انطوني ولسن
[ذكريات.. العمر اللي فات هي محطة استراحة فكرية انزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الاسترخاء والتجوال في شوارع وحارات ومدن وحدائق حياتي.. واثناء تجوالي أحكي للقاريء حكاية من هنا أو هناك، وأربطها بحكاية أخرى أو حكايات. وان اقتضى الأمر العودة الى قطار الحاضر سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر، الذي سيصبح يوما.. ذكيات.. العمر اللي فات..
دعونا الآن نكمل الحكاية..]
رأيت نفسي متوجها الى المدرسة ولم تكن هي المدرسة.. بل مبنى آخر. لكن في الرؤيا كنت ذاهباً الى المدرسة لمعرفة نتيجة الامتحان. صعدت عدة درجات من السلم المؤدي الى غرفة ناظر المدرسة، وجدت الغرفة مغلقة ولا احد في المدرسة. هبطت الدرج مطأطيء الرأس مكسور الخاطر، حزين البال.. وأنا في منتصف الدرج شعرت برهبة وقشعريرة تسري في بدني وتتملكني. رفعت رأسي ببطء متجها بنظري الى حيث مصدر الرهبة، فإذا بي أرى أمامي الرب يسوع المسيح بلباسه الابيض الناصع واقفاً ممسكا بيده (الفاره) وهي عبارة عن آلة يستخدمها النجارون لحفّ الخشب بالمقدار الذي يرونه. أشار اليّ أن انزل بقية الدرج واتوجه اليه.. أطعت ووقفت قبالته في خشوع بعد أن اذابت ابتسامته الرعشة والرهبة من قلبي، سألني لماذا أنا هنا.. وكانت اجابتي.. للسؤال عن نتيجة الامتحان.. قال لي انني ناجح. في لهفة قلت: حقيقة.. ربت على كتفي وقال: نعم. غمرتني فرحة كبيرة وهممت أن أمشي، لكنه قال لي: خذ هذه معك.. وكانت هذه عبارة عن «قطة» رومية ذات شعر كثيف طويل لونها رمادي ولكنها ميتة، حملتها فوق ساعدي شكرته بانحناءة من رأسي وأنا انظر اليه فرحاً شاكراً له حنانه وحبه حتى خرجت خارج المدرسة حاملاً تلك القطة الميتة وأنا في طريقي عائداً الى المنزل.
على مسافة قريبة من المنزل، رأيت كلبا ضخما (جيرمن شيبرد) متجها اليّ بشراسة وحش كاسر. وكانت المفاجئة دبت الحياة في القطة الميتة التي احملها فوق ساعدي وقفزت مطاردة ذلك الكلب المتوحش الذي جرى امامها خائفا. ووجدت نفسي جالساً القرفصاء فوق سريري ولم أنم تلك الليلة.
ظهرت نتيجة الأمتحان في اليوم التالي ونجحت في كل المواد التي امتحنت بها وحصلت على 48 درجة من 50 في كل المواد. وتعلمت درساً قوياً حفظته في علاقتي مع حواء.
تعود بي ذاكرتي الى تلك الأيام التي مرت بنا دون أن نجد خبز يومنا، مهما صور قلم الكتاب والمفكرين حالة الفقر والعوز والحاجة فانهم جميعا لا يصلون الى الحقيقة المؤلمة المبكية.
والدي (رحمه الله) تاجر أقمشة (مني فاتورة) له محل في العمارة رقم 131 شارع شبرا. اشتهر بالأمانة واكتسب ثقة الزبائن وتجار الجملة. اتذكر جيداً انه في كثير من الاحيان يعطيني قائمة (بالبضاعة) التي يريدها لأحملها الى الحاج محمد ميت كيس (رحمه الله) وهو من كبار تجار المني فاتورة في (الحمزاوي) بشارع الأزهر. تقريباً بدأ كلاهما تجارته في وقت واحد.. فكنت اذهب بالقائمة وأعطيها له، فيأمر بأعداد ما بالقائمة من بضاعة اذا كانت عنده أو يرسل في احضارها من تجار آخرين.. توضع البضاعة فوق عربة (كارو كبيرة) واعود بالبضاعة الى محل أبي.
في بداية عام 1954 اعلن احد أقاربنا افلاسه، وكان والدي ضامناً له في تجارته المماثلة لتجارة أبي في مبلغ كبير من المال. ضاقت الدنيا في عين أبي، لم يفكر في اولاده التسعة منهم طفلة لم تتعدَّ شهور قليلة.. لم يفكر في ابنه الأكبر الذي بث فيه حب الدراسة وهو على اعتاب «التوجيهية» اي السنة النهائية لمرحلة الدراسة الثانوية والقسم العلمي.
توقفت الدنيا عن الدوران.. وتوقف أبي عن التجارة.. حاول معه المرحوم الحاج محمد ميت كيس اقناعه بالعودة الى التجارة وما حدث لن يؤثر على تعامل والدي.. لكن باءت محاولاته بالفشل.. وفعل نفس الشيء تاجر جملة يهودي. لكن ابي كان لا يسمع ولا يرى ولا يفكر.
بدأنا نحس بالم الجوع بعد ان باعت امي مجوهراتها وحليها الذهبية. كانت تعطيني لأبيع وأشتري الخبز.. لأبي اموال عند الزبائن.. والتجارة دولاب دوَّار.. خذ وهات.. فإذا توقف الدولاب عن الدوران لن تجد من يدفع حتى لو كان ما يدفعه دين عليه.
اتذكر جيدا والصورة الآن، وأنا اكتب، متجسمة أمام عينيّ، ذهبنا أبي وأنا الى احد المنازل في حي (خمارويه) في شبرا، وجدنا باب الشقة التي نحن بصددها، مفتوحا على مصراعيه.. رجال يحملون «فرش» المنزل ويخرجون به. توقف أبي عن الحركة. تسمرت قدماه في الأرض. جاءه صاحب المنزل منكسر الخاطر يشكو لأبي قسوة الحياة واضطراره لبيع «فرش» المنزل من أجل لقمة العيش. ولأول مرة أرى الدمع ينزل من عينيّ أبي. بعد ان كفكف دموعه، نظر الى الرجل والى زوجته التي لحقت به وقال لهما.. يعينكما الله وهو القادر على اعانتنا أيضا.
بدأت الأزمة تنفرج في أواخر عام 1955. نجحت في شهادة التوجيهية، ونجحت في اول امتحان يعقده ديوان الموظفين في العام نفسه وكان ترتيبي بالنسبة للناجحين الحادي عشر من المجموع البالغ الفين. العشرة الأوائل التحقوا للعمل بوزارة الخارجية، وكنت على قائمة من التحقوا للعمل بوزارة الداخلية في مصلحة تحقيق الشخصية تمهيداً لالحاقنا في قسم البطاقات الشخصية الذي كان مزمعا العمل به.
استلمت اول عمل لي يوم الاثنين الموافق 21 نوفمبر 1955 بمصلحة تحقيق الشخصية التابعة لوزارة الداخلية، على قوة قسم البطاقات الشخصية الذي سيبدأ العمل به في اوائل العام المقبل 1956.
المرحلة الانتقالية كان يجب علينا ان نعمل ونتدرب على اعمال المصلحة التي منها الكشف عن سوابق من لهم احكام جنائية ومن ليس لهم اي احكام جنائية واثبات ذلك على صحيفة السوابق المقدمة من المواطنين، لتقديمها الى الجهات الرسمية لاثبات عدم ارتكاب مقدم الطلب اي جريمة.
الوظيفة في حد ذاتها بسيطة، لكن مسؤوليتها كبيرة والتدريب عليها يحتاج لوقت ومهارة خاصة لا بد وان يتميز بها الموظف. يتم البحث بطريقتين، الاولى «الطريقة الابجدية» اي بالاسم، والثانية «البحث الفني»، وقد تم تدريبنا فنياً لمعرفة اسماء ورموز جميع انواع بصمات الاصابع. والمعروف ان بصمات كل انسان تختلف عن الآخر، بل ان بصمة كل اصبع في اليد الواحدة تختلف عن الأخرى. ولكل مجموعة من البصمات لها شكل واسم واعداد وارقام تتميز بها، ولكن لا يمكن ان التطابق التام بين بصمات انسان ببصمات انسان آخر حتى لو كان لها نفس الشكل او اشتركت في نفس الاسم لكنها ستختلف حتما في العدد او الأرقام.
حدث ان بحثت صحيفة سوابق ووجدت الاصابع التسعة متشابهة اما الاصبع العاشر، وكان ابهام اليد اليسرى، مختلفا اختلافا كليا، مما حدى برئيسي المباشر الاستاذ نصيف «مازلت اتذكر اسمه» يأخذ الطلب ويقدمه للدكتور زكي مدير عام المصلحة في ذلك الوقت للتأكد بنفسه.
بعد فترة ارسل الدكتور زكي في طلبي.. عندما دخلت مكتبه قام الرجل واقفا مرحبا مادا يده مصافحا، ثم ابتعد عن كرسيه وطلب مني ان اجلس فوق الكرسي اخذا مكانه. كان من الطبيعي ان اتردد.. لكنه أصر وأخذني من يدي وأجلسني فوق الكرسي قائلاً:
- هذا ليس كرسي خاص بانسان ما، انما هو كرسي خاص لكل انسان مجتهد ومحب لعمله ومخلص له. أنا كما تراني وصلت الى ما وصلت اليه بجهدي وعملي ودراستي.. ولقد اثبت يا ابني في خلال فترة وجيزة من التحاقك بالعمل معنا ان لديك هذا الاستعداد. لذا اهنئك على المجهود الذي قمت به في البحث عن صحيفة السوابق هذه. وأحب ان اؤكد لك انها اخذت مني شخصيا وقتا للتأكد من صحة اختلاف الأصبع العاشر. واتمنى ان تستمر في العمل معنا بالمصلحة وعدم الالتحاق بقسم البطاقات التابع لنا.
لكم ان تتخيلوا هذا الموقف ورد فعله في نفسي.. أحببت العمل جدا.. بذلت جهداً اكثر.. قدمت طلب تثبيت عملي بالمصلحة وعدم الحاقي بقسم البطاقات كما كان مقدرا منذ نجاحي في ديوان الموظفين.
مرت ثلاثة اشهر وانا سعيد بعملي.. وكذلك رئيسي المباشر الاستاذ نصيف الذي كان يعلمني اسرار العمل ودقته بطريقة محببة غير منفرة. مع كل ذلك حدث ما لم يكن في الحسبان.
بعد ان انتهيت من مراجعة عملي ابجدياَ وفنياَ، اقول حدث ان وضعت كل الطلبات التي سأضع عليها ختم «ليس له سوابق» فوق بعضها تمهيدا لختم كل صحيفة سوابق على حدة. جاء الاستاذ نصيف وامسك بالطلبات وكان على رأسهم طلب مقدم من امرأة. ترك الاستاذ نصيف بقية الطلبات وامسك بذلك الطلب وقال لي «هل كشفت عن صحيفة السوابق هذه».. اجبته بالإيجاب وقلت له بكل ثقة.. نعم بالأبجدي والفني ايضا. نظر إليّ وهزّ رأسه قائلا لا أظن ذلك.. احضر لي «الباكت» بالابجدي اسرعت واحضرت له ما طلب.. في ثوان معدودات أخرج قسيمتها وعليها عقوبة جريمة بغاء كان قد تم القبض عليها متلبسة في حي روض الفرج.. بمقارنة الأصابع تطابقت مع اصابعها. اذن الاسم هو الاسم.. وبصمات الأصابع فنيا نفس البصمات. وقفت كالأبله فاغرا فاهي غير قادر لا على النطق او الحركة. ابتسم الاستاذ نصيف ابتسامة صغيرة محاولاً تشجيعي وقال «كلنا وقعنا في الخطأ ذاته في بداية عملنا. لكن مع اكتساب الخبرات ستعرف مجرد النظر الى عين مقدم الطلب في صورته ستستطيع ان تحدد ما اذا كان الشخص قد ارتكب سابقة ام لا. لانها بالفعل ستظهر عند التقاط المصور صورته. وهذا ما حدث عندما نظرت الى صورة صاحبة هذا الطلب.
امسكت «الباكت» ووجدت السابقة او الجريمة بالاسم بالفعل. تركت الاستاذ نصيف واسرعت باحضار «الباكت» الفني وبحثت فيه، فوجدت ايضا سابقتها ضمن «الباكت» الفني.
توجهت الى مكتبي واخرجت ورقة بيضاء واخذت اسطر عليها طلب اعادة الحاقي بقسم البطاقات الشخصية كما كان مقررا منذ تعييني بوزارة الداخلية.
(يتبع)
الأربعاء، أكتوبر 28، 2009
ذكريات.. العمر اللي فات: اولا: في مصر 4
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق