستويات والأصعدة الفكرية والمعرفية والإجتماعية حتى نقف على عتبة التغيير الحقيقي فنكون بذلك مؤثرين وفاعلين في حركة الحياة ومسار العلم وبذلك سنصل في نهاية المطاف لاحتلال الريادة بين أوطان وشعوب الكرة الارضية.
أما الموجة الأولى لهذا المشروع الضخم ظهرت بشكل واضح مع هجرة بعض المثقفون العرب للعالم الغربي عبر عقود متعددة والتي كانت من أجل التعرف على عالم الغرب عن قرب والاقتراب من إدراك المسببات الرئيسة لهذا التقدم والتطور، فأسماء مثل محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطـه حسين ذهبوا إلى الغرب في بعثات علمية وتعرفوا على التطور الحاصل في مجالات الفكر والأدب والعلم ومن ثم عادوا إلى بلدانهم وقد أصابتهم حمى الانبهار بما يحدث هناك في الغرب.
وفي نفس الوقت تكونت لديهم ردة فعل متابنية لما يجري هناك بعيدا عن أوطانهم ورغبة عارمة في التغيير والتحديث والتطوير، ومن هنا ظهرت الشرارة الأولى لهذا النهضة التي كانت بالأساس عملية احتكاك بين عالم متخلف وعالم متقدم أعقبتها تأثيرات نفسية وثقافية وفكرية وإجتماعية وحضارية جعلت العالم العربي بكل شعوبه ودوله ومجتمعاته يلهث وراء مشاريع التحديث والتطوير حتى هذه اللحظة دون أن يجني من هذا اللهاث التأثير العميق والتغيير الجذري في كافة المستويات والمجالات.
كما إن أسباب أخرى دفعت باتجاه ظهور مسمى النهضة بشكل قوي على الساحة العربية فمن قوى التنوير والاستعمار والانتداب وتصاعد الحركات الثقافية وتعدد الترجمات وشعور عام بحالات التخلف وتفشي صور الانحطاط المستشرية في الجسد العربي وتعدد مظاهر الحنق والغضب ضد المستعمر، مهد الطريق نحو ظهور جملة من الأفكار والشعارات التي صبت في بوتقة النهضة العربية مثل أفكار القومية العربية وأفكار العدالة وأفكار المساواة وأفكار التحرر وأفكار الثورة.
وفيما بعد تشكلت حركات وجهات أصبحت تنادي بهذه الشعارات بدون وعي فكري أو تخطيط منظم أو رؤية تصاعدية فلم تكن تسير هذه الشعارات الفضفاضة ضمن مشروع نهضوي عملاق أو استراتيجية شمولية تهدف إلى نقل الأمة والبلدان العربية من أدنى درجات الانحطاط إلى أسمى درجات التقدم، مع إن هذه الأفكار والمبادئ ساعدت الكثير من الحركات والشعوب العربية في جهود التحرر والانعتاق من قيود المستعمر وامتلاك مقاليد الحكم وزمام السلطات، ومكنتها أيضا من تحقيق جزء من الاستقلال الوطني والتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة إلى أن بعض الأنظمة العربية تبنت أحلام النهضة العربية كحلم " الوحدة " الذي تصدعت قواعده بمرور الزمان نتيجة تكاثر الأزمات وتعدد الإنشقاقات وانخفاض الحس القومي وتعاظم تأثير القوى الخارجية واطراد الخلافات والمآسي العربية لنصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى اليوم "بمفهوم الدولة العربية الحديثة" بكل ما تحمله من سلبيات وتناقضات ومشاكل وأزمات معقدة.
وكنتيجة طبيعية لذلك فقد تخلت كثير من الأنظمة والقيادات العربية بفعل ظروف متابينة عن أحلام وطموحات النهضة العربية، فأصبحت فقط مشغولة بما يحدث في نطاق المجتمع والوطن المنتميه إليه فيما يمكن تسميته بحالة الإنكفاء على الذات والإنشغال بالهموم الداخلية.
وما سبق يؤكد أن تلك الأفكار بقت مجرد أفكار وشعارات تراوح مكانها ولم تكن فعل جاد ولا عمل حثيث ولا مطلب ضروري نحو تطوير شمولي وتحديث جذري للمجتمعات والدول العربية من القاعدة إلى قمة الهرم في كافة المجالات الفكرية والأدبية والسياسية والعلمية والقانونية، فعند البحث عن الأسباب الجذرية لهذه الأوضاع والظروف نكتشف حقيقة مهمة في مسيرة النهضة العربية، وهي أن علماء ومفكرين النهضة الأوائل لم يكونوا يمتلكون رؤية حقيقة لتطبيق شعارات وأفكار ومبادئ النهضة بحيث يمكن ترجمة نتائجها على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال لم يكن يهدف المشروع المزعوم إلى إصلاح ديني حقيقي ولم يكن يسعى لتطوير الثقافة العربية والوصول إلى صيغة تفاهم بين الحاضر والماضي فيما ما يمكن تسميته "بالمصالحة مع الماضي"، وهذه المسائل تعد من أخطر المسائل وأعقد القضايا لــذا كان من الصعب على مفكري النهضة الأوائل أن يواجهوا تلك القضايا الحساسة وجها لوجه في ظل مجتمعات متزمتة وأنظمة حكم بليدة وأوطان ضائعة منتهكة تعيش في أوضاع قهرية وظروف صعبة جدا.
كما أن الدولة العربية الحديثة لم تحتضن بين أركانها مشاريع متكاملة، إنما كانت مشاريعها عبارة عن أعمال بنائية ومجهودات تنموية ناقصة غير منظمة، فعند مراجعة الواقع العربي يتضح غياب التخطيط المنهجي في عملية تطبيق مبادئ وأفكار النهضة، ومنها أن الدولة كانت في بداياتها واقعة بين نموذجان للاقتباس وغير قادرة على السير على نهج أحدهما فأما الاقتباس من التجربة الغربية أو الانغماس في نموذج التجربة الإسلامية التقليدية، وهنا وقعت في إشكالية التخبط والعشوائية والأزدواجية في نواحي الحكم والسياسة والإقتصاد وإدارة المجتمع والتعامل مع الغرب لنصبح أمام أوطان تعاني أزمة في مواكبة مفاهيم الحداثة وبرامج التنمية بشتى أشكالها.
أضف إلى ذلك أن الدولة الحديثة ورثت كمية كبيرة من الأمراض المزمنة القادمة من الماضي السحيق ولم تستطع إيجاد العلاج الشافي لاستئصال هذه الإمراض من الجذور، فظهرت كل تلك الأمراض واضحة في الممارسات الفردية والسلوكيات المجتمعية من أعلى قمة في هرم السلطة حتى المواطن البسيط، إضافة إلى ذلك فإن الدولة العربية الحديثة خاضت حروب متباينة في الداخل والخارج من أجل إثبات الوجود وصناعة الاستقرار السياسي في ظل وجود قوى استعمارية وكيانات دخيلة عملت جاهدة لتحطيم بنية المجتمعات وخلخلة الأنظمة العربية الحديثة.
ومن ابرز هذه الكيانات " الكيان اليهودي" الذي مثل وجوده في الجسد العربي ضربة قاصمة لمشاريع النهضة العربية لأنه وجه ميزانيات وجهود الكيانات العربية الحديثة نحو مقاومة هذا المشروع الدخيل وخصوصا لدى الدول العربية الرئيسة في المنطقة، كما أن الدولة العربية الحديثة لم تستطع احتواء التفاعلات الناتجة عن ظاهرة الصحوة الاسلامية وتوظيفها بالشكل المطلوب لايقاظ الروح النهضوية العربية، وقيادة موجة جديدة في مشروع النهضة العربية الكبرى.
وما سبق ذكره يؤكد فشل الدولة العربية الحديثة في اشعال نيران المشروع النهضوي من جديد، وهذا بطبيعة الحال يؤدي بنا للاعتراف أن الدولة الحديثة عجزت عن توفير شروط النهضة العربية الكاملة وفقدت المرتكزات التي تقوم عليها متطلبات الحداثة وضرورات العصرنة، فالأحصائيات تشير إلى تدني عربي واضح في مجالات الصناعة والتوظيف والصحة والمشاركة السياسية والنمو الاقتصادي، بل إن الوضع الراهن في الساحة العربية أدى إلى ما يمكن تسميته بغياب التواصل الفكري الفعال بين فئات المجتمع ومكونات الدولة في الوطن الواحد بحيث أصبحت هناك حلقة مفقودة بين أهل السلطة والمثقفيين ورجال الدين وشرائح المجتمع الآخرى، هذا أدى بصورة مباشرة إلى انتصار الأصولية الفكرية التي أصبحت تـحتكر الحقيقة وتقمع الرأي المخالف مهما كان منبعه.
أخيرا يحق لنا أن نتسائل: هل بإستطاعة المجتمعات والدول العربية خلق حلقة جديدة من مشروع النهضة العربية في ظل فوضى الانقسام العربي وتكالب الأزمات العربية وذوبان مشروع النهضة في فضاءات العولمة ؟
في حقيقة الأمر نحن بحاجة لخطوات هامة وجهود حثيثة حتى يتمهد الطريق نحو انتهاج دروب النهضة وأهمها احداث زلزال قوي في ذاكرة العقل العربي واعصار مروع في قلوب قيادات الأوطان والمجتمعات العربية، لكن من بمقدوره احداث الزلزال وافتعال الاعصار؟
فنتائج تلك الكوارث الخلاقة ستحطم الجمود الذهني وستبدد الخمول الفكري وستجتث أشكال الهوان وأشجار الخوف الغائرة في القلوب منذ قرون سحيقة، وسندفع بالعديد من الأفكار النيرة نحو اتجاهات التنفيذ ومسارات التطبيق، وأولى هذه الأفكار السعي المخلص نحو ظهور فكر جديد ينفض الغبار عن التراث الديني والثقافة العربية التقليدية وليس ذلك معناه أن نمزج التراث بالحداثة أنما نسعى لتنقيح وغربلة التراث لتكوين فكر نقدي قادر على تدشين نهضة جديدة لا تقل أهمية عن نهضة القرن التاسع عشر، بل يحمل ضمن خططه وبرامجه رغبة جادة لإعادة قراءة التاريخ العربي بكل تفاصيله ومآسيه ويسعى من أجل التركيز على بناء الانسان العربي لاستئصال أمراضه المزمنة وآفاته التاريخية وإعطاء فرصة للعقل العربي للتفكير والانطلاق والتحليق عاليا لمسافات بعيدة.
أما الحكومات العربية فهي القيادات الرئيسة لهذا المشروع التوحيدي في عوالم التنفيذ، بينما تتبنى النخب الفكرية القيادة الرئيسة لهذا المشروع في عوالم التفكير والمعتقدات وهذا يستوجب على أنظمة الحكم العربي الاحساس بمقدار المسؤلية العظيمة وحجم المهمة الملقاة على عاتق الحكام والأنظمة العربية، ومن جانب آخر يتوجب على فئة المفكرين والمثقفين أن تتحلى بقدر من المرونة والواقعية الفكرية ليتسنى للمجموع العربي التوصل إلى اتفاق على أساس فكري ومصلحي مشترك .
كما أن هذا المشروع لن يفلح ولن يستقيم إلا إذا كان يحمل في مكوناته بذور الحل لموضوعات معقدة كالخلافات المذهبية والانشقاقات العرقية وحلحلة موضوع الهوية من أجل الاشتغال الجاد على توحيد الأمة العربية ووحدة المفتت والتركيز على الهوية الجامعة التي تجمع ولا تشتت لأنها مطلب ضروري ومبدأ أساسي تتكامل بواسطتها خصوصيات الوطن والدين والمذهب والأصول العرقية والإثنية، والأهم أن يكون المشروع قادر على توليد مجتمعات مدنية متمدنة مؤهلة حرة ديموقراطية تقبل التعددية وتكسر حواجز العنصرية المقيتة وتطفأ نيران النعرات القبلية والطائفية البغيضة وتسعى لترسيخ مبادئ المعرفة وتثبيت أصول الفكر الحر مع وجود سلطة مستنيرة تمكن المجتمع وشرائحه المختلفة من العمل الجاد والتعاون المثمر وتؤهله للقيام بالمهمة المنشودة والرسالة الحضارية.
وأخيرا فإن نجاح مشروع النهضة العربية الكبرى يتوقف على مبدأ " مركزية النهضة" حتى تكون نتائج المشروع ذات جدوى أكبر وتأثير أعمق، والوطن العربي الواعد الذي سيتمكن من تنفيذ مبادئ وافكار النهضة على أسس سليمة وقواعد متينة بفضل جهود نظامه وبسالة مجتمعه وتضحيات أفراده هو من يستطيع قيادة المشروع النهضوي العربي وتغذية نموه في كافة الأوطان العربية بل هو المصدر الوحيد والقائد المعنوي لكل أحلام الوحدة المنتظرة وأمنيات النهوض العربي.
مشروع النهضة العربية مشروع قديم تمتد جذوره إلى ما يقارب الـ 200 عاما حيث برز هذا المفهوم بقوة مع نشأت الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي حاكم مصر آنذاك، بحيث تمكن هذا الرجل من تشكيل دولة جديدة مغايرة في الأنظمة والقوانين عن نمط الدولة العثمانية التقليدية التي أغرقت معظم الدول العربية في براثن الجهل ومستنقعات التخلف طوال حكم امتد لأربعة قرون ماضية، كما أنها لم تقدم أي انجاز علمي يذكر أو نبوغ فلسفي يخدم البشرية جمعاء طوال الفترات الماضية لتستحق في النهاية لقب " رجل أوروبا المريض"، ولكــن للأسف فإن الدولة الواعدة في مصر سقطت عبر فترات لاحقة بين مخالب الإستعمار وخضعت لكل مطالبه وشروطه واستفزازاته.
أما المقصود من مشروع النهضة العربية كما يؤكده فلاسفة ومروجي هذا الفكر أنها عملية واسعة ومهمة كبرى وحركة فكرية ونشاط عقلي يهدف لاخراج العالم العربي من مستنقعات الظلام والجهل إلى مشاعل التنوير والحرية والسعي الدؤوب نحو الإلتحاق بحركة العلم وتحقيق قفزات كبيرة في جميع المستويات والأصعدة الفكرية والمعرفية والإجتماعية حتى نقف على عتبة التغيير الحقيقي فنكون بذلك مؤثرين وفاعلين في حركة الحياة ومسار العلم وبذلك سنصل في نهاية المطاف لاحتلال الريادة بين أوطان وشعوب الكرة الارضية.
أما الموجة الأولى لهذا المشروع الضخم ظهرت بشكل واضح مع هجرة بعض المثقفون العرب للعالم الغربي عبر عقود متعددة والتي كانت من أجل التعرف على عالم الغرب عن قرب والاقتراب من إدراك المسببات الرئيسة لهذا التقدم والتطور، فأسماء مثل محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطـه حسين ذهبوا إلى الغرب في بعثات علمية وتعرفوا على التطور الحاصل في مجالات الفكر والأدب والعلم ومن ثم عادوا إلى بلدانهم وقد أصابتهم حمى الانبهار بما يحدث هناك في الغرب.
وفي نفس الوقت تكونت لديهم ردة فعل متابنية لما يجري هناك بعيدا عن أوطانهم ورغبة عارمة في التغيير والتحديث والتطوير، ومن هنا ظهرت الشرارة الأولى لهذا النهضة التي كانت بالأساس عملية احتكاك بين عالم متخلف وعالم متقدم أعقبتها تأثيرات نفسية وثقافية وفكرية وإجتماعية وحضارية جعلت العالم العربي بكل شعوبه ودوله ومجتمعاته يلهث وراء مشاريع التحديث والتطوير حتى هذه اللحظة دون أن يجني من هذا اللهاث التأثير العميق والتغيير الجذري في كافة المستويات والمجالات.
كما إن أسباب أخرى دفعت باتجاه ظهور مسمى النهضة بشكل قوي على الساحة العربية فمن قوى التنوير والاستعمار والانتداب وتصاعد الحركات الثقافية وتعدد الترجمات وشعور عام بحالات التخلف وتفشي صور الانحطاط المستشرية في الجسد العربي وتعدد مظاهر الحنق والغضب ضد المستعمر، مهد الطريق نحو ظهور جملة من الأفكار والشعارات التي صبت في بوتقة النهضة العربية مثل أفكار القومية العربية وأفكار العدالة وأفكار المساواة وأفكار التحرر وأفكار الثورة.
وفيما بعد تشكلت حركات وجهات أصبحت تنادي بهذه الشعارات بدون وعي فكري أو تخطيط منظم أو رؤية تصاعدية فلم تكن تسير هذه الشعارات الفضفاضة ضمن مشروع نهضوي عملاق أو استراتيجية شمولية تهدف إلى نقل الأمة والبلدان العربية من أدنى درجات الانحطاط إلى أسمى درجات التقدم، مع إن هذه الأفكار والمبادئ ساعدت الكثير من الحركات والشعوب العربية في جهود التحرر والانعتاق من قيود المستعمر وامتلاك مقاليد الحكم وزمام السلطات، ومكنتها أيضا من تحقيق جزء من الاستقلال الوطني والتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة إلى أن بعض الأنظمة العربية تبنت أحلام النهضة العربية كحلم " الوحدة " الذي تصدعت قواعده بمرور الزمان نتيجة تكاثر الأزمات وتعدد الإنشقاقات وانخفاض الحس القومي وتعاظم تأثير القوى الخارجية واطراد الخلافات والمآسي العربية لنصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى اليوم "بمفهوم الدولة العربية الحديثة" بكل ما تحمله من سلبيات وتناقضات ومشاكل وأزمات معقدة.
وكنتيجة طبيعية لذلك فقد تخلت كثير من الأنظمة والقيادات العربية بفعل ظروف متابينة عن أحلام وطموحات النهضة العربية، فأصبحت فقط مشغولة بما يحدث في نطاق المجتمع والوطن المنتميه إليه فيما يمكن تسميته بحالة الإنكفاء على الذات والإنشغال بالهموم الداخلية.
وما سبق يؤكد أن تلك الأفكار بقت مجرد أفكار وشعارات تراوح مكانها ولم تكن فعل جاد ولا عمل حثيث ولا مطلب ضروري نحو تطوير شمولي وتحديث جذري للمجتمعات والدول العربية من القاعدة إلى قمة الهرم في كافة المجالات الفكرية والأدبية والسياسية والعلمية والقانونية، فعند البحث عن الأسباب الجذرية لهذه الأوضاع والظروف نكتشف حقيقة مهمة في مسيرة النهضة العربية، وهي أن علماء ومفكرين النهضة الأوائل لم يكونوا يمتلكون رؤية حقيقة لتطبيق شعارات وأفكار ومبادئ النهضة بحيث يمكن ترجمة نتائجها على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال لم يكن يهدف المشروع المزعوم إلى إصلاح ديني حقيقي ولم يكن يسعى لتطوير الثقافة العربية والوصول إلى صيغة تفاهم بين الحاضر والماضي فيما ما يمكن تسميته "بالمصالحة مع الماضي"، وهذه المسائل تعد من أخطر المسائل وأعقد القضايا لــذا كان من الصعب على مفكري النهضة الأوائل أن يواجهوا تلك القضايا الحساسة وجها لوجه في ظل مجتمعات متزمتة وأنظمة حكم بليدة وأوطان ضائعة منتهكة تعيش في أوضاع قهرية وظروف صعبة جدا.
كما أن الدولة العربية الحديثة لم تحتضن بين أركانها مشاريع متكاملة، إنما كانت مشاريعها عبارة عن أعمال بنائية ومجهودات تنموية ناقصة غير منظمة، فعند مراجعة الواقع العربي يتضح غياب التخطيط المنهجي في عملية تطبيق مبادئ وأفكار النهضة، ومنها أن الدولة كانت في بداياتها واقعة بين نموذجان للاقتباس وغير قادرة على السير على نهج أحدهما فأما الاقتباس من التجربة الغربية أو الانغماس في نموذج التجربة الإسلامية التقليدية، وهنا وقعت في إشكالية التخبط والعشوائية والأزدواجية في نواحي الحكم والسياسة والإقتصاد وإدارة المجتمع والتعامل مع الغرب لنصبح أمام أوطان تعاني أزمة في مواكبة مفاهيم الحداثة وبرامج التنمية بشتى أشكالها.
أضف إلى ذلك أن الدولة الحديثة ورثت كمية كبيرة من الأمراض المزمنة القادمة من الماضي السحيق ولم تستطع إيجاد العلاج الشافي لاستئصال هذه الإمراض من الجذور، فظهرت كل تلك الأمراض واضحة في الممارسات الفردية والسلوكيات المجتمعية من أعلى قمة في هرم السلطة حتى المواطن البسيط، إضافة إلى ذلك فإن الدولة العربية الحديثة خاضت حروب متباينة في الداخل والخارج من أجل إثبات الوجود وصناعة الاستقرار السياسي في ظل وجود قوى استعمارية وكيانات دخيلة عملت جاهدة لتحطيم بنية المجتمعات وخلخلة الأنظمة العربية الحديثة.
ومن ابرز هذه الكيانات " الكيان اليهودي" الذي مثل وجوده في الجسد العربي ضربة قاصمة لمشاريع النهضة العربية لأنه وجه ميزانيات وجهود الكيانات العربية الحديثة نحو مقاومة هذا المشروع الدخيل وخصوصا لدى الدول العربية الرئيسة في المنطقة، كما أن الدولة العربية الحديثة لم تستطع احتواء التفاعلات الناتجة عن ظاهرة الصحوة الاسلامية وتوظيفها بالشكل المطلوب لايقاظ الروح النهضوية العربية، وقيادة موجة جديدة في مشروع النهضة العربية الكبرى.
وما سبق ذكره يؤكد فشل الدولة العربية الحديثة في اشعال نيران المشروع النهضوي من جديد، وهذا بطبيعة الحال يؤدي بنا للاعتراف أن الدولة الحديثة عجزت عن توفير شروط النهضة العربية الكاملة وفقدت المرتكزات التي تقوم عليها متطلبات الحداثة وضرورات العصرنة، فالأحصائيات تشير إلى تدني عربي واضح في مجالات الصناعة والتوظيف والصحة والمشاركة السياسية والنمو الاقتصادي، بل إن الوضع الراهن في الساحة العربية أدى إلى ما يمكن تسميته بغياب التواصل الفكري الفعال بين فئات المجتمع ومكونات الدولة في الوطن الواحد بحيث أصبحت هناك حلقة مفقودة بين أهل السلطة والمثقفيين ورجال الدين وشرائح المجتمع الآخرى، هذا أدى بصورة مباشرة إلى انتصار الأصولية الفكرية التي أصبحت تـحتكر الحقيقة وتقمع الرأي المخالف مهما كان منبعه.
أخيرا يحق لنا أن نتسائل: هل بإستطاعة المجتمعات والدول العربية خلق حلقة جديدة من مشروع النهضة العربية في ظل فوضى الانقسام العربي وتكالب الأزمات العربية وذوبان مشروع النهضة في فضاءات العولمة ؟
في حقيقة الأمر نحن بحاجة لخطوات هامة وجهود حثيثة حتى يتمهد الطريق نحو انتهاج دروب النهضة وأهمها احداث زلزال قوي في ذاكرة العقل العربي واعصار مروع في قلوب قيادات الأوطان والمجتمعات العربية، لكن من بمقدوره احداث الزلزال وافتعال الاعصار؟
فنتائج تلك الكوارث الخلاقة ستحطم الجمود الذهني وستبدد الخمول الفكري وستجتث أشكال الهوان وأشجار الخوف الغائرة في القلوب منذ قرون سحيقة، وسندفع بالعديد من الأفكار النيرة نحو اتجاهات التنفيذ ومسارات التطبيق، وأولى هذه الأفكار السعي المخلص نحو ظهور فكر جديد ينفض الغبار عن التراث الديني والثقافة العربية التقليدية وليس ذلك معناه أن نمزج التراث بالحداثة أنما نسعى لتنقيح وغربلة التراث لتكوين فكر نقدي قادر على تدشين نهضة جديدة لا تقل أهمية عن نهضة القرن التاسع عشر، بل يحمل ضمن خططه وبرامجه رغبة جادة لإعادة قراءة التاريخ العربي بكل تفاصيله ومآسيه ويسعى من أجل التركيز على بناء الانسان العربي لاستئصال أمراضه المزمنة وآفاته التاريخية وإعطاء فرصة للعقل العربي للتفكير والانطلاق والتحليق عاليا لمسافات بعيدة.
أما الحكومات العربية فهي القيادات الرئيسة لهذا المشروع التوحيدي في عوالم التنفيذ، بينما تتبنى النخب الفكرية القيادة الرئيسة لهذا المشروع في عوالم التفكير والمعتقدات وهذا يستوجب على أنظمة الحكم العربي الاحساس بمقدار المسؤلية العظيمة وحجم المهمة الملقاة على عاتق الحكام والأنظمة العربية، ومن جانب آخر يتوجب على فئة المفكرين والمثقفين أن تتحلى بقدر من المرونة والواقعية الفكرية ليتسنى للمجموع العربي التوصل إلى اتفاق على أساس فكري ومصلحي مشترك .
كما أن هذا المشروع لن يفلح ولن يستقيم إلا إذا كان يحمل في مكوناته بذور الحل لموضوعات معقدة كالخلافات المذهبية والانشقاقات العرقية وحلحلة موضوع الهوية من أجل الاشتغال الجاد على توحيد الأمة العربية ووحدة المفتت والتركيز على الهوية الجامعة التي تجمع ولا تشتت لأنها مطلب ضروري ومبدأ أساسي تتكامل بواسطتها خصوصيات الوطن والدين والمذهب والأصول العرقية والإثنية، والأهم أن يكون المشروع قادر على توليد مجتمعات مدنية متمدنة مؤهلة حرة ديموقراطية تقبل التعددية وتكسر حواجز العنصرية المقيتة وتطفأ نيران النعرات القبلية والطائفية البغيضة وتسعى لترسيخ مبادئ المعرفة وتثبيت أصول الفكر الحر مع وجود سلطة مستنيرة تمكن المجتمع وشرائحه المختلفة من العمل الجاد والتعاون المثمر وتؤهله للقيام بالمهمة المنشودة والرسالة الحضارية.
وأخيرا فإن نجاح مشروع النهضة العربية الكبرى يتوقف على مبدأ " مركزية النهضة" حتى تكون نتائج المشروع ذات جدوى أكبر وتأثير أعمق، والوطن العربي الواعد الذي سيتمكن من تنفيذ مبادئ وافكار النهضة على أسس سليمة وقواعد متينة بفضل جهود نظامه وبسالة مجتمعه وتضحيات أفراده هو من يستطيع قيادة المشروع النهضوي العربي وتغذية نموه في كافة الأوطان العربية بل هو المصدر الوحيد والقائد المعنوي لكل أحلام الوحدة المنتظرة وأمنيات النهوض العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق