عمر أمين مصالحة
تعتبر الملكية على مساحة الأرض الواقعة بين وادي الأردن والبحر الأبيض المتوسط، أصعب وأعقد الأمور في الصراع العربي- الفلسطيني الإسرائيلي. وقد أصبح الأمر يشغل بال العالم بأسره، قرناً ونيف من الزمن، كما سخرت المرجعيات الدينية والسياسية معًا، لتبرير الملكية على الأرض. إن الهدف من هذه الدراسة، هو إعطاء القارىء العربي لمحة قصيرة عن الجذور والمرجعيات اليهودية، فيما يتعلق بالأرض، مستنداً إلى التوراة اليهودية، والأدبيات الدينية اليهودية الأخرى . تعرف هذه الأرض في العقيدة اليهودية كأرض إسرائيل أو "ارض الميعاد"، وتردد التوراة، في مصادر عديدة الوعد الإلهي على أن الأرض (المساحة: الواقعة بين وادي الأردن والبحر الأبيض المتوسط) قد أعطيت لبني إسرائيل بوعد رباني. وقد أتت لفظة "أرض الميعاد" من هذا الوعد الإلهي، وكما ورد في قول ملاك الرب لسيدنا إبراهيم في سفر التكوين، الاصحاح الثاني عشر: " وقالَ الرّبُّ لأبرامَ: "إرحَلْ مِنْ أرضِكَ وعَشيرَتِكَ وبَيتِ أبيكَ إلى الأرضِ التي أُريكَ، 2. فأجعَلَكَ أُمَّةً عظيمةً وأُبارِكَكَ وأُعَظِّمَ اَسمَكَ وتكونَ بَركَةً، 3. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ وأَلعنُ لاعنيكَ، ويتَبارَكُ بِكَ جميعُ عَشائِرِ الأرضِ".4. فرَحلَ أبرامُ، كما قالَ لَه الرّبُّ، وذهَبَ معَهُ لُوطٌ. وكانَ أبرامُ اَبنَ خمْسٍ وسَبْعينَ سنَةً لمَّا خرَج مِنْ حارانَ. 5. وأخذَ أبرامُ سارايَ اَمْرأتَهُ ولُوطًا اَبنَ أخيهِ، وكُلَ ما كانَ يَمتَلكُهُ، هوَ ولُوطَ، والعبيدُ الذينَ حَصَلا علَيهِم في حارانَ. وخرَجوا جميعًا قاصِدينَ أرضَ كنعانَ. فلمَّا وصلوا إلى أرض كنعانَ 6. اَجتازَ أبرامُ في الأرضِ إلى بَلّوطَةِ مُورةَ في شَكيمَ، عِندَما كانَ الكنعانيُّونَ في الأرضِ" . وتكرر الوعد في سفر التكوين، الاصحاح الخامس عشر، على النحو التالي: " وبعدَ ذلِكَ ترَاءَى الرّبُّ لأبرامَ وقالَ لَه: "لا تَخفْ يا أبرامُ. أنا تُرسٌ لكَ، وأجرُكَ عِندي عظيمٌ جدُا". 2. فقالَ أبرامُ: "يا سيِّدي الرّبُّ ما نَفْعُ ما تُعطيني وأنا سأموتُ عقيمًا، ووارثُ بَيتي هوَ أليعازَرُ الدِّمَشقيُّ!" 3. وقالَ أبرامُ أيضًا: "ما رزَقْتني نسلاً، وربيبُ بَيتي هوَ الذي يَرثُني". 4. فقالَ لَه الرّبُّ: "لا يَرِثُكَ أليعازَرُ، بل مَنْ يخرُج مِنْ صُلبِكَ هوَ الذي يَرِثُكَ". 5. وقادَهُ إلى خارج، وقالَ لهُ: " أنظُرْ إلى السَّماءِ وعُدَ النُّجومَ إنْ قَدِرْتَ أنْ تَعُدَّها". وقالَ لهُ: "هكذا يكونُ نسلُكَ". 6. فآمَنَ أبرامُ بالرّبِّ، فبَرَّرهُ الرّبُّ لإيمانِهِ. 7. وقالَ لَه الرّبُّ: " أنا الرّبُّ الذي أخرجكَ مِنْ أُورِ الكَلدانيِّينَ لأعطيَكَ هذِهِ الأرضَ مِيراثًا لكَ" . تعتبر هذه الحدود من الارض، والتي وعد الرب لأبراهيم، أوسع الحدود التي نصت عليها التوراة، وتحدد هذه المساحة قطعة الأرض الممتدة تقريبا من: غزة في الجنوب الغربي إلى نهر الفرات. يظهر في بعض نصوص التوراة أن الأرض التي حددت في الميثاق- الوعد، صغيرة جدا. ففي سفر التكوين، الاصحاح السابع عشر، اقتصرت حدود أرض الميعاد على منطقة الكنعانيين الذين عاش وتجول سيدنا إبراهيم في وسطهم، فذكر: "وأقيم عهدي الأبدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك جيلا بعد جيل، فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك . وأهبك أنت وذريتك من بعدك جميع أرض كنعان التي نزلت فيها غريبا ملكا أبديا وأكون لهم إلها". ذكر في التوراة بشكل واضح، وبدون تحديد، أن ذرية سيدنا ابراهيم سترث الارض، كما ورد زواج سيدنا ابراهيم من سارة وولادة سيدنا إسحق وزواجه من أمنا هاجر وولادة الإبن اسماعيل وزواجه من أمرأة ثالثة كان اسمها قطوره: " وعادَ إبراهيمُ فأخذَ زوجةً اَسمُها قطورةُ، 2. فولدَت لَه زِمرانَ ويَقشانَ ومَدانَ ومِديانَ ويِشباقَ وشُوحًا. 3. وولَدَ يقشانُ شَبا وددانَ، وبنو ددانَ هُم أشُّوريمُ ولطوشيمُ ولأُمِّيمُ، 4. وبَنو مديانَ هُم عيفةُ وعِفرُ وحنوكُ وأبيداعُ وألْدعةُ. جميعُ هؤلاءِ بنو قطورةَ. 5. ووَهبَ إبراهيمُ لإسحَقَ جميعَ ما يَملِكُهُ، 6. وأمَّا بَنو سراريهِ فأعطاهُم عطايا وصرفَهُم، وهوَ بَعدُ حيًّ، عَنْ إسحَقَ اَبنهِ إلى أرضِ المَشرِقِ".(التكوين، الاصحاح الخامس والعشرون، آية: 1-6) ورد في التوراة في كتاب التكوين، الاصحاح السابع عشر بصورة واضحة وصريحة عن إرث الارض لنسل سيدنا ابراهيم "وأقيم عهدي الأبدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك جيلا بعد جيل، فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك . وأهبك أنت وذريتك من بعدك جميع أرض كنعان التي نزلت فيها غريبا ملكا أبديا وأكون لهم إلها" في السياق الشرعي للتوريث: هل ابناء سيدنا ابراهيم من أمنا هاجر وقطوره خارج الشرع، والشريعة في التوريث؟ وقد ورد ذكرهم في التوراة. ذكر في التوراة أن ذرية إبراهيم، لم تستطع التمتع بالوعد في الارض عدة قرون، لأنهم نزلوا إلى ارض مصر خلال المجاعة الفظيعة التي إجتاحت البلاد في عهد سيدنا يعقوب، وبقي بنو اسرائيل في مصر حتى بعد نهاية فترة المجاعة والقحل، وفي النهاية دخلوا في العبودية حسب النصوص التوراتية، ولم يستطع بنو اسرائيل الرجوع إلا بعد أربعة قرون، بعدما حررهم الله من عبودية الفراعنة، من خلال نبي الله موسى عليه السلام، الذي أخرجهم من أرض مصر وقادهم إلى حدود أرض كنعان من جهة الشرق، قرب وادي الأردن، وقد أكمل مسيرة القيادة لبني اسرائيل، من بعد موسى عليه السلام، يوشع بن- نون، الذي قام بغزو مساحة محددة من الأرض المذكورة من الشعوب التي سكنت البلاد. وفي هذه الفترة تقريبا، تغيرت تسمية الأرض في التوراة، من أرض كنعان إلى أرض إسرائيل. ترتكز النظرة التوراتية في أساسها، على الفكرة بأن الأرض، في الحقيقة، ملك إلهي، وليست ملكا لشعب واحد معين. وبحسب سفر يشوع، الاصحاح الثالث والعشرون، لم ينجح بنو إسرائيل في غزو الأرض لأن الله أراد ذلك :" وأنتُم رأيتُم جميعَ ما فعَلَ الرّبُّ إلهُكُم بِكُلِّ تِلكَ الأمَمِ مِنْ أجلِكُم، لأنَّ الرّبَّ إلهَكُم هوَ المُحارِبُ عَنكُم. 4. اَنظُروا. قسَمتُ لكُم أرضَ الأُمَمِ الباقيةِ حِصَصًا لأسباطِكُم بِالقرعَةِ، هذا فَضلاً عَنْ أراضي الأمَمِ الذينَ أبَدتُهُم، مِنَ الأردُنِّ شرقًا إلى البحرِ المُتوسطِ غربًا.5. والرّبُّ إلهُكُم هوَ الذي يَهزِمُهُم ويَطرُدُهُم مِنْ أمامِكُم، وتَملِكونَ أرضَهُم كما قالَ لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم. 6.فتَشدَّدوا في أنْ تَحفَظوا جميعَ ما هوَ مكتوبٌ في كتابِ شريعةِ موسى وتَعمَلوا بهِ ولا تَحيدوا عَنهُ يَمينًا ولا شَمالاً. 7. ولا تَختَلِطوا بهذِهِ الأمَمِ الباقيةِ معَكُم، لا تَذكُروا اَسمَ آلِهَتِهِم ولا تَحلِفوا بِها ولا تَعبُدوها ولا تَسجدوا لها، 8. بل بالرّبِّ إلهِكُم تَتمَسَّكون كما فَعلتُم إلى هذا اليومِ. 9. والرّبُّ إلهُكُم طرَدَ مِنْ أمامِكُم أُمَمًا عظيمةً قويَّةً ولم يَصمُدْ أمامَكُم أحدٌ إلى هذا اليومِ". إن الله هو المالك للعالم بأسره يهب أجزاء لمن يشاء، وهو الذي وهب أرض كنعان إلى سيدنا ايراهيم والى نسله من بعده بشرط الطاعة وعدم الشرك بالله، فيمكن أن ينتج عن عدم طاعة الله سحب الوعود الإلهية وبالتالي فإن ذلك قد يتسبب في هلاك إسرائيل وحتى في ضياع الأرض. ورد على لسان أنبياء اسرائيل في كتب العهد القديم، إمكانية وقوع الهلاك لبني إسرائيل وإبطال الوعد عن أرض إسرائيل، وذلك بسبب المعاصي والذنوب التي اقترفها اليهود. ذكر في سفر أرميا، الاصحاح الثاني، بهذا الخصوص:" كعارِ السَّارِقِ حينَ يُمسَكُ، كذلِكَ عارُ بَيتِ إِسرائيلَ، هُم ومُلوكُهُم ورُؤساؤُهُم وكَهنَتُهُم وأنبياؤُهُم. 27. هُم يقولونَ لِلخشَبِ أنتَ أبي ولِلحجرِ أنتَ ولَدْتَني، وهُم يُديرونَ لي ظُهورَهُم، وفي وقت الضِّيقِ يقولونَ قُمْ خلِّصْنا. 28. فأينَ الآلِهَةُ التي صَنَعتُمُوها لَكُم يا بَني يَهوذا، وهُمْ على عدَدِ مُدُنِكم، فليقوموا لإنقاذِكُم في الزَّمنِ الرَّديءِ، 29. لِماذا تُخاصِمونَني؟ كُلُّكُم عصَيتُموني، يقولُ الرّبُّ. 30. عبَثًا ضرَبْتُ بَنيكُم، فهُم لا يَقبَلونَ التَّأديبَ. أكَلَ سَيفُكُم أنبياءَكُم كالأسَدِ المُفتَرِسِ.31. أيُّها الجيلُ اَسمَعوا كَلِمَتي: هل كُنتُ قَفْرًا لإسرائيلَ أو أرضَ ظَلامِ دامسٍ؟ فما بالُ شعبي يقولونَ: تحَرَّرْنا فلا نعودُ إليكَ؟ 32. أتَنسى الصَّبيَّةُ حِليَتَها والعروسُ جهازَها؟ أمَّا شعبي فنَسيني أيّامًا لا تُحصَى. 33."كم تُحسِنينَ فُنونَ الحُبِّ، فتُعَلِّمينَ الفاجراتِ، 34. وعلى أذيالِكِ دَمُ المَساكينِ والأبرياءِ، لا دَمُ الذينَ تَجدينَهُم ويَنقُبونَ ويسِرقونَ ومعَ كُلِّ هذا الذي تَفعَلينَهُ، 35. تقولينَ: أنا بَريئةٌ وغضَبُ الرّبِّ يَرتَدُّ عنِّي». لكِنِّي أنا الرّبُّ سَأُحاكِمُكِ على قولِكِ لم أَخطأْ. 36. يا لِخفَّتِكِ في تَبديلِ سياسَتِكِ! مِنْ مِصْرَ سيلحَقُكِ الخزْيُ كما لَحِقَكَ الخزْيُ مِنْ أشُّورَ. 37. فَمِنْ مِصْرَ تخرُجينَ مُستَسلِمَةً ويَداكِ مَرفوعَتانِ على رأسِكِ لأنَّ الرّبَّ رفَضَ مَنْ تَتَّكِلينَ علَيهِم، فهُم لا خيرَ فيهِم".
كما ذكر على لسان النبي أرميا في الاصحاح التاسع والعشرون، حثه وطلبه من اليهود الذين تركوا البلاد واستقروا في بابل، بهذه الكلمات:" هذا نَصُّ الكتابِ الذي أرسلَهُ إرميا النَّبيُّ مِنْ أُورُشليمَ إلى بَقيَّةِ الشُّيوخ في السَّبْي، وإلى الكهنَةِ والأنبياءِ وعُمومِ الذينَ سَباهُم نَبوخذنَصَّرُ مِنْ أُورُشليمَ إلى بابِلَ، 2. بَعدَ أنْ خرَج يكُنيا المَلِكُ والمَلِكَةُ والخصيانُ ورُؤساءُ يَهوذا وأُورُشليمَ والنَّجارونَ والحَدَّادونَ مِنْ أُورُشليمَ. 3. كانَ ذلِكَ على يَدِ ألعاسةَ بنِ شافانَ وجمَرْيا بنِ حَلْقيَّا اللَّذينَ أوفَدَهُما صِدقيَّا مَلِكُ يَهوذا إلى نبوخذنَصَّرَ مَلِكِ بابِلَ، وفيهِ يقولُ: 4."قالَ الرّبُّ القديرُ إلهُ إِسرائيلَ لِكُلِّ الذينَ سَبَيتُهُم مِنْ أُورُشليمَ إلى بابِلَ: 5. إبنوا بُيوتًا واَسكُنوا واغرُسوا بساتينَ وكُلوا مِنْ ثمَرِها.6. تَزَوَّجوا ولِدوا بَنينَ وبَناتٍ وزَوِّجوا بَنيكُم وبَناتِكُم لِيَلِدوا بَنينَ وبَناتٍ، وأكثِروا هُناكَ ولا تَقِلُّوا. 7. إعمَلوا لِخيرِ المدينةِ التي سبَيتُكُم إليها، وصلُّوا مِنْ أجلِها. ففي خيرِها خيرُكُم". ما يمكن إستنتاجه من هذا النص، أن ليس هناك تحديد للفترة الزمنية لعودة إسرائيل إلى البلاد، ويمكن أن يفهم بأن العودة قد تتم في أي وقت. بعد خراب الهيكل في القدس سنة 70، وبعد إخماد ثورة القائد اليهودي "باركوخبا"، ستين عاماً بعد خراب المعبد، بقي الناجيين من اليهود في بابل، ينتظرون العودة للبلاد من خلال الوحي الإلهي. وقد تم تفسير انتظار اليهود حتى مشيئة الوعد الرباني، وقد تجسد قدوم المنقذ " الماشيح" فذكر الامر في كتاب "المشنا" الذي اكتمل إعداده سنة 200 ميلادي .
يمكن التساؤل: لماذا ، إذاً، لم يحاول اليهود، العودة إلى " أرض الميعاد" خلال كل تلك القرون من النفي؟ لماذا لم تبدأ الحركة الصهيونية إلا في نهاية القرن التاسع عشر تحت تأثير القومية والاستعمار الأوروبي الحديث؟ وبما أن الارتباطات اليهودية مع الأرض قوية ومتغلغلة في الأعماق فلماذا لم نشاهد محاولات سابقة للمطالبة بها؟ توصل بعض حاخامات التلمود إلى نتيجة مفادها منع اليهود من محاولة القيام بإعادة أنفسهم إلى أرض إسرائيل، وقد أصبح الأمر تقليدا يهوديا، وقانونا تشريعياً، يحث اليهود في انتظار العودة النهائية التي تنبأ بها أنبياء التوراة والعهد القديم . لقد أصبح النص التلمودي الذي حرره الحاخام يهودا هنسي مرجعية تشريعية تسيير حياة المجتمع والفرد اليهودي، وعلى أساسه:"حرم على اليهود محاولة العودة الى البلاد بالقوة لاحتلالها، وحرمت عليهم العودة إلى البلاد بشكل جماعي، وعليهم الانتظار حتى يأمر الله بعودة شعب إسرائيل إلى أرض إسرائيل بالإرادة الإلهية. في المقابل هنالك نصوص تلمودية تشجع السكن والعيش في ارض اسرائيل. يعتبر أعضاء مجموعة "نطوري كارتا" أي (نواطير المدينة) ان اليهودي يكتسب هويته من خلال اداءه للشعائر الدينية فقط، وفيما يخص علاقة اليهودي بأرض الميعاد، يؤكد نواطير المدينة أن اليهودي المتدين يتجه بعواطفه وقلبه لهذه الأرض "صهيون" أو "إيرتس يسرائيل"، او ارض الميعاد المقدسة، وخصوصا مدينة القدس، فهم يذكرونها في صلواتهم عدة مرات كل يوم. وقد كرر اليهود هذه الصلوات آلاف السنين، ولكن هذه الصلوات لا علاقة لها بفكرة العودة اليهودية الى ارض اسرائيل، فنفي اليهود من ارض الميعاد هو من الأوامر الربانية، التي لا يمكن مخالفتها او التمرد عليها، ولذا لا يملك اليهودي المتدين إلا أن يستمر في صلواته إلى أن يستجيب الرب لدعائه ويأمر بعودة اليهود إلى ارض الميعاد. ان "الماشيح" المنتظر هو وحده القادر على إعادة اليهود الى ارض اسرائيل، وحين يعودون سيؤسسون مملكة الكهنة والقديسين، اما ما حدث في العام 1948 واقامة دولة اسرائيل، نتيجة الفكر الصهيوني العلماني، فهي محاولة للتعجيل بالنهاية "دحيكات هاكتس" ويدعي اليهود المتزمتين(الحاريدم) ان العودة بقوة السلاح، دون انتظار مشيئة الله، أمر مخالف للشعائر الدينية ولذا، فدولة اسرائيل في نظر جماعة "نطوري كارتا" ثمرة الغطرسة الآثمة، لانها قامت على يد نفر من الكافرين الذين تمردوا على مشيئة الرب، وهي خيانة للشعب اليهودي الذي تأسس كجماعة دينية في سيناء لا في ارض الميعاد. وتذهب ادبيات نواطير المدينة الى اكثر من هذا، اذ يوجهون الاتهام للحركة الصهيونية بانها حركة معادية لليهود، فدولة اسرائيل تدعي انها دولة كل اليهود، وان اليهودي يتوجه بولائه للدولة اليهودية وحدها وليس للدول التي يعيشون فيها، وبالتالي فهي تخلق لليهود مشكلة ازدواج الولاء وتدعم الاتهامات المعادية لليهود.(مصالحه، 2005)
نجحت جماعة نواطير المدينة في الإفلات من الفكر الصهيوني، لانها سلكت مسلك التوحيد، داخل العقيدة اليهودية بدل المسلك الحلولي الذ يضع اليهود وحدهم مركز اهتمام الله، وتمسكت بالفكر الحاخامي الذي يطالب في تنفيذ الإرادة الإلهية.
1. فعلى سبيل المثال، فصلت اليهودية الحاخامية العقيدة اليهودية عن الارض المقدسة، وهو ما يعني عدم حلول الاله في ارض اسرائيل، فهو مفارق للعالم.
2. تمسكت اليهودية الحاخامية بمسالة ان اختيار اليهود امر منوط بتنفيذهم الشريعة، وهو ما يعني ان الذات اليهودية لم تعد مقدسمة من خلال الوراثة، وانما تكتسب القداسة من خلال ما يقوم به اليهودي من افعال اخلاقية.
3. جعلت اليهودية الحاخامية العودة (وتأسيس الدولة) مسالة منوطة بالأمر الإلهي ولا دخل للبشر فيها.
أصر نواطير المدينة على هذه العناصر كلها، وهو ما يعني انهم يؤمنون بفصل الخالق عن المخلوق، كما أكدوا عنصر الإنسانية المشتركة بين اليهود والأغيار، وهو عنصر موجود في التلمود وان كانت بعض التفسيرات تعتمد إغفاله. وتمسك نواطير المدينة بالطبقة التوحيدية هو الذي عصمهم من السقوط في الوثنية العلمانية، أي الترجمة الحديثة للطبقة الحلولية التقليدية.
تعتبر جماعة نواطير المدينة جماعة دولية تضم اليهود المتدينين في الولايات المتحدة وفي كل أنحاء العالم الذين يعارضون الفكر الإستيطاني الصهيوني على فلسطين .
يلاحظ أنه في عهد الأمورائيم الذين عاشوا في القرن الثالث والرابع الميلادي، فوارق طفيفة بالأحكام المتعلقة بالسكن في (ارض اسرائيل) مقارنة بفترة "التنائيم"، نتيجة الاحداث التي وقعت في تلك الفترة. كما وهنالك تباين بين مواقف حاخامات الأمورائيم الذين سكنوا البلاد والحاخامات الذين عاشوا في بابل. يمكن الإيجاز والقول: أن الوعد التوراتي بأرض إسرائيل لبني اسرائيل، ما جاء ليأخذ المعنى المجازي، كما وأن استمرار ملكية الأرض على الدوام ليس هو المقصود. بل المقصود وحسب النص التوراتي، هو أن الملكية النهائية للأرض، مشروطة بالطاعة الإلهية. والتوراة التي دونت في عهد الأنبياء الأوائل مليئة بمعاصي وإثم شعب الله المختار! يستند الخطاب السياسي الإسرائيلي علو ما ورد في المشنا والتلمود وعلى أقوال الحاخامات على مدار الزمن. ويطرح السؤال : هل هذه المصادر التي دونها رجال الدين تفوق في مصداقيتها ما ذكر في التوراة؟! يوجه في ايامنا النقد الداخلي والخارجي في مسألة اقحام الدين الى السياسة وبالعكس، وأتسائل كيف رضي وقبل، ولا يزال يقبل عالمنا "المتحضر- الديمقراطي، اللبيرالي" وبإعتزاز، تسخير التوراة والدين لشرعية الإستيلاء على "أرض الميعاد" (فلسطين) بكاملها، الى درجة تسخير الله عز وجل في الإمر؟! كيف يؤيد العالم دولة اسرائيل التي تسن أغلبية قوانينها، وعلى وجه التحديد قوانين الاراضي، استناداً لشرائع الدين اليهودي، وفي المقابل يقاصص ويدير ظهره للفرد وللشعب الفلسطيني الذي يطالب بحقه على ارضه، ويحرمون على الفلسطيني العيش بكرامة، بحجة ان قيادته المنتخبة تنتمي الى الإسلام؟!
المصادر:
* العهد القديم- التوراة (1982). اصدار دار الكتاب المقدس، القدس.
* يوسف سامي اليوسف(1989). تاريخ فلسطين عبر العصور، الاهالي للطباعة، القاهرة.
* المشنا،التلمود البابلي والاورشليمي(1998). كتوبيم، القدس.
* عزمي بشاره(1995). دوامة الدين والدولة في اسرائيل، فصل في كتاب:دراسات في المجتمع الاسرائيلي، القدس.
* عمر مصالحة(2005). اليهودية-ديانة توحيدية أم شعب مختار، دار الجليل ، عمان.
* عمر مصالحة(2006). التلمود- المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية، دار الجليل ، عمان.
(*) باحث في الشؤون الاسرائيلية ومؤلف كتاب "اليهودية: ديانة توحيدية أم شعب مختار"
omasalha56@yahoo.com
تعتبر الملكية على مساحة الأرض الواقعة بين وادي الأردن والبحر الأبيض المتوسط، أصعب وأعقد الأمور في الصراع العربي- الفلسطيني الإسرائيلي. وقد أصبح الأمر يشغل بال العالم بأسره، قرناً ونيف من الزمن، كما سخرت المرجعيات الدينية والسياسية معًا، لتبرير الملكية على الأرض. إن الهدف من هذه الدراسة، هو إعطاء القارىء العربي لمحة قصيرة عن الجذور والمرجعيات اليهودية، فيما يتعلق بالأرض، مستنداً إلى التوراة اليهودية، والأدبيات الدينية اليهودية الأخرى . تعرف هذه الأرض في العقيدة اليهودية كأرض إسرائيل أو "ارض الميعاد"، وتردد التوراة، في مصادر عديدة الوعد الإلهي على أن الأرض (المساحة: الواقعة بين وادي الأردن والبحر الأبيض المتوسط) قد أعطيت لبني إسرائيل بوعد رباني. وقد أتت لفظة "أرض الميعاد" من هذا الوعد الإلهي، وكما ورد في قول ملاك الرب لسيدنا إبراهيم في سفر التكوين، الاصحاح الثاني عشر: " وقالَ الرّبُّ لأبرامَ: "إرحَلْ مِنْ أرضِكَ وعَشيرَتِكَ وبَيتِ أبيكَ إلى الأرضِ التي أُريكَ، 2. فأجعَلَكَ أُمَّةً عظيمةً وأُبارِكَكَ وأُعَظِّمَ اَسمَكَ وتكونَ بَركَةً، 3. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ وأَلعنُ لاعنيكَ، ويتَبارَكُ بِكَ جميعُ عَشائِرِ الأرضِ".4. فرَحلَ أبرامُ، كما قالَ لَه الرّبُّ، وذهَبَ معَهُ لُوطٌ. وكانَ أبرامُ اَبنَ خمْسٍ وسَبْعينَ سنَةً لمَّا خرَج مِنْ حارانَ. 5. وأخذَ أبرامُ سارايَ اَمْرأتَهُ ولُوطًا اَبنَ أخيهِ، وكُلَ ما كانَ يَمتَلكُهُ، هوَ ولُوطَ، والعبيدُ الذينَ حَصَلا علَيهِم في حارانَ. وخرَجوا جميعًا قاصِدينَ أرضَ كنعانَ. فلمَّا وصلوا إلى أرض كنعانَ 6. اَجتازَ أبرامُ في الأرضِ إلى بَلّوطَةِ مُورةَ في شَكيمَ، عِندَما كانَ الكنعانيُّونَ في الأرضِ" . وتكرر الوعد في سفر التكوين، الاصحاح الخامس عشر، على النحو التالي: " وبعدَ ذلِكَ ترَاءَى الرّبُّ لأبرامَ وقالَ لَه: "لا تَخفْ يا أبرامُ. أنا تُرسٌ لكَ، وأجرُكَ عِندي عظيمٌ جدُا". 2. فقالَ أبرامُ: "يا سيِّدي الرّبُّ ما نَفْعُ ما تُعطيني وأنا سأموتُ عقيمًا، ووارثُ بَيتي هوَ أليعازَرُ الدِّمَشقيُّ!" 3. وقالَ أبرامُ أيضًا: "ما رزَقْتني نسلاً، وربيبُ بَيتي هوَ الذي يَرثُني". 4. فقالَ لَه الرّبُّ: "لا يَرِثُكَ أليعازَرُ، بل مَنْ يخرُج مِنْ صُلبِكَ هوَ الذي يَرِثُكَ". 5. وقادَهُ إلى خارج، وقالَ لهُ: " أنظُرْ إلى السَّماءِ وعُدَ النُّجومَ إنْ قَدِرْتَ أنْ تَعُدَّها". وقالَ لهُ: "هكذا يكونُ نسلُكَ". 6. فآمَنَ أبرامُ بالرّبِّ، فبَرَّرهُ الرّبُّ لإيمانِهِ. 7. وقالَ لَه الرّبُّ: " أنا الرّبُّ الذي أخرجكَ مِنْ أُورِ الكَلدانيِّينَ لأعطيَكَ هذِهِ الأرضَ مِيراثًا لكَ" . تعتبر هذه الحدود من الارض، والتي وعد الرب لأبراهيم، أوسع الحدود التي نصت عليها التوراة، وتحدد هذه المساحة قطعة الأرض الممتدة تقريبا من: غزة في الجنوب الغربي إلى نهر الفرات. يظهر في بعض نصوص التوراة أن الأرض التي حددت في الميثاق- الوعد، صغيرة جدا. ففي سفر التكوين، الاصحاح السابع عشر، اقتصرت حدود أرض الميعاد على منطقة الكنعانيين الذين عاش وتجول سيدنا إبراهيم في وسطهم، فذكر: "وأقيم عهدي الأبدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك جيلا بعد جيل، فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك . وأهبك أنت وذريتك من بعدك جميع أرض كنعان التي نزلت فيها غريبا ملكا أبديا وأكون لهم إلها". ذكر في التوراة بشكل واضح، وبدون تحديد، أن ذرية سيدنا ابراهيم سترث الارض، كما ورد زواج سيدنا ابراهيم من سارة وولادة سيدنا إسحق وزواجه من أمنا هاجر وولادة الإبن اسماعيل وزواجه من أمرأة ثالثة كان اسمها قطوره: " وعادَ إبراهيمُ فأخذَ زوجةً اَسمُها قطورةُ، 2. فولدَت لَه زِمرانَ ويَقشانَ ومَدانَ ومِديانَ ويِشباقَ وشُوحًا. 3. وولَدَ يقشانُ شَبا وددانَ، وبنو ددانَ هُم أشُّوريمُ ولطوشيمُ ولأُمِّيمُ، 4. وبَنو مديانَ هُم عيفةُ وعِفرُ وحنوكُ وأبيداعُ وألْدعةُ. جميعُ هؤلاءِ بنو قطورةَ. 5. ووَهبَ إبراهيمُ لإسحَقَ جميعَ ما يَملِكُهُ، 6. وأمَّا بَنو سراريهِ فأعطاهُم عطايا وصرفَهُم، وهوَ بَعدُ حيًّ، عَنْ إسحَقَ اَبنهِ إلى أرضِ المَشرِقِ".(التكوين، الاصحاح الخامس والعشرون، آية: 1-6) ورد في التوراة في كتاب التكوين، الاصحاح السابع عشر بصورة واضحة وصريحة عن إرث الارض لنسل سيدنا ابراهيم "وأقيم عهدي الأبدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك جيلا بعد جيل، فأكون إلها لك ولنسلك من بعدك . وأهبك أنت وذريتك من بعدك جميع أرض كنعان التي نزلت فيها غريبا ملكا أبديا وأكون لهم إلها" في السياق الشرعي للتوريث: هل ابناء سيدنا ابراهيم من أمنا هاجر وقطوره خارج الشرع، والشريعة في التوريث؟ وقد ورد ذكرهم في التوراة. ذكر في التوراة أن ذرية إبراهيم، لم تستطع التمتع بالوعد في الارض عدة قرون، لأنهم نزلوا إلى ارض مصر خلال المجاعة الفظيعة التي إجتاحت البلاد في عهد سيدنا يعقوب، وبقي بنو اسرائيل في مصر حتى بعد نهاية فترة المجاعة والقحل، وفي النهاية دخلوا في العبودية حسب النصوص التوراتية، ولم يستطع بنو اسرائيل الرجوع إلا بعد أربعة قرون، بعدما حررهم الله من عبودية الفراعنة، من خلال نبي الله موسى عليه السلام، الذي أخرجهم من أرض مصر وقادهم إلى حدود أرض كنعان من جهة الشرق، قرب وادي الأردن، وقد أكمل مسيرة القيادة لبني اسرائيل، من بعد موسى عليه السلام، يوشع بن- نون، الذي قام بغزو مساحة محددة من الأرض المذكورة من الشعوب التي سكنت البلاد. وفي هذه الفترة تقريبا، تغيرت تسمية الأرض في التوراة، من أرض كنعان إلى أرض إسرائيل. ترتكز النظرة التوراتية في أساسها، على الفكرة بأن الأرض، في الحقيقة، ملك إلهي، وليست ملكا لشعب واحد معين. وبحسب سفر يشوع، الاصحاح الثالث والعشرون، لم ينجح بنو إسرائيل في غزو الأرض لأن الله أراد ذلك :" وأنتُم رأيتُم جميعَ ما فعَلَ الرّبُّ إلهُكُم بِكُلِّ تِلكَ الأمَمِ مِنْ أجلِكُم، لأنَّ الرّبَّ إلهَكُم هوَ المُحارِبُ عَنكُم. 4. اَنظُروا. قسَمتُ لكُم أرضَ الأُمَمِ الباقيةِ حِصَصًا لأسباطِكُم بِالقرعَةِ، هذا فَضلاً عَنْ أراضي الأمَمِ الذينَ أبَدتُهُم، مِنَ الأردُنِّ شرقًا إلى البحرِ المُتوسطِ غربًا.5. والرّبُّ إلهُكُم هوَ الذي يَهزِمُهُم ويَطرُدُهُم مِنْ أمامِكُم، وتَملِكونَ أرضَهُم كما قالَ لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم. 6.فتَشدَّدوا في أنْ تَحفَظوا جميعَ ما هوَ مكتوبٌ في كتابِ شريعةِ موسى وتَعمَلوا بهِ ولا تَحيدوا عَنهُ يَمينًا ولا شَمالاً. 7. ولا تَختَلِطوا بهذِهِ الأمَمِ الباقيةِ معَكُم، لا تَذكُروا اَسمَ آلِهَتِهِم ولا تَحلِفوا بِها ولا تَعبُدوها ولا تَسجدوا لها، 8. بل بالرّبِّ إلهِكُم تَتمَسَّكون كما فَعلتُم إلى هذا اليومِ. 9. والرّبُّ إلهُكُم طرَدَ مِنْ أمامِكُم أُمَمًا عظيمةً قويَّةً ولم يَصمُدْ أمامَكُم أحدٌ إلى هذا اليومِ". إن الله هو المالك للعالم بأسره يهب أجزاء لمن يشاء، وهو الذي وهب أرض كنعان إلى سيدنا ايراهيم والى نسله من بعده بشرط الطاعة وعدم الشرك بالله، فيمكن أن ينتج عن عدم طاعة الله سحب الوعود الإلهية وبالتالي فإن ذلك قد يتسبب في هلاك إسرائيل وحتى في ضياع الأرض. ورد على لسان أنبياء اسرائيل في كتب العهد القديم، إمكانية وقوع الهلاك لبني إسرائيل وإبطال الوعد عن أرض إسرائيل، وذلك بسبب المعاصي والذنوب التي اقترفها اليهود. ذكر في سفر أرميا، الاصحاح الثاني، بهذا الخصوص:" كعارِ السَّارِقِ حينَ يُمسَكُ، كذلِكَ عارُ بَيتِ إِسرائيلَ، هُم ومُلوكُهُم ورُؤساؤُهُم وكَهنَتُهُم وأنبياؤُهُم. 27. هُم يقولونَ لِلخشَبِ أنتَ أبي ولِلحجرِ أنتَ ولَدْتَني، وهُم يُديرونَ لي ظُهورَهُم، وفي وقت الضِّيقِ يقولونَ قُمْ خلِّصْنا. 28. فأينَ الآلِهَةُ التي صَنَعتُمُوها لَكُم يا بَني يَهوذا، وهُمْ على عدَدِ مُدُنِكم، فليقوموا لإنقاذِكُم في الزَّمنِ الرَّديءِ، 29. لِماذا تُخاصِمونَني؟ كُلُّكُم عصَيتُموني، يقولُ الرّبُّ. 30. عبَثًا ضرَبْتُ بَنيكُم، فهُم لا يَقبَلونَ التَّأديبَ. أكَلَ سَيفُكُم أنبياءَكُم كالأسَدِ المُفتَرِسِ.31. أيُّها الجيلُ اَسمَعوا كَلِمَتي: هل كُنتُ قَفْرًا لإسرائيلَ أو أرضَ ظَلامِ دامسٍ؟ فما بالُ شعبي يقولونَ: تحَرَّرْنا فلا نعودُ إليكَ؟ 32. أتَنسى الصَّبيَّةُ حِليَتَها والعروسُ جهازَها؟ أمَّا شعبي فنَسيني أيّامًا لا تُحصَى. 33."كم تُحسِنينَ فُنونَ الحُبِّ، فتُعَلِّمينَ الفاجراتِ، 34. وعلى أذيالِكِ دَمُ المَساكينِ والأبرياءِ، لا دَمُ الذينَ تَجدينَهُم ويَنقُبونَ ويسِرقونَ ومعَ كُلِّ هذا الذي تَفعَلينَهُ، 35. تقولينَ: أنا بَريئةٌ وغضَبُ الرّبِّ يَرتَدُّ عنِّي». لكِنِّي أنا الرّبُّ سَأُحاكِمُكِ على قولِكِ لم أَخطأْ. 36. يا لِخفَّتِكِ في تَبديلِ سياسَتِكِ! مِنْ مِصْرَ سيلحَقُكِ الخزْيُ كما لَحِقَكَ الخزْيُ مِنْ أشُّورَ. 37. فَمِنْ مِصْرَ تخرُجينَ مُستَسلِمَةً ويَداكِ مَرفوعَتانِ على رأسِكِ لأنَّ الرّبَّ رفَضَ مَنْ تَتَّكِلينَ علَيهِم، فهُم لا خيرَ فيهِم".
كما ذكر على لسان النبي أرميا في الاصحاح التاسع والعشرون، حثه وطلبه من اليهود الذين تركوا البلاد واستقروا في بابل، بهذه الكلمات:" هذا نَصُّ الكتابِ الذي أرسلَهُ إرميا النَّبيُّ مِنْ أُورُشليمَ إلى بَقيَّةِ الشُّيوخ في السَّبْي، وإلى الكهنَةِ والأنبياءِ وعُمومِ الذينَ سَباهُم نَبوخذنَصَّرُ مِنْ أُورُشليمَ إلى بابِلَ، 2. بَعدَ أنْ خرَج يكُنيا المَلِكُ والمَلِكَةُ والخصيانُ ورُؤساءُ يَهوذا وأُورُشليمَ والنَّجارونَ والحَدَّادونَ مِنْ أُورُشليمَ. 3. كانَ ذلِكَ على يَدِ ألعاسةَ بنِ شافانَ وجمَرْيا بنِ حَلْقيَّا اللَّذينَ أوفَدَهُما صِدقيَّا مَلِكُ يَهوذا إلى نبوخذنَصَّرَ مَلِكِ بابِلَ، وفيهِ يقولُ: 4."قالَ الرّبُّ القديرُ إلهُ إِسرائيلَ لِكُلِّ الذينَ سَبَيتُهُم مِنْ أُورُشليمَ إلى بابِلَ: 5. إبنوا بُيوتًا واَسكُنوا واغرُسوا بساتينَ وكُلوا مِنْ ثمَرِها.6. تَزَوَّجوا ولِدوا بَنينَ وبَناتٍ وزَوِّجوا بَنيكُم وبَناتِكُم لِيَلِدوا بَنينَ وبَناتٍ، وأكثِروا هُناكَ ولا تَقِلُّوا. 7. إعمَلوا لِخيرِ المدينةِ التي سبَيتُكُم إليها، وصلُّوا مِنْ أجلِها. ففي خيرِها خيرُكُم". ما يمكن إستنتاجه من هذا النص، أن ليس هناك تحديد للفترة الزمنية لعودة إسرائيل إلى البلاد، ويمكن أن يفهم بأن العودة قد تتم في أي وقت. بعد خراب الهيكل في القدس سنة 70، وبعد إخماد ثورة القائد اليهودي "باركوخبا"، ستين عاماً بعد خراب المعبد، بقي الناجيين من اليهود في بابل، ينتظرون العودة للبلاد من خلال الوحي الإلهي. وقد تم تفسير انتظار اليهود حتى مشيئة الوعد الرباني، وقد تجسد قدوم المنقذ " الماشيح" فذكر الامر في كتاب "المشنا" الذي اكتمل إعداده سنة 200 ميلادي .
يمكن التساؤل: لماذا ، إذاً، لم يحاول اليهود، العودة إلى " أرض الميعاد" خلال كل تلك القرون من النفي؟ لماذا لم تبدأ الحركة الصهيونية إلا في نهاية القرن التاسع عشر تحت تأثير القومية والاستعمار الأوروبي الحديث؟ وبما أن الارتباطات اليهودية مع الأرض قوية ومتغلغلة في الأعماق فلماذا لم نشاهد محاولات سابقة للمطالبة بها؟ توصل بعض حاخامات التلمود إلى نتيجة مفادها منع اليهود من محاولة القيام بإعادة أنفسهم إلى أرض إسرائيل، وقد أصبح الأمر تقليدا يهوديا، وقانونا تشريعياً، يحث اليهود في انتظار العودة النهائية التي تنبأ بها أنبياء التوراة والعهد القديم . لقد أصبح النص التلمودي الذي حرره الحاخام يهودا هنسي مرجعية تشريعية تسيير حياة المجتمع والفرد اليهودي، وعلى أساسه:"حرم على اليهود محاولة العودة الى البلاد بالقوة لاحتلالها، وحرمت عليهم العودة إلى البلاد بشكل جماعي، وعليهم الانتظار حتى يأمر الله بعودة شعب إسرائيل إلى أرض إسرائيل بالإرادة الإلهية. في المقابل هنالك نصوص تلمودية تشجع السكن والعيش في ارض اسرائيل. يعتبر أعضاء مجموعة "نطوري كارتا" أي (نواطير المدينة) ان اليهودي يكتسب هويته من خلال اداءه للشعائر الدينية فقط، وفيما يخص علاقة اليهودي بأرض الميعاد، يؤكد نواطير المدينة أن اليهودي المتدين يتجه بعواطفه وقلبه لهذه الأرض "صهيون" أو "إيرتس يسرائيل"، او ارض الميعاد المقدسة، وخصوصا مدينة القدس، فهم يذكرونها في صلواتهم عدة مرات كل يوم. وقد كرر اليهود هذه الصلوات آلاف السنين، ولكن هذه الصلوات لا علاقة لها بفكرة العودة اليهودية الى ارض اسرائيل، فنفي اليهود من ارض الميعاد هو من الأوامر الربانية، التي لا يمكن مخالفتها او التمرد عليها، ولذا لا يملك اليهودي المتدين إلا أن يستمر في صلواته إلى أن يستجيب الرب لدعائه ويأمر بعودة اليهود إلى ارض الميعاد. ان "الماشيح" المنتظر هو وحده القادر على إعادة اليهود الى ارض اسرائيل، وحين يعودون سيؤسسون مملكة الكهنة والقديسين، اما ما حدث في العام 1948 واقامة دولة اسرائيل، نتيجة الفكر الصهيوني العلماني، فهي محاولة للتعجيل بالنهاية "دحيكات هاكتس" ويدعي اليهود المتزمتين(الحاريدم) ان العودة بقوة السلاح، دون انتظار مشيئة الله، أمر مخالف للشعائر الدينية ولذا، فدولة اسرائيل في نظر جماعة "نطوري كارتا" ثمرة الغطرسة الآثمة، لانها قامت على يد نفر من الكافرين الذين تمردوا على مشيئة الرب، وهي خيانة للشعب اليهودي الذي تأسس كجماعة دينية في سيناء لا في ارض الميعاد. وتذهب ادبيات نواطير المدينة الى اكثر من هذا، اذ يوجهون الاتهام للحركة الصهيونية بانها حركة معادية لليهود، فدولة اسرائيل تدعي انها دولة كل اليهود، وان اليهودي يتوجه بولائه للدولة اليهودية وحدها وليس للدول التي يعيشون فيها، وبالتالي فهي تخلق لليهود مشكلة ازدواج الولاء وتدعم الاتهامات المعادية لليهود.(مصالحه، 2005)
نجحت جماعة نواطير المدينة في الإفلات من الفكر الصهيوني، لانها سلكت مسلك التوحيد، داخل العقيدة اليهودية بدل المسلك الحلولي الذ يضع اليهود وحدهم مركز اهتمام الله، وتمسكت بالفكر الحاخامي الذي يطالب في تنفيذ الإرادة الإلهية.
1. فعلى سبيل المثال، فصلت اليهودية الحاخامية العقيدة اليهودية عن الارض المقدسة، وهو ما يعني عدم حلول الاله في ارض اسرائيل، فهو مفارق للعالم.
2. تمسكت اليهودية الحاخامية بمسالة ان اختيار اليهود امر منوط بتنفيذهم الشريعة، وهو ما يعني ان الذات اليهودية لم تعد مقدسمة من خلال الوراثة، وانما تكتسب القداسة من خلال ما يقوم به اليهودي من افعال اخلاقية.
3. جعلت اليهودية الحاخامية العودة (وتأسيس الدولة) مسالة منوطة بالأمر الإلهي ولا دخل للبشر فيها.
أصر نواطير المدينة على هذه العناصر كلها، وهو ما يعني انهم يؤمنون بفصل الخالق عن المخلوق، كما أكدوا عنصر الإنسانية المشتركة بين اليهود والأغيار، وهو عنصر موجود في التلمود وان كانت بعض التفسيرات تعتمد إغفاله. وتمسك نواطير المدينة بالطبقة التوحيدية هو الذي عصمهم من السقوط في الوثنية العلمانية، أي الترجمة الحديثة للطبقة الحلولية التقليدية.
تعتبر جماعة نواطير المدينة جماعة دولية تضم اليهود المتدينين في الولايات المتحدة وفي كل أنحاء العالم الذين يعارضون الفكر الإستيطاني الصهيوني على فلسطين .
يلاحظ أنه في عهد الأمورائيم الذين عاشوا في القرن الثالث والرابع الميلادي، فوارق طفيفة بالأحكام المتعلقة بالسكن في (ارض اسرائيل) مقارنة بفترة "التنائيم"، نتيجة الاحداث التي وقعت في تلك الفترة. كما وهنالك تباين بين مواقف حاخامات الأمورائيم الذين سكنوا البلاد والحاخامات الذين عاشوا في بابل. يمكن الإيجاز والقول: أن الوعد التوراتي بأرض إسرائيل لبني اسرائيل، ما جاء ليأخذ المعنى المجازي، كما وأن استمرار ملكية الأرض على الدوام ليس هو المقصود. بل المقصود وحسب النص التوراتي، هو أن الملكية النهائية للأرض، مشروطة بالطاعة الإلهية. والتوراة التي دونت في عهد الأنبياء الأوائل مليئة بمعاصي وإثم شعب الله المختار! يستند الخطاب السياسي الإسرائيلي علو ما ورد في المشنا والتلمود وعلى أقوال الحاخامات على مدار الزمن. ويطرح السؤال : هل هذه المصادر التي دونها رجال الدين تفوق في مصداقيتها ما ذكر في التوراة؟! يوجه في ايامنا النقد الداخلي والخارجي في مسألة اقحام الدين الى السياسة وبالعكس، وأتسائل كيف رضي وقبل، ولا يزال يقبل عالمنا "المتحضر- الديمقراطي، اللبيرالي" وبإعتزاز، تسخير التوراة والدين لشرعية الإستيلاء على "أرض الميعاد" (فلسطين) بكاملها، الى درجة تسخير الله عز وجل في الإمر؟! كيف يؤيد العالم دولة اسرائيل التي تسن أغلبية قوانينها، وعلى وجه التحديد قوانين الاراضي، استناداً لشرائع الدين اليهودي، وفي المقابل يقاصص ويدير ظهره للفرد وللشعب الفلسطيني الذي يطالب بحقه على ارضه، ويحرمون على الفلسطيني العيش بكرامة، بحجة ان قيادته المنتخبة تنتمي الى الإسلام؟!
المصادر:
* العهد القديم- التوراة (1982). اصدار دار الكتاب المقدس، القدس.
* يوسف سامي اليوسف(1989). تاريخ فلسطين عبر العصور، الاهالي للطباعة، القاهرة.
* المشنا،التلمود البابلي والاورشليمي(1998). كتوبيم، القدس.
* عزمي بشاره(1995). دوامة الدين والدولة في اسرائيل، فصل في كتاب:دراسات في المجتمع الاسرائيلي، القدس.
* عمر مصالحة(2005). اليهودية-ديانة توحيدية أم شعب مختار، دار الجليل ، عمان.
* عمر مصالحة(2006). التلمود- المرجعية اليهودية للتشريعات الاجتماعية، دار الجليل ، عمان.
(*) باحث في الشؤون الاسرائيلية ومؤلف كتاب "اليهودية: ديانة توحيدية أم شعب مختار"
omasalha56@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق