الأحد، أكتوبر 11، 2009

تأملات لاديكارتية

زهير الخويلدي

" الإنسان هو أيضا محل للجهل، هذا الجهل يمكنه أن يتجاوز كينونته الخاصة وأن يستعيد ذاته انطلاقا مما يفوته." ( ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء)

من الفراغ يبدأ المرء أو من الحطام الذي يتركه الإنسان أثناء أفوله، يبدأ فيه فعل ما يتأمل معنى هذا الأفول ويستثمر الفسحة التي يتركها له الفراغ لكي يستأنف مجددا حركته نحو ذاته ونحو المجال الذي انبثق منه. لكنه لا يعلم بالضبط من الذي يبدأ فيه فعل التأمل لاسيما وأنه يشعر في داخله بالفزع ويحس بالفراغ بعد طول النظر ومراكمة العمل، فكيف لأنا لا يمتلك إنيته أن يتأمل الفراغ سواء كان في داخله أو في المحيط الخارجي المحيط به؟ كيف له أن يزعم امتلاكه لذاته أثناء تأمله وركضه نحو ذاته؟ و كيف وهذا الفعل الذي ينفلت منه يند عنه ليس فقط قبل أن يبدأ الكتابة وإنما حتى أثناء فعل الكتابة نفسه؟

لا يعلم هذا الآدمي الوجهة التي عليه أن يقصدها ولا الموضوع الذي ينبغي أن يتأمله طالما أنه يسبح في الفراغ وتحاصره المرايا المحدبة والأرواح الثقيلة وطالما أنه محاط بالعدم والصحراء. من هذا المنطلق كان يخشى دائما البداية ويتحاشى منطق الوصية ولغة الوعظ والإرشاد لأنه كان يجهل من الذي سيبدأ فيه أثناء فعل البداية عينها أو كان يتحاشى أن يقوم في داخله آمر مهما كان مصدره من الأرض أو من السماء، فرد أو جماعة يحاول أن يفرض عليه فعل التأمل وحركة الابتداء ويجبره على التوجه قسرا نحو مبتغى مغاير للقبلة التي اتخذها قصيا.

انه يعلم فقط أن كائن يحيا ويتكلم وينتج لاسيما وأن اللغة تجعله ممثلا بارعا للتعبير والجسد يمكنه من البروز في العالم والعمل يقوي لديه رغبة الاستحواذ والتملك.

لهذا تصعب البداية ويصعب الكلام في الفراغ المطلق عن العدم الكلي، فراغ الأنا وفراغ المواضيع التي يمكن أن يتأمل فيها، يصعب على الذات إدراك ذاتها عبر الشفافية المباشرة للأنا أفكر ويعسر العبور من التفكير إلى الوجود على ضوء البداهة ، ولهذا رفض الآدمي أن يمارس مجددا سلطة الخطاب وسيادة الكلمات وتقنية التمثيل لكي يسمح للأشياء في داخله وفي الخارج أن تظهر كماهي دون طبقات ميراث أو أسوار سميكة تحجبها،ولهذا عارض منطق الهوية وفكر التطابق والعودة إلى الأصل ورفض أن تكون الكينونة محتواة في الفكر وأن يحبس الفكر أنفاس اللغة وأن تداس كرامة البشر باسم دولة القانون ومنظومة حقوق الإنسان وأن تستبد الصورة بالمشهد وتدنس السلعنة الفن وتطمس الدعايةُ الأخلاقَ وأن تنفذ التجارةُ إلى الدين وأن تجتث التقنيةُ الحياة من الكوكب.

يبدو أن كل ما هو واثق منه هو أن شيئا ما في داخله يولد وينمو ويطلع وهذا القادم ليس الأنا أفكر بالطبع ولا الأنا موجود بل هو ممر سيتأمل وسيمارس فعله في هذا الفراغ المحيط به، في هذا الشرخ الذي يفصله عن أصل وجوده، انه يمكن لفعل ما أن يبدأ في هذه المسافة التي تفصل الفكر الحاضر لذاته عن اللامفكر به، هذا غير المدرك الصامت ، هذا غير الصحيح وغير الصائب والخيالي والوهمي والتي يقوم تحت أو بجانب الفكر هو الذي سيطلع من الأرض طلوع الفطر.

إن في الآدمي بعد غير قابل للتحديد هو أفق صامت أو منطقة سوداء تشكل امتداد رملي للامفكر به، من هذا البعد يمكن أن يبدأ المرء ويمكن أن يتأمل في الفراغ وأن يستدرك ما فاته ويتجاوز محدوديته من أجل أن يستعيد ذاته وثقته بالأشياء الخارجية المحيطة به دون أن يقع في فخ البداهة والأفكار الواضحة والمتميزة ودون أن يستعيد نظرية المعرفة التقليدية والضرورة الشفافة التي تربط بين التمثيل والموجود ودون أن تدعي القدرة على بلوغ درجة الوعي المطلق بالذات .

لكن بأي لغة سيتكلم هذا الآدمي عن نفسه وعن ما يجول بخاطره ويقدح في ذهنه من أفكار؟ أليس الكلام نفسه حمال أوجه واللغة غير بريئة ؟ ألا يخشى الوقوع في فخ سلطة الخطاب وسيادة الكلمات ؟ ألا ينبغي ألا يسقط في فخ ميتافيزيقا النصح وايديولوجيا المغالطة؟ فأين هي اللغة التي تسبق الفكر بحيث تبوح به بكرا في لحظة انبثاقه الأولى؟ وأين هو الفكر في هذا التأمل حتى يكون طازجا إذا ما كان يمر عبر منظومة من الكلمات المقتحمة والمستباحة من الفضاء العمومي ويلوك فكرا مستهلكا منذ ألاف السنين؟

مطلوب من المرء أثناء فعل التأمل أن يحدث ولادة فورية للفكر عبر لغة هي أقدم منه بحيث لا يقدر على السيطرة على معانيها ودون أن يكون أداة تمثيل تسمي الأشياء وتظهر إياها في شفافية الكلام. مطلوب منه أن يصارع الفراغ والعدم والتصحر الثقافي وأسلحته هي الفكر واللغة والكتابة والقدرة على الاستدراك والتجاوز نحو هذا الذي لم يأت بعد.

إنه يتوق نحو العودة إلى ذاته بواسطة قدرة في داخله غير مفهومة ويرغب في المصالحة مع نفسه عبر هذا البعد المنفتح منه وغير القادر على الانصهار معه، انه يريد أن يصل إلى تحقيق كينونته حتى قبل أن يعرف ما بداخله وما بالخارج. لكن مقولات الداخل والخارج واليمين واليسار والفوق والتحت والقريب والبعيد ليس لها معنى في مشروع حفظ الكيان طالما أن الفراغ يداهم كل شيء ويفرغ الأشياء من شيئيتها وينزع الكائنات من كيانها.

ربما من أجل أن يعرف ذاته كان عليه أن يعود إليها حتى يجدها وبعد ذلك ينطلق في البحث عن أشياء أخرى، كان عليه أن يتقفى أثار الأصل ويتعرف على بصمات المطلق. غير أن ما يربكه هو هذه البرمجة المسبقة التي ينبغي أن يحطمها حتى يتمكن من تجاوز الفراغ وتحقيق الكينونة. لكن لماذا حدد الآدمي وجهته نحو الكينونة؟ هل لكونه قرر الفرار من هذا الفراغ؟ لماذا الكينونة بالذات دون غيرها؟ لماذا يهرب من العدم ويقاوم انجراف الصحراء؟ هل هو المستحيل الذي يريد أن يصل إلى وجوده أم أنه حصار الزمن الذي يجعله محاطا بالعدم من كل جانب؟ لماذا الكينونة تعوض العدم وليس شيئا آخر؟

لقد تاه المرء بالفعل في صحراء من الأسئلة التي لا تتوقف ولا تقدم به نحو أي هدف وإنما تشعل نار الحيرة وتزيد من كثافة الفراغ الذي يداهم من الخارج ومن عمق التناهي الذي يعصف بالداخل. عندئذ ينبغي على المرء أن يحفر في البديهيات ويفكك كل المغاليق ويحطم المتاريس وأن يعود إلى تلمس وجهته والبحث عن أسئلة تقوده إلى العودة إلى ذاته وتحقيق كينونته واثبات إنيته طالما أنه المخرج الوحيد الممكن.

"لقد بات المقصود هو الكينونة وليس الحقيقة، الإنسان ولا الطبيعة، الجهل الأولى لا إمكانية المعرفة" وباتت "مهمة الفلسفة هي العودة إلى مجال تلك الخبرات المبررة التي لا يتعرف فيها الإنسان على ذاته واستدراكها ضمن وعي واضح". إن" المقصود هنا هو الإبقاء على أكبر مسافة ممكنة تفصل وتربط معا الفكر الحاضر لذاته وما يتجذر من الفكر في اللامفكر." "لماذا لا يقود قول أنا أفكر إلى بداهة أنا موجود؟...كيف يمكنني القول إني أكون هذا العمل الذي أقوم به بيدي والذي يفلت مني ليس فقط بعد أن أفرغ منه بل حتى قبل أن أبدأه؟ أيمكنني أن أقول إني كل هذا واني لست هذا على السواء فلا يؤدي الكوجيتو إلى تأكيد الكينونة ولكنه يفتح على سلسلة التساؤلات التي تكون فيها الكينونة موضوعيا لها: ما يجب أن أكون أنا الذي أفكر وأنا الذي أكون أنا فكري كي أكون ما لا أفكر وكي يكون فكري ما لست أنا كائنا فيه؟ ماهو في النهاية هذا الكائن الذي يومض ومضا متقطعا من خلال انفتاح الكوجيتو ومع ذلك لا يعرف ليس هذا الكائن معطى من قبل هذا الكوجيتو أو من خلاله تماما؟" عندئذ يجوز لي أن أتساءل "ماهي كينونة الإنسان؟ كيف يمكن لهذا الكائن الذي لديه فكرا أن يكون على علاقة أساسية لا تمحي مع اللامفكر؟"

على هذا النحو نشأ نوع من التفكير غير الحديث هو بمثابة تأمل لاديكارتي أو لاتأمل ديكارتي بحيث يصبح موضوع السؤال لأول مرة هو كينونة الإنسان وفق ذلك البعد الذي يجعل الفكر يتوجه إلى اللامفكر فيه ويتمفصل عليه. هنا ينبغي الاهتمام باللامفكر لأنه متعامد مع الإنسان وهو بالنسبة إليه هذا الأخر أي الظل الذي لا يفارقه ويمنحه تجدد مماثل لذاته.إن كل عادات الفكر التي ورثناها منذ القرون الوسطى تهتز وتتهاوى أمام التقصي الدقيق للحالات والتشخيص الميداني للوضعيات وان الفكر الذي تسيد على لغتنا وعلى جسدنا يغادر جغرافيتنا وان كل السطوح المنظمة تتكسر لتفسح المجال للتدفق الغزير للكائنات ولتنطلق الذات في تجربة ممارسات نقدية تستمر لمدة طويلة أملها أن تتحرر من الطغيان وتوسع دوائر الخلق ومنافذ الابتكار.

من الجلي إذن أن الإنسان كائن حريص أن يكون له أصل وأن ينتمي إلى وطن وأن يتذكر كل تاريخه ولكن يتعذر عليه الوصول إلى ولادته لأنها لم تحصل بعد،بل انه وعد موشك التحقق لكن دون أن يتحققن انه على طريق العودة التي لن تتم، انه رجوع إلى زمان لا وجود للإنسان فيه. إن الإنسان ليس معاصرا لما يجعله كائنا بل هو عالق داخل صدفة تشتته وتبعده عن أصله وحتى الزمن يبعده عن كينونته الخاصة وعن اليوم الذي انبزغ منه كما يبعده عن الفجر الموعود به. "إن الإنسان سيتلاشى كما يتلاشى وجه من الرمل على شاطئ البحر" و"إن الجسد هو السطح الذي ترتسم عليه الأحداث وهو محل انفصام الأنا".

من هذا المنطلق أصبح المرء على بينة من أن التأمل قد قاده إلى إقامة علاقة متقلبة مع الكينونة والى تحمل عبء الغيرية الجذرية والى التفطن من أن الكوجيتو هو علاقة مركبة وملتبسة ومتوترة بين الذات والفكر والكينونة واللغة والزمان وأن السؤال الفلسفي الأول ليس سؤال الهوية والأصل بل سؤال الكينونة والكف عن محاولة رأب ما لا يرأب.

إن ما يظهر كأساس لتاريخية الإنسان هي المسافة التي تشق ذات الواحد وتبعثره في كثرة لا سبيل إلى تجميعها في وحدة بعد ذلك. إن الذات لم تعد تتحدد كحضور شفاف وعاكس لهويتها في مرآة وعيها حسب صيرورة التماثل بل أصبحت كثرة ينخرها التنوع والاختلاف ومقذوف بها في العالم دون أن تدري.

لكن كيف يتسنى له أن يصدق بذلك؟ كيف له بعد هذه الواقعة أن يحقق كينونته وأن يستطيع أن يعود إلى ذاته وهو لم يكن يقيم فيها في السابق ولم يكن يعرفها؟ كيف له أن يحلم بالجنة الموعودة وهي فردوس مفقود؟ وكيف يبدأ في تفسيرها واستعادتها وهو لم يكتشفها بعد؟

كل ماهو متأكد منه هو أنه يجهل ذاته جهلا مطلقا، فلا داعي لهذا الصوت الذي يستيقظ في داخله بضرورة الرجوع ولكن السؤال الأهم هو العودة إلي أين؟ هل تجوز العودة إلى الفراغ بعد التصميم على مغادرته ومقارعته؟

هكذا يستحيل علينا أن نفكر هكذا على الطريقة الديكارتية وأن نبحث عن ذواتنا من بوابة الأنا أفكر أنا موجود،ويتضح لنا أن عين الآدمي تبقى مغمضة أبد الدهر والمرء يتمادى مجهولا ويظل أسير حلقة مفرغة بين حتمية العودة إلى الذات وتخطي حالة الفراغ من ناحية واستحالة هذه العودة وفقدان الذات وامتناع اكتمالها من ناحية أخرى، فإلى أين المفر؟ وأين المستقر؟ ولماذا لا يكون انجازا للكينونة هو أحسن الأفعال تصميما؟ أليس طلب العود إلى الذات بالتأمل هو الفعل الذي لا يملك ذات؟ ألا نكون خارج الكوجيتو الديكارتي عندما نبحث عن اللاأنا واللانحن إنقاذا لإنسانية الإنسان من كل النزعات اللاانسانية؟ ألا نحتاج إلى نزعة مضادة لديكارت من أجل بناء الذات الكونية وانجاز آدمية الانسان؟ فكيف السبيل إلى بناء تأملات لاديكارتية؟ ألم يقل ديكارت الأخر في رسالة إلى شانو بتاريخ الأول من نوفمبر1637:" إن القردة أحكم الكائنات لو صح اعتقاد العامة فيهم أنهم يمسكون عن الكلام حتى يرغموا على العمل طوال الوقت"؟

المرجع:

ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.

كاتب فلسفي

ليست هناك تعليقات: