نقولا ناصر
(قرار الرئيس الفلسطيني بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية سوف يظل حبرا على ورق إذا لم تنجح الوساطة المصرية في توفير قاعدة توافق وطني تسمح بتطبيقه)
بالرغم من أن الوساطة المصرية في الانقسام الفلسطيني تبدو حاليا متعثرة وكأنما وصلت إلى طريق مسدود ينذر بانهيارها، فإنها "لم تنهر"، كما قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتتضافر عدة عوامل تجعل من مصلحة جميع الأطراف المشاركة فيها والمعنية بها حريصة على استمرارها ك"عملية" تشير كل الدلائل إلى أنها أصبحت مطلوبة لذاتها، تماما مثل "عملية السلام" الفلسطينية – الإسرائيلية. لكن بينما يجري تسليط الأضواء على الأسباب الفلسطينية في تعثرها الراهن، فإنه يجري حجب الأسباب المصرية لهذا التعثر التي تجعل الوساطة المصرية تحمل في ذاتها الأسباب الرئيسية لعدم نجاحها بعد حوالي سنتين من بدئها.
لذلك فإن قرار الرئيس الفلسطيني بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني / يناير المقبل لن يكون نهاية للوساطة المصرية على الأرجح، وإن كان القرار في حد ذاته يكشف عن توجه نحو إنهائها، لسبب بسيط أساسي هو أن هذا القرار سوف يظل حبرا على ورق إذا لم تنجح الوساطة المصرية في توفير قاعدة توافق وطني تسمح بتطبيقه.
أما الانسياق مع الضغوط الأميركية للذهاب إلى تطبيق قراره جزئيا في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن وسط مقاطعة شعبية واسعة متوقعة ومعارضة لذلك حتى من الفصائل المؤتلفة مع الرئاسة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير، ودون مشاركة القدس في ذلك -- إذ يكاد يكون شبه مؤكد أن حكومة دولة الاحتلال الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو التي لم تسمح لرئيس حكومة سلطة الحكم الذاتي في رام الله سلام فياض باستضافة الدبلوماسيين المعتمدين لدى السلطة على وجبة إفطار رمضانية في المدينة المقدسة المحتلة بالرغم من اتخاذ معظمهم للقدس مقرا لبعثاتهم الدبلوماسية ومن إقامة فياض نفسه فيها فإنها على الأرجح لن تسمح أيضا بمشاركة أهل المدينة من الفلسطينيين في الانتخابات -- فإنها ستكون تخبطا سياسيا يكرر الخطيئة الفلسطينية المميتة التي ارتكبتها الرئاسة الفلسطينية عندما سحبت تقرير غولدستون من اقتراع مجلس حقوق الإنسان على رفعه إلى مجلس الأمن الدولي، استجابة للضغط الأميركي، تخبطا سيوجه ضربة قوية إلى الثقة الشعبية بالرئيس عباس الذي أظهر استطلاع أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال (فلسطيني) في الفترة من (7 – 11) الشهر الجاري أن هذه الثقة قد انخفضت إلى (12.1%) بالمقارنة مع (17.8%) في حزيران / يونيو الماضي.
إن الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي باراك أوباما مع عباس بعد اجتماعه مع وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون عشية إعلان عباس لقراره وعشية الإعلان عن جولة خامسة للمبعوث الرئاسي الأميركي إلى المنطقة، جورج ميتشل، وسط تقارير عن وعود أميركية باستئناف "عملية السلام" قريبا، يعزز اتهامات حماس لعباس بأنه اتخذ قراره استجابة لنصيحة أميركية مرة أخرى، ليلدغ من الجحر الأميركي مرتين خلال شهرين. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن أوباما الذي ضغط على عباس بالضد من قناعاته المعلنة للذهاب إلى قمة نيويورك الثلاثية الأخيرة مع نتنياهو من أجل تسجيل نقطة علاقات عامة لصالحه توقف التدني المتواصل في شعبيته بدوره يعود الآن مرة أخرى إلى بيع وهم السلام للرئاسة الفلسطينية للسبب نفسه، ولذات السبب يستعد الآن لحضور ومخاطبة أكبر تجمع حتى الآن لقادة يهود أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) في التاسع من الشهر المقبل في واشنطن العاصمة، كما أعلن البيت الأبيض يوم الجمعة الماضي، في الوقت الذي تجري المناورات العسكرية الأميركية الإسرائيلية ويعلن أوباما خلالها أن علاقة بلاده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أعمق وأقوى من أي تحالف عسكري، بينما يعلن خافير سولانا ممثل الاتحاد الأوروبي -- العضو الآخر في اللجنة الرباعية الدولية التي تخير بشروطها المعروفة عباس بينها وبين الوحدة الوطنية الفلسطينية – بأن "إسرائيل عضو في الاتحاد الأوروبي" علاقاتها بأعضائه "جزء لا يتجزأ من برامجه" دون أن تكون عضوا في مؤسساته (مؤتمر "مواجهة الغد" في القدس، 20 – 22/10/2009)!
ومما يعزز شبهة استجابة عباس للضغط الأميركي مجددا أنه لم يكن أسير خيار واحد هو "الاستحقاق الدستوري"، بدليل موافقته على تأجيل الموعد المقرر للانتخابات في "الورقة المصرية" لو وقعتها حماس. كما أن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد عندما توقع أن يوصي المجلس المركزي لمنظمة التحرير عباس بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى إنما كان يشير إلى خيار متاح آخر.
لقد أعلن عباس سببين، أو مسوغين، لقراره، أولهما أن تحديد موعد الانتخابات هو استحقاق دستوري لا يستطيع انتهاكه، والثاني أن الوسيط المصري لا يعارض قراره. وكلا المسوغين مطعون فيه، فعباس قد وافق بتوقيع حركة فتح التي يقودها في الخامس عشر من الشهر على "الورقة المصرية" التي تنص على تأجيل هذا "الاستحقاق الدستوري" إلى حزيران / يونيو المقبل. أما الإيحاء بأن مصر موافقة على ذهاب الرئاسة الفلسطينية إلى الانتخابات دون توافق وطني فإنه يتعارض مع الحرص الذي أظهره الوسيط المصري في ورقته على إجراء هذه الانتخابات على أساس الوفاق الفلسطيني، عندما ضمن وثيقته للمصالحة اقتراحا بتأجيل الانتخابات الفلسطينية ستة أشهر عن موعدها المقرر في شهر كانون الأول / يناير المقبل إلى شهر حزيران / يونيو، ولم يكتف بالتوقيع الرسمي لاتفاق المصالحة الذي كان مفترضا أن يتم بحضور شهود عرب ودوليين في السادس والعشرين من الشهر الجاري، بل أراد لهذا الاتفاق أن يأخذ مداه في التطبيق العملي طوال حوالي تسعة أشهر بعد التوقيع لإجراء الانتخابات على قاعدة توافق وطني قوية، معتبرا أن هذا التوافق هو مرجعية أقوى بكثير من المرجعيات القانونية التي اعتادت قيادة منظمة التحرير تطويعها لأغراضها السياسية حتى لم يعد لها أي هيبة قانونية لكثرة تغييرها وتعديلها خلال فترات زمنية قصيرة. وقال دبلوماسي مصري للأهرام ويكلي في عددها الأخير (22 – 28/10/2009) تعليقا على تصريحات عباس إن "موقف مصر ليس معارضا للدعوة إلى الانتخابات، لكننا نعارض انتخابات في الضفة الغربية فقط"، وأن القاهرة "لن تؤيد عباس إن سار في طريق أحادي الجانب" وأن ذلك "قد أبلغ لعباس بوضوح"، مضيفا: "إنه يريد أن يقصي حماس، وهذا أمر يخصه، لكننا لا نستطيع أن نعلق مع غزة، وهذا شيء كنا نقوله له تكرارا، وقد قلناه للأميركيين وللجميع غيرهم. لكنني لست متأكدا إن كان (عباس) يستمع بانتباه جيد". ونقلت الصحيفة عن مسؤولين مصريين قولهم إن التهديد بإجراء الانتخابات في الضفة وحدها سيقود فقط إلى "تعميق الانقسام" مع غزة وبذلك يترك غزة لمصر كي تقلق بشأنها على حدودها الشرقية.
إن وجود مصر والرئاسة الفلسطينية في خندق استراتيجي واحد ملتزم بال"رؤية" الأميركية تجاه "عملية السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي خندق واحد أيضا من حيث المبدأ مع هذه "الرؤية" التي ترفض المقاومة، فلسطينية كانت أم عراقية أم غيرهما، باعتبار هذا الرفض "نبذا للإرهاب"، ووجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من فصائل المقاومة الفلسطينية في الخندق المقابل، هي حقيقة تجعل الوسيط المصري منحازا "سياسيا" إلى الرئاسة في خلافها مع هذه الحركات، مما يجعله منطقيا يفتقد صفة الحياد المطلوبة في أي وسيط، وبالتالي يفقده مؤهلا أساسيا إن لم يكن للتوسط ففي الأقل لامتلاك إمكانية عملية لإنجاح وساطته، وربما بسبب هذا الانحياز أفرغ الوسيط المصري "اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني" المعروف باسم "الورقة المصرية" من أي مضمون وطني أو سياسي، وحولها إلى مجرد اتفاق محاصصة على اقتسام سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، إذ لا يمكن أبدا تفسير إغفال هذا الوسيط لهذا المضمون بالسهو أو الخطأ، فمثل هذا التفسير البريء يتناقض تماما مع الخبرة العريقة المخضرمة للدبلوماسية المصرية. وفي هذه المفارقة يكمن السبب الرئيسي في تعثر الوساطة المصرية حتى الآن.
لذا لا بد من البحث عن أسباب "الإجماع" الفلسطيني على القبول بالوساطة المصرية، وكذلك الإجماع العربي على أن مصر في وساطتها إنما تمثل العرب كما أكدت القمتان العربيتان الأخيرتان في الكويت وقطر.
والإجماع العربي على تأييد الوساطة المصرية هو بالتأكيد أحد أسباب الإجماع الفلسطيني عليها.
ويتمثل سبب ثاني في أن مصر وإن كانت منحازة إلى الرؤية الأميركية في الموقف من المقاومة من حيث المبدأ، فإنها من الناحية العملية تختلف مع هذه الرؤية، لكي تتعامل مع فصائل المقاومة الفلسطينية المصنفة "إرهابية" أميركيا، فتتوسط بينها وبين الرئاسة الفلسطينية من جهة وبينها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، وهذا هو المدخل الذي جعل هذه الفصائل تغض الطرف عن خلافها السياسي مع الانحياز المصري للرئاسة، وهي الطرف الآخر في الانقسام الفلسطيني، لتقبل بوساطة القاهرة في هذا الخلاف، وهي تدرك تماما أن تعامل القاهرة معها ليس إلا تعاملا تكتيكيا يستهدف جرها إلى عملية السلام أو في الأقل تحييد معارضتها لهذه العملية، بتنسيق ورضا كاملين من "الشركاء" الآخرين في عملية السلام.
وسبب ثالث يتمثل في مصلحة مصرية حيوية تدفع القاهرة إما لاحتكار الوساطة بين الفلسطينيين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم أو لاحتكار دور قيادي لمصر في أي وساطة عربية لا تكون مصرية خالصة، لأنه "لا يوجد أي شريك إقليمي يمكنه أن يستضيف مؤتمرا للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية يستثني مصر" كما قال عماد جاد المحلل السياسي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لكن حتى محللا إسرائيليا مثل مدير قسم الشرق الأوسط في مؤسسة أميركا الجديدة دانييل ليفي قد استنتج مؤخرا بأن "الاحتكار المصري لجهود المصالحة لم يعد مساعدا أو يقود إلى النجاح" ليكتب قائلا إن "مصر تفعل حسنا إن وسعت مجال التفاوض"، مضيفا: "لمصر دور تلعبه، لكنها لا تستطيع أن تكون الوسيط الوحيد". وقد فسر الحرص المصري على احتكار الوساطة بين الفلسطينيين الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد "كاثام هاوس" بلندن عندما كتب يقول: "إذا لم يكن هناك أي دور لمصر في المنطقة، فإن الدعم الذي تحصل عليه من الغرب سينخفض، وبخاصة من الولايات المتحدة الأميركية".
غير أن السبب الرابع هو الأهم، ويتمثل في الجغرافيا السياسية التي تعطي مصر عامل ضغط حاسم على قطاع غزة، حيث تتخندق فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالتالي عامل ضغط على هذه الفصائل التي تجد نفسها حياله أمام خيارين فقط: إما التعاطي معه بإيجابية ولو على مضض لتحييد سلبياته عليها، وإما المواجهة معه وكلفة مواجهة كهذه باهظة لا قدرة لهذه الفصائل عليها.
ولا بد هنا من تسجيل حقيقة أخرى في المعادلة التي تحكم العلاقة بين المقاومة في القطاع وبين مصر، إذ لو لم تكن هذه المقاومة حقيقة مادية راسخة الأقدام على الأرض حيث تتواجد، وحقيقة سياسية ضاربة جذورها عميقا في وجدان شعبها حيثما تواجد خارج القطاع، كما تثبت نتائج الانتخابات السياسية والبلدية والنقابية ونتائج استطلاعات الرأي العام الفلسطيني، سواء تحت الاحتلال أم في الشتات والمنافي، فإن مصر ما كانت ستضطر إلى التعامل معها كأمر واقع كما تفعل الآن خلافا لانحيازها الاستراتيجي المعلن ضدها من حيث المبدأ، وهذه الحقيقة بدورها تجعل عامل الضغط متبادلا، وإن لم يكن حجم الضغط متعادلا، مما يفسر القلق المصري من محاولات إسرائيل تحميل مصر المسؤولية عن القطاع وكذلك من أي إجراءات فلسطينية رئاسية أحادية يمكن أن تقود إلى النتيجة نفسها.
وهنا تكمن مفارقة أخرى في الوساطة المصرية، إذ أن أحد المؤهلات الرئيسية لأي وسيط بين طرفي نزاع هو أن تكون علاقاته مع كلا الطرفين حسنة إن لم تكن ودية، ومن المؤكد أن مطالبة كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة ب"فك الحصار المصري" عن القطاع وممارسة مصر لسيادتها بفتح المعابر المشتركة بمجرد توقيع أي اتفاق للمصالحة واستمرار مصر في رفض ذلك ومنحها الأولوية لالتزاماتها بموجب اتفاقياتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، واتهام حماس لمصر بتضليل مفاوضيها ومحاولة إجبارها على توقيع اتفاق "يتضمن قضايا لم يتم الاتفاق عليها" واستبدال وثيقة الاتفاق المكونة من ثماني صفحات التي تم الاتفاق عليها فعلا بوثيقة جديدة لا علم لحماس بها مسبقا مكونة من (28) صفحة، لتوقيعها (الأهرام ويكلي، المصدر السابق"، ووجود معتقلين للحركة بالعشرات في السجون المصرية أحدهم شقيق قيادي فيها توفي مؤخرا "تحت التعذيب"، كما تقول حماس، واستمرار الجانب المصري مع الخبراء الأميركيين في تفجير أو غلق ما يكتشفه من أنفاق أصبحت هي المتنفس الوحيد للقطاع المحاصر، إلخ .. من المؤكد أن كل ذلك وغيره ليس مظهرا لأي علاقات حسنة.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
(قرار الرئيس الفلسطيني بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية سوف يظل حبرا على ورق إذا لم تنجح الوساطة المصرية في توفير قاعدة توافق وطني تسمح بتطبيقه)
بالرغم من أن الوساطة المصرية في الانقسام الفلسطيني تبدو حاليا متعثرة وكأنما وصلت إلى طريق مسدود ينذر بانهيارها، فإنها "لم تنهر"، كما قال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتتضافر عدة عوامل تجعل من مصلحة جميع الأطراف المشاركة فيها والمعنية بها حريصة على استمرارها ك"عملية" تشير كل الدلائل إلى أنها أصبحت مطلوبة لذاتها، تماما مثل "عملية السلام" الفلسطينية – الإسرائيلية. لكن بينما يجري تسليط الأضواء على الأسباب الفلسطينية في تعثرها الراهن، فإنه يجري حجب الأسباب المصرية لهذا التعثر التي تجعل الوساطة المصرية تحمل في ذاتها الأسباب الرئيسية لعدم نجاحها بعد حوالي سنتين من بدئها.
لذلك فإن قرار الرئيس الفلسطيني بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني / يناير المقبل لن يكون نهاية للوساطة المصرية على الأرجح، وإن كان القرار في حد ذاته يكشف عن توجه نحو إنهائها، لسبب بسيط أساسي هو أن هذا القرار سوف يظل حبرا على ورق إذا لم تنجح الوساطة المصرية في توفير قاعدة توافق وطني تسمح بتطبيقه.
أما الانسياق مع الضغوط الأميركية للذهاب إلى تطبيق قراره جزئيا في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن وسط مقاطعة شعبية واسعة متوقعة ومعارضة لذلك حتى من الفصائل المؤتلفة مع الرئاسة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير، ودون مشاركة القدس في ذلك -- إذ يكاد يكون شبه مؤكد أن حكومة دولة الاحتلال الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو التي لم تسمح لرئيس حكومة سلطة الحكم الذاتي في رام الله سلام فياض باستضافة الدبلوماسيين المعتمدين لدى السلطة على وجبة إفطار رمضانية في المدينة المقدسة المحتلة بالرغم من اتخاذ معظمهم للقدس مقرا لبعثاتهم الدبلوماسية ومن إقامة فياض نفسه فيها فإنها على الأرجح لن تسمح أيضا بمشاركة أهل المدينة من الفلسطينيين في الانتخابات -- فإنها ستكون تخبطا سياسيا يكرر الخطيئة الفلسطينية المميتة التي ارتكبتها الرئاسة الفلسطينية عندما سحبت تقرير غولدستون من اقتراع مجلس حقوق الإنسان على رفعه إلى مجلس الأمن الدولي، استجابة للضغط الأميركي، تخبطا سيوجه ضربة قوية إلى الثقة الشعبية بالرئيس عباس الذي أظهر استطلاع أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال (فلسطيني) في الفترة من (7 – 11) الشهر الجاري أن هذه الثقة قد انخفضت إلى (12.1%) بالمقارنة مع (17.8%) في حزيران / يونيو الماضي.
إن الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي باراك أوباما مع عباس بعد اجتماعه مع وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون عشية إعلان عباس لقراره وعشية الإعلان عن جولة خامسة للمبعوث الرئاسي الأميركي إلى المنطقة، جورج ميتشل، وسط تقارير عن وعود أميركية باستئناف "عملية السلام" قريبا، يعزز اتهامات حماس لعباس بأنه اتخذ قراره استجابة لنصيحة أميركية مرة أخرى، ليلدغ من الجحر الأميركي مرتين خلال شهرين. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن أوباما الذي ضغط على عباس بالضد من قناعاته المعلنة للذهاب إلى قمة نيويورك الثلاثية الأخيرة مع نتنياهو من أجل تسجيل نقطة علاقات عامة لصالحه توقف التدني المتواصل في شعبيته بدوره يعود الآن مرة أخرى إلى بيع وهم السلام للرئاسة الفلسطينية للسبب نفسه، ولذات السبب يستعد الآن لحضور ومخاطبة أكبر تجمع حتى الآن لقادة يهود أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) في التاسع من الشهر المقبل في واشنطن العاصمة، كما أعلن البيت الأبيض يوم الجمعة الماضي، في الوقت الذي تجري المناورات العسكرية الأميركية الإسرائيلية ويعلن أوباما خلالها أن علاقة بلاده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أعمق وأقوى من أي تحالف عسكري، بينما يعلن خافير سولانا ممثل الاتحاد الأوروبي -- العضو الآخر في اللجنة الرباعية الدولية التي تخير بشروطها المعروفة عباس بينها وبين الوحدة الوطنية الفلسطينية – بأن "إسرائيل عضو في الاتحاد الأوروبي" علاقاتها بأعضائه "جزء لا يتجزأ من برامجه" دون أن تكون عضوا في مؤسساته (مؤتمر "مواجهة الغد" في القدس، 20 – 22/10/2009)!
ومما يعزز شبهة استجابة عباس للضغط الأميركي مجددا أنه لم يكن أسير خيار واحد هو "الاستحقاق الدستوري"، بدليل موافقته على تأجيل الموعد المقرر للانتخابات في "الورقة المصرية" لو وقعتها حماس. كما أن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد عندما توقع أن يوصي المجلس المركزي لمنظمة التحرير عباس بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى إنما كان يشير إلى خيار متاح آخر.
لقد أعلن عباس سببين، أو مسوغين، لقراره، أولهما أن تحديد موعد الانتخابات هو استحقاق دستوري لا يستطيع انتهاكه، والثاني أن الوسيط المصري لا يعارض قراره. وكلا المسوغين مطعون فيه، فعباس قد وافق بتوقيع حركة فتح التي يقودها في الخامس عشر من الشهر على "الورقة المصرية" التي تنص على تأجيل هذا "الاستحقاق الدستوري" إلى حزيران / يونيو المقبل. أما الإيحاء بأن مصر موافقة على ذهاب الرئاسة الفلسطينية إلى الانتخابات دون توافق وطني فإنه يتعارض مع الحرص الذي أظهره الوسيط المصري في ورقته على إجراء هذه الانتخابات على أساس الوفاق الفلسطيني، عندما ضمن وثيقته للمصالحة اقتراحا بتأجيل الانتخابات الفلسطينية ستة أشهر عن موعدها المقرر في شهر كانون الأول / يناير المقبل إلى شهر حزيران / يونيو، ولم يكتف بالتوقيع الرسمي لاتفاق المصالحة الذي كان مفترضا أن يتم بحضور شهود عرب ودوليين في السادس والعشرين من الشهر الجاري، بل أراد لهذا الاتفاق أن يأخذ مداه في التطبيق العملي طوال حوالي تسعة أشهر بعد التوقيع لإجراء الانتخابات على قاعدة توافق وطني قوية، معتبرا أن هذا التوافق هو مرجعية أقوى بكثير من المرجعيات القانونية التي اعتادت قيادة منظمة التحرير تطويعها لأغراضها السياسية حتى لم يعد لها أي هيبة قانونية لكثرة تغييرها وتعديلها خلال فترات زمنية قصيرة. وقال دبلوماسي مصري للأهرام ويكلي في عددها الأخير (22 – 28/10/2009) تعليقا على تصريحات عباس إن "موقف مصر ليس معارضا للدعوة إلى الانتخابات، لكننا نعارض انتخابات في الضفة الغربية فقط"، وأن القاهرة "لن تؤيد عباس إن سار في طريق أحادي الجانب" وأن ذلك "قد أبلغ لعباس بوضوح"، مضيفا: "إنه يريد أن يقصي حماس، وهذا أمر يخصه، لكننا لا نستطيع أن نعلق مع غزة، وهذا شيء كنا نقوله له تكرارا، وقد قلناه للأميركيين وللجميع غيرهم. لكنني لست متأكدا إن كان (عباس) يستمع بانتباه جيد". ونقلت الصحيفة عن مسؤولين مصريين قولهم إن التهديد بإجراء الانتخابات في الضفة وحدها سيقود فقط إلى "تعميق الانقسام" مع غزة وبذلك يترك غزة لمصر كي تقلق بشأنها على حدودها الشرقية.
إن وجود مصر والرئاسة الفلسطينية في خندق استراتيجي واحد ملتزم بال"رؤية" الأميركية تجاه "عملية السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي خندق واحد أيضا من حيث المبدأ مع هذه "الرؤية" التي ترفض المقاومة، فلسطينية كانت أم عراقية أم غيرهما، باعتبار هذا الرفض "نبذا للإرهاب"، ووجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من فصائل المقاومة الفلسطينية في الخندق المقابل، هي حقيقة تجعل الوسيط المصري منحازا "سياسيا" إلى الرئاسة في خلافها مع هذه الحركات، مما يجعله منطقيا يفتقد صفة الحياد المطلوبة في أي وسيط، وبالتالي يفقده مؤهلا أساسيا إن لم يكن للتوسط ففي الأقل لامتلاك إمكانية عملية لإنجاح وساطته، وربما بسبب هذا الانحياز أفرغ الوسيط المصري "اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني" المعروف باسم "الورقة المصرية" من أي مضمون وطني أو سياسي، وحولها إلى مجرد اتفاق محاصصة على اقتسام سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، إذ لا يمكن أبدا تفسير إغفال هذا الوسيط لهذا المضمون بالسهو أو الخطأ، فمثل هذا التفسير البريء يتناقض تماما مع الخبرة العريقة المخضرمة للدبلوماسية المصرية. وفي هذه المفارقة يكمن السبب الرئيسي في تعثر الوساطة المصرية حتى الآن.
لذا لا بد من البحث عن أسباب "الإجماع" الفلسطيني على القبول بالوساطة المصرية، وكذلك الإجماع العربي على أن مصر في وساطتها إنما تمثل العرب كما أكدت القمتان العربيتان الأخيرتان في الكويت وقطر.
والإجماع العربي على تأييد الوساطة المصرية هو بالتأكيد أحد أسباب الإجماع الفلسطيني عليها.
ويتمثل سبب ثاني في أن مصر وإن كانت منحازة إلى الرؤية الأميركية في الموقف من المقاومة من حيث المبدأ، فإنها من الناحية العملية تختلف مع هذه الرؤية، لكي تتعامل مع فصائل المقاومة الفلسطينية المصنفة "إرهابية" أميركيا، فتتوسط بينها وبين الرئاسة الفلسطينية من جهة وبينها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، وهذا هو المدخل الذي جعل هذه الفصائل تغض الطرف عن خلافها السياسي مع الانحياز المصري للرئاسة، وهي الطرف الآخر في الانقسام الفلسطيني، لتقبل بوساطة القاهرة في هذا الخلاف، وهي تدرك تماما أن تعامل القاهرة معها ليس إلا تعاملا تكتيكيا يستهدف جرها إلى عملية السلام أو في الأقل تحييد معارضتها لهذه العملية، بتنسيق ورضا كاملين من "الشركاء" الآخرين في عملية السلام.
وسبب ثالث يتمثل في مصلحة مصرية حيوية تدفع القاهرة إما لاحتكار الوساطة بين الفلسطينيين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم أو لاحتكار دور قيادي لمصر في أي وساطة عربية لا تكون مصرية خالصة، لأنه "لا يوجد أي شريك إقليمي يمكنه أن يستضيف مؤتمرا للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية يستثني مصر" كما قال عماد جاد المحلل السياسي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لكن حتى محللا إسرائيليا مثل مدير قسم الشرق الأوسط في مؤسسة أميركا الجديدة دانييل ليفي قد استنتج مؤخرا بأن "الاحتكار المصري لجهود المصالحة لم يعد مساعدا أو يقود إلى النجاح" ليكتب قائلا إن "مصر تفعل حسنا إن وسعت مجال التفاوض"، مضيفا: "لمصر دور تلعبه، لكنها لا تستطيع أن تكون الوسيط الوحيد". وقد فسر الحرص المصري على احتكار الوساطة بين الفلسطينيين الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد "كاثام هاوس" بلندن عندما كتب يقول: "إذا لم يكن هناك أي دور لمصر في المنطقة، فإن الدعم الذي تحصل عليه من الغرب سينخفض، وبخاصة من الولايات المتحدة الأميركية".
غير أن السبب الرابع هو الأهم، ويتمثل في الجغرافيا السياسية التي تعطي مصر عامل ضغط حاسم على قطاع غزة، حيث تتخندق فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالتالي عامل ضغط على هذه الفصائل التي تجد نفسها حياله أمام خيارين فقط: إما التعاطي معه بإيجابية ولو على مضض لتحييد سلبياته عليها، وإما المواجهة معه وكلفة مواجهة كهذه باهظة لا قدرة لهذه الفصائل عليها.
ولا بد هنا من تسجيل حقيقة أخرى في المعادلة التي تحكم العلاقة بين المقاومة في القطاع وبين مصر، إذ لو لم تكن هذه المقاومة حقيقة مادية راسخة الأقدام على الأرض حيث تتواجد، وحقيقة سياسية ضاربة جذورها عميقا في وجدان شعبها حيثما تواجد خارج القطاع، كما تثبت نتائج الانتخابات السياسية والبلدية والنقابية ونتائج استطلاعات الرأي العام الفلسطيني، سواء تحت الاحتلال أم في الشتات والمنافي، فإن مصر ما كانت ستضطر إلى التعامل معها كأمر واقع كما تفعل الآن خلافا لانحيازها الاستراتيجي المعلن ضدها من حيث المبدأ، وهذه الحقيقة بدورها تجعل عامل الضغط متبادلا، وإن لم يكن حجم الضغط متعادلا، مما يفسر القلق المصري من محاولات إسرائيل تحميل مصر المسؤولية عن القطاع وكذلك من أي إجراءات فلسطينية رئاسية أحادية يمكن أن تقود إلى النتيجة نفسها.
وهنا تكمن مفارقة أخرى في الوساطة المصرية، إذ أن أحد المؤهلات الرئيسية لأي وسيط بين طرفي نزاع هو أن تكون علاقاته مع كلا الطرفين حسنة إن لم تكن ودية، ومن المؤكد أن مطالبة كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة ب"فك الحصار المصري" عن القطاع وممارسة مصر لسيادتها بفتح المعابر المشتركة بمجرد توقيع أي اتفاق للمصالحة واستمرار مصر في رفض ذلك ومنحها الأولوية لالتزاماتها بموجب اتفاقياتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، واتهام حماس لمصر بتضليل مفاوضيها ومحاولة إجبارها على توقيع اتفاق "يتضمن قضايا لم يتم الاتفاق عليها" واستبدال وثيقة الاتفاق المكونة من ثماني صفحات التي تم الاتفاق عليها فعلا بوثيقة جديدة لا علم لحماس بها مسبقا مكونة من (28) صفحة، لتوقيعها (الأهرام ويكلي، المصدر السابق"، ووجود معتقلين للحركة بالعشرات في السجون المصرية أحدهم شقيق قيادي فيها توفي مؤخرا "تحت التعذيب"، كما تقول حماس، واستمرار الجانب المصري مع الخبراء الأميركيين في تفجير أو غلق ما يكتشفه من أنفاق أصبحت هي المتنفس الوحيد للقطاع المحاصر، إلخ .. من المؤكد أن كل ذلك وغيره ليس مظهرا لأي علاقات حسنة.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق