انطوني ولسن
(ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. واثناء تجوالي احكي للقارئ حكاية من هنا أوهناك، وأربطها بحكاية أخرى أو حكايات. وان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..)
.. بدأت دولة الشعارات باعلان تنظيم «هيئة التحرير» وكان اول شعار استمعنا اليه (الاتحاد والنظام والعمل). ولا داعي لسرد او تذكر بقية الشعارات التي ما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا.. لاننا على مدى الايام والسنين لم نر اتحاداً ولا نظاماً ولا عملاً.. اذن كانت الشعارات باطلة وما يُبنى على باطل.. باطل هو ايضا.
في ذلك الوقت تطلعت الى الرياضة ومارستها على مختلف انواعها (كرة اقدم، السلة، بناء الأجسام، «الشيش» على ما اتذكر وهو رياضة «المبارزة بالسيف» «العقلة والمتوازيين» و..الخ من العاب الرياضة بما فيهم السباحة). ولكن لم اجد نفسي في اي منهم.
بدأنا ناحوم (وهو احد الزملاء الذين ارتبطنا ليس فقط بزمالة المدرسة والدراسة الثانوية، بل صار ارتباطنا عائليا، وهو شقيق زوجتي، اعود وأقول بدأنا ناحوم وأنا في الاشتراك مع الفرق المسرحية المدرسية. ومن يوم الى يوم ازداد حبنا للمسرح واصبح لنا جمهور. اختار هو الخط الكوميدي (لأنه «ناحوم» يشبه من ناحية الشكل الممثل الكوميدي القدير المرحوم فؤاد المهندس)، واخترت انا الخط الدرامي.. وإن كان المرحوم الاستاذ فرج النحاس قد غير من هذا النمط في احدى المسرحيات التي قام باخراجها لنا ونحن في (مدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا) إلى النمط الكوميدي. واتذكر ان شقيق المرحوم عادل خيري زميلنا في المدرسة واتذكر اسمه نبيل خيري استطاع ان يقنع شقيقه بالاشتراك معنا فوافق وايضا الفنانة القديرة زوزو نبيل، وبدأت صورنا تظهر على الملصقات المعلن بها عن المسرحيات التي نقدمها.
امتزجت القراءة، التي شغفت بها، مع المسرح الذي عشقته، وبدأت أحب كتابة الحوار وتغير بعضا من حوارالمسرحيات التي نقوم بتمثيلها. واكثر من هذا شعرت بعاطفة جيّاشة تجاه التعبير عن مكنون نفسي بالقلم اكثر منه بالفم. وكتبت مسرحية «ميثاق الشيطان» وكان طبيعي ان اخفيها لان عبد الناصر كان قد اصدر كتاب «الميثاق». وكتبت مسرحية اخرى باسم «يوسف الصديق»وقد يأتي الحديث عنها لاحقا.
بدأ خيالي الرومانسي يأخذني بعيدا جدا عن أرض الواقع.. تعلقت بابنة الجيران، التي كانت تقطن في الشارع الذي يلينا عندما كان يعود بها (باص) المدرسة فانتظرها متطلعا من شباك حجرتي (بعد انتقالنا الى شقة ابن عم والدتي صاحب المنزل والتي تقع في الطابق الأول. فقد كانت اكبر وعدد غرفها اكثر وكان لي حجرتي الخاصة بي وحدي) تتلاقى العيون، وتنفرج الشفاه في خجل. دقائق قليلة واكون خارج المنزل في انتظار الجميلة والشغالة، اسبقها في السير الى ان نذهب الى شارع روض الفرج، نسير جنبا الى جنب يتطلع كل منا الى الآخر.
تتحدث العيون وقليلاً ما كانت تتلامس الايدي في تلامس سريع فيوقد في قلبي نارا لم اعرف كنهها في ذلك الوقت، واتصبب عرقا. تنظر اليّ (الشغالة) التي كانت تقاربنا في السن، ولسان حالها يقول لي تجرأ.. تكلم.. وأنا مقتنع وراضٍ بهذا الحب الذي يكفيني منه انني اسير جنبا الى جنب مع مَن كانت تعتبر أجمل بنات الحي.
استمر هذا الحال لفترة ليست بالقصيرة. وذات يوم تجرأت (الشغالة) وقالت لي (ما تتكلم بأه يا سيدي.. ستي جالها عريس).. توقفت عن السير.. أمسكت يدها.. استدارت في اتجاهي.. سألتها عيناي عن صحة ما سمعته من (الشغالة)، اومأت برأسها تؤكد ما سمعته. تركت يدها تسقط من يدي وأخذت اجري دون ما اعرف الى أين انا ذاهب..
بعد أيام قلائل سمعت (زغاريد) الفرح تنطلق من (شقتهم) ورأيت الزينات.. وكانت خطبتها.. ثم زواجها بعد بضعة أشهر.
بعد عام خرجت بعد زيارة اسرتها ومعها مولودها و(الشغالة) نفسها ومرّت امام شباكي.. تطلعت اليّ.. ابتسمت وأشارت إلى المولود.. رفعت يداً مرتعشة.. حركت اصابعي ملوحاً لها..لم استطع الخروج واللحاق بها.. ومنذ ذلك اليوم البعيد لم تقع عيني عليها.. وان كنت ما زلت اتذكرها واتذكر اسمها...
كانت هذه تجربتي الاولى مع حواء.. حب عذري ربط قلبي الصغير مع بنت الجيران والتي كانت في نفس عمري.. لكن البنات "فوارة".. فجاء من اختطفها مني وحرمني من اسعد لحظات يحلم بهامراهق في سني. والتي تمثلت في لغة العيون، التي كانت اقوى وافصح.
في العام التالي عام 1953، كنت في السنة الثالثة الثانوية مدرسة محمد فريد الثانوية. تلك السنة الدراسية كان لها أهمية كبرى بالنسبة للنظام الدراسي الثانوي الذي كان معمولاً به قبل الثورة واستمر حتى عام 1955. انها السنة التي يحدد فيها الطالب مستقبله العلمي. اما ان يستمر او الأفضل له ان يبحث عن عمل. فاذا نجح استطاع ان يحصل في العام الذي يليه على شهادة الثقافة التي هي الفيصل في التخصص في شهادة التوجيهية في العام الدراسي الذي يليها.
في تلك السنة ذاقت شفتاي طعم اول قبلة لي مع حواء، وكانت ايضا مع بنت "الجيران". بدأت بدعوة على الرقص فوق «سطح» احد منازل الشارع في صباح يوم جمعة ونحن نلعب فوق الرمال الموجودة مع اشياء اخرى للبناء. صعدنا مجموعة الشباب والشابات في الحي الى الطابق وبدأنا نلعب ألعابا مختلفة.
فجأة جاءتني وأمسكت بيدي وقالت هيا بنا نرقص. قلت لها لا اعرف كيف أرقص. جذبتني نحوها وأخذت تشرح لي خطوات الرقص بعد أن وضعت كفها في كفي ويدها خلف ظهري ويدي حول خاصرتها.
أتذكر جيدا العرق الذي بدأ يتصبب مني وانا الهث لاتابع خطواتها. اتذكر ايضا عيون الجميع المصوبة علينا وشعوري بالحرج. لكنها كانت جريئة وتكبرني بعامين. لم تهتم واخذنا نرقص ونتحرك بعيداً عن أعين الموجودين الذين التهوا فيما كانوا يفعلون. وخلف حائط كان بيننا، ضممتها اليّ اكثرحتى التصقنا. توقفت عن الرقص وقالت لي (كفى هذا اليوم)، لم اكتفِ بذلك.. وبيد مرتعشة قرّبتها الى صدري وطبعت اول قبلة لي فوق شفتيها. لَكُم أن تتخيلوا اي عام دراسي كان هذا!!
جاءت نهاية العام وظهرت نتيجة الامتحانات، وكان رسوب ما بعده رسوب. رسبت في جميع المواد ما عدا مادة الرسم. اخبرت والدي بأنني رسبت فقط في مادتي اللغة العربية والانجليزية.. دفع لي مصاريف الدروس الخصوصية لهاتين المادتين.. ودفعت من مصروفي الشخصي مصاريف الدروس الخصوصية في بقية المواد مع مساعدات من أمي رحمها الله.
انتهيت من امتحان الملحق الذي كان يعقد بعد شهرين من ظهور نتيجة الامتحان العام. وكنت قد قطعت صلتي بالحبيبة وركزت على دراستي واصراري على النجاح لشعوري بانني خنت والديّ للثقة التي اولياني اياها واعتباري الأبن الأكبر موضع ثقتهما.
وكم هو مؤلم لشاب في ذلك العمر يمر في تجربة مثل تلك التجربة.
في ليلة ظهور نتيجة الملحق رأيت رؤيا.. لا أقول حلما.. بل رؤيا.. رؤيا مقدسة..
(يتبع)
(ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. واثناء تجوالي احكي للقارئ حكاية من هنا أوهناك، وأربطها بحكاية أخرى أو حكايات. وان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..)
.. بدأت دولة الشعارات باعلان تنظيم «هيئة التحرير» وكان اول شعار استمعنا اليه (الاتحاد والنظام والعمل). ولا داعي لسرد او تذكر بقية الشعارات التي ما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا.. لاننا على مدى الايام والسنين لم نر اتحاداً ولا نظاماً ولا عملاً.. اذن كانت الشعارات باطلة وما يُبنى على باطل.. باطل هو ايضا.
في ذلك الوقت تطلعت الى الرياضة ومارستها على مختلف انواعها (كرة اقدم، السلة، بناء الأجسام، «الشيش» على ما اتذكر وهو رياضة «المبارزة بالسيف» «العقلة والمتوازيين» و..الخ من العاب الرياضة بما فيهم السباحة). ولكن لم اجد نفسي في اي منهم.
بدأنا ناحوم (وهو احد الزملاء الذين ارتبطنا ليس فقط بزمالة المدرسة والدراسة الثانوية، بل صار ارتباطنا عائليا، وهو شقيق زوجتي، اعود وأقول بدأنا ناحوم وأنا في الاشتراك مع الفرق المسرحية المدرسية. ومن يوم الى يوم ازداد حبنا للمسرح واصبح لنا جمهور. اختار هو الخط الكوميدي (لأنه «ناحوم» يشبه من ناحية الشكل الممثل الكوميدي القدير المرحوم فؤاد المهندس)، واخترت انا الخط الدرامي.. وإن كان المرحوم الاستاذ فرج النحاس قد غير من هذا النمط في احدى المسرحيات التي قام باخراجها لنا ونحن في (مدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا) إلى النمط الكوميدي. واتذكر ان شقيق المرحوم عادل خيري زميلنا في المدرسة واتذكر اسمه نبيل خيري استطاع ان يقنع شقيقه بالاشتراك معنا فوافق وايضا الفنانة القديرة زوزو نبيل، وبدأت صورنا تظهر على الملصقات المعلن بها عن المسرحيات التي نقدمها.
امتزجت القراءة، التي شغفت بها، مع المسرح الذي عشقته، وبدأت أحب كتابة الحوار وتغير بعضا من حوارالمسرحيات التي نقوم بتمثيلها. واكثر من هذا شعرت بعاطفة جيّاشة تجاه التعبير عن مكنون نفسي بالقلم اكثر منه بالفم. وكتبت مسرحية «ميثاق الشيطان» وكان طبيعي ان اخفيها لان عبد الناصر كان قد اصدر كتاب «الميثاق». وكتبت مسرحية اخرى باسم «يوسف الصديق»وقد يأتي الحديث عنها لاحقا.
بدأ خيالي الرومانسي يأخذني بعيدا جدا عن أرض الواقع.. تعلقت بابنة الجيران، التي كانت تقطن في الشارع الذي يلينا عندما كان يعود بها (باص) المدرسة فانتظرها متطلعا من شباك حجرتي (بعد انتقالنا الى شقة ابن عم والدتي صاحب المنزل والتي تقع في الطابق الأول. فقد كانت اكبر وعدد غرفها اكثر وكان لي حجرتي الخاصة بي وحدي) تتلاقى العيون، وتنفرج الشفاه في خجل. دقائق قليلة واكون خارج المنزل في انتظار الجميلة والشغالة، اسبقها في السير الى ان نذهب الى شارع روض الفرج، نسير جنبا الى جنب يتطلع كل منا الى الآخر.
تتحدث العيون وقليلاً ما كانت تتلامس الايدي في تلامس سريع فيوقد في قلبي نارا لم اعرف كنهها في ذلك الوقت، واتصبب عرقا. تنظر اليّ (الشغالة) التي كانت تقاربنا في السن، ولسان حالها يقول لي تجرأ.. تكلم.. وأنا مقتنع وراضٍ بهذا الحب الذي يكفيني منه انني اسير جنبا الى جنب مع مَن كانت تعتبر أجمل بنات الحي.
استمر هذا الحال لفترة ليست بالقصيرة. وذات يوم تجرأت (الشغالة) وقالت لي (ما تتكلم بأه يا سيدي.. ستي جالها عريس).. توقفت عن السير.. أمسكت يدها.. استدارت في اتجاهي.. سألتها عيناي عن صحة ما سمعته من (الشغالة)، اومأت برأسها تؤكد ما سمعته. تركت يدها تسقط من يدي وأخذت اجري دون ما اعرف الى أين انا ذاهب..
بعد أيام قلائل سمعت (زغاريد) الفرح تنطلق من (شقتهم) ورأيت الزينات.. وكانت خطبتها.. ثم زواجها بعد بضعة أشهر.
بعد عام خرجت بعد زيارة اسرتها ومعها مولودها و(الشغالة) نفسها ومرّت امام شباكي.. تطلعت اليّ.. ابتسمت وأشارت إلى المولود.. رفعت يداً مرتعشة.. حركت اصابعي ملوحاً لها..لم استطع الخروج واللحاق بها.. ومنذ ذلك اليوم البعيد لم تقع عيني عليها.. وان كنت ما زلت اتذكرها واتذكر اسمها...
كانت هذه تجربتي الاولى مع حواء.. حب عذري ربط قلبي الصغير مع بنت الجيران والتي كانت في نفس عمري.. لكن البنات "فوارة".. فجاء من اختطفها مني وحرمني من اسعد لحظات يحلم بهامراهق في سني. والتي تمثلت في لغة العيون، التي كانت اقوى وافصح.
في العام التالي عام 1953، كنت في السنة الثالثة الثانوية مدرسة محمد فريد الثانوية. تلك السنة الدراسية كان لها أهمية كبرى بالنسبة للنظام الدراسي الثانوي الذي كان معمولاً به قبل الثورة واستمر حتى عام 1955. انها السنة التي يحدد فيها الطالب مستقبله العلمي. اما ان يستمر او الأفضل له ان يبحث عن عمل. فاذا نجح استطاع ان يحصل في العام الذي يليه على شهادة الثقافة التي هي الفيصل في التخصص في شهادة التوجيهية في العام الدراسي الذي يليها.
في تلك السنة ذاقت شفتاي طعم اول قبلة لي مع حواء، وكانت ايضا مع بنت "الجيران". بدأت بدعوة على الرقص فوق «سطح» احد منازل الشارع في صباح يوم جمعة ونحن نلعب فوق الرمال الموجودة مع اشياء اخرى للبناء. صعدنا مجموعة الشباب والشابات في الحي الى الطابق وبدأنا نلعب ألعابا مختلفة.
فجأة جاءتني وأمسكت بيدي وقالت هيا بنا نرقص. قلت لها لا اعرف كيف أرقص. جذبتني نحوها وأخذت تشرح لي خطوات الرقص بعد أن وضعت كفها في كفي ويدها خلف ظهري ويدي حول خاصرتها.
أتذكر جيدا العرق الذي بدأ يتصبب مني وانا الهث لاتابع خطواتها. اتذكر ايضا عيون الجميع المصوبة علينا وشعوري بالحرج. لكنها كانت جريئة وتكبرني بعامين. لم تهتم واخذنا نرقص ونتحرك بعيداً عن أعين الموجودين الذين التهوا فيما كانوا يفعلون. وخلف حائط كان بيننا، ضممتها اليّ اكثرحتى التصقنا. توقفت عن الرقص وقالت لي (كفى هذا اليوم)، لم اكتفِ بذلك.. وبيد مرتعشة قرّبتها الى صدري وطبعت اول قبلة لي فوق شفتيها. لَكُم أن تتخيلوا اي عام دراسي كان هذا!!
جاءت نهاية العام وظهرت نتيجة الامتحانات، وكان رسوب ما بعده رسوب. رسبت في جميع المواد ما عدا مادة الرسم. اخبرت والدي بأنني رسبت فقط في مادتي اللغة العربية والانجليزية.. دفع لي مصاريف الدروس الخصوصية لهاتين المادتين.. ودفعت من مصروفي الشخصي مصاريف الدروس الخصوصية في بقية المواد مع مساعدات من أمي رحمها الله.
انتهيت من امتحان الملحق الذي كان يعقد بعد شهرين من ظهور نتيجة الامتحان العام. وكنت قد قطعت صلتي بالحبيبة وركزت على دراستي واصراري على النجاح لشعوري بانني خنت والديّ للثقة التي اولياني اياها واعتباري الأبن الأكبر موضع ثقتهما.
وكم هو مؤلم لشاب في ذلك العمر يمر في تجربة مثل تلك التجربة.
في ليلة ظهور نتيجة الملحق رأيت رؤيا.. لا أقول حلما.. بل رؤيا.. رؤيا مقدسة..
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق