الجمعة، أكتوبر 09، 2009

الانعكاسات الخطرة لتأجيل تقرير غولدستون

د. صائب شعث

تقرير القاضي رتشارد غولدستون، كان نتاج حراك نقابي و شعبي و مؤسسات مدنية، محلي ،عربي و دولي، حراك ضخم و معقد. هذا النضال كان يمزق الصورة النمطية التي نسجتها الصهيونية والإمبريالية الغربية حول النضال العربي في سبيل الإنعتاق و الاستقلال. عملية غاية في الصعوبة و الدقة والمسيرة كانت تبحر في حقول من الألغام المنصوبة لنا من قوانين تعاقب من يتصدى لإسرائيل بتهمة اللاسامية التي تزج بغياهب السجون ...حرب شنت من قبل منظمات مدنية بقيادة مفكرين و مثقفين غربيين ، أمميين وعرب للوصول للرأي العام الشعبي المحاصر في الغرب بصناعة إعلامية تسيطر عليها شخصيات صهيونية و أخرى أشد حقدا على الأمة العربية .

اختراق هذا الساتر الإعلامي المهول، خصوصا بعد التأثير المخيف للحرب علي الإرهاب و الانحياز المطلق للدولة الغربية و مؤسساتها بشكل فاضح ضد العرب. هيئة الإذاعة و التلفزة البريطانية (BBC ) مثلا ومعها مؤسسات إعلامية دولية سكاي (SKY) رفضت أن تبث نداء استغاثة مدفوع الأجر لجمع التبرعات الطبية لضحايا الحرب الصهيونية علي غزة.

توصيل الصورة الحقيقية للفلسطيني الذي يذبح بيد صهيونية مجرمة و بآلة حرب غربية، أنجزت الى حد كبير (استخدمت شبكة الإنترنت بكثافة منقطعة النظير ,الكلمة والصورة و الصوت و الفيديو، المحاضرات و معارض صور الضحايا لفت كل الكون و المسيرات و الرسائل الى محرري الصحف و الكتابة للبرلمانيين و التأثير في البرلمانات الأوروبية. تشكلت مجموعات دعم وإسناد لفلسطين علي مستوى الأحياء و المدن في بلدان كثيرة ،قام بعض المحتجين علي ما يجري في غزة بمهاجمة المحلات التي تبيع بضائع إسرائيلية في بعض المدن الغربية و غيرها...العمل كان تراكمات من الانتصارات الصغيرة التي أحدثت تغيراً نوعيا و ملحوظاً في الرأي العام الغربي ، هذا الجمهور "الرأي العام" دفع باتجاه محاسبة اسرائيل و نجدة الشعب المظلوم ) .

نزلت المسيرات الجرارة في معظم المدن الغربية، تحدثت شخصياً في بعض هذه المسيرات الأوروبية، ما هزني في هذه المسيرات و اثر في شخصيا الى اليوم، ما شهدته من عدد غفير من الأطفال الأوروبيين في عرباتهم و علي أكتاف إبائهم و أمهاتهم، ملتحفين بالأغطية و السترات الثقيلة ، حيث كان البرد قارصاً و الثلج يحط بكثافة، و لم يمنع ذلك الأمهات الأوروبيات من الزج بأطفالهن في مسيرات تصرخ للجم اسرائيل و محاسبتها أمام المجتمع الدولي. هذا المشهد تكرر في عواصم و مدن شتى حول العالم، في حين إن قوات أمن السلطة كانت تفتك بمسيرات الفلسطينيين في رام الله و نابلس والخليل.

هذا الجهد المُنظم الذي جسدنا فيه قدرتنا على التعامل مع المستويات الاجتماعية و الصناعية (أوقفت أحدى شركات الاتصالات البريطانية تعاملها فورا مع اسرائيل بعد هجومها على غزة، والغريب لم يُشجعها احد أو تكافئها شركة عربية بالتعامل معها...عدا عن رسالة صغيرة بالإنجليزية كتبتها و نشرتها اشكر موقفهم الأخلاقي فيها) و السياسية الصادقة أو ذات المعايير المزدوجة في فهم الشرعية الدولية. أقدمَ الأفراد و الجماعات المدنية علي أخذ زمام المبادرة ضد المؤسسات و الحكومات التي تُساند اسرائيل، وكنتيجة لذلك فالحكومة البريطانية مُتهمة في المحاكم البريطانية الآن بأنها قامت بتزويد اسرائيل بأسلحة استخدمتها في حربها علي غزة.

لو حسبنا علي طريقة رجال الأعمال الوقت و الجهد و المال الذي صُرف في هذه الحملات ، وكم من رجال الأعمال الغربيين قاطع اسرائيل و بمقاطعتها خسر عوائد مالية تُعزز بقوة أعمالهم. لكن ،الموقف الأخلاقي لديهم تقدم علي حسابات الربح و الخسارة .

ماذا يعني قرار إدانة اسرائيل.

قرار إدانة اسرائيل و قادتها أمام هذا المحفل الدولي لحقوق الإنسان، كان سيبدأ العد التنازلي في تحجيم و تقزيم اسرائيل فعلا، كيف؟. كان ذلك القرار سيساعد على شطب الصورة النمطية التي رسمتها الصهيونية لذاتها في العالم ، إنها أي الصهيونية و اسرائيل الضحية المستديمة لكل الحضارات و الديانات البشرية، إنهم من نجا من أفران الغاز الأوروبية، هذه الصورة النمطية تترتب عليها دعم مالي هائل مستمر، عقدة ذنب أوروبيه غربية و عالمية يترتب عليها إعطاء وطن أمن لهم (فلسطين التاريخية) و تقديم كامل الحماية و العون الاقتصادي و التكنولوجي ضد المتطرفين البرابرة العرب و الاستمرار بالتعويضات المالية كصك للغفران.

إدانة قادة اسرائيل كمجرمي حرب يدمر هذه الصورة، أي يعفى الجمهور الغربي الأوروبي من الاستمرار بالشعور بعقدة الذنب و الدفاع عن الضحية اليهودية الصهيونية المتجسدة بإسرائيل. فك ارتباط معنوي و نفسي من عقد الذنب. انعكاسات ذلك الصناعية و التكنولوجية، والعلمية البحثية، التجارية و المدنية و الاجتماعية، وحتى العسكرية هائلة. فاتحادات النقابات المهنية والعمالية و الطلابية في الغرب و بالذات في بريطانيا و ايرلندا أخذت قرارات علي مستوى المناطق و الدول لسحب الاستثمارات و مقاطعة اسرائيل التجارية و الصناعية والبحثية والعلمية . إدانة اسرائيل كان سيطلق تطبيق هذه الحزمة من القرارات بسرعة فائقة، وهاتان الدولتان بالذات لهم تأثير ثقافي و حضاري متميز علي الولايات المتحدة الأمريكية . عدا عن اللغة و الثقافة و القيم المشتركة فيما بينهم هناك 45 مليون أمريكي من أصول ايرلندية يرتبطون بقوة بالموطن الأم. بعد اتخاذ وقبل اتخاذ هذه القرارات النقابية الهامة قدمت وفود أمريكية لبريطانيا و ايرلندا لثنيهم عن هذه الخطوة، كما أخبرني رئيس مجلس اتحاد النقابات الأيرلندية. التطبيق في هاتان الدولتان سيطال الولايات المتحدة مهما طالت أو قصرت الفترة الزمنية. أي انه عمليا سيشرخ العلاقة الإستراتجية الأمريكية المدنية والاجتماعية والثقافية والصناعية بالتدريج، و من ثم تجد مؤسسات الدولة بأنها مُرغمة على الاعتماد على ذاتها في إدارة مصالحها في المنطقة العربية. والبدء في إعادة صياغة علاقتها الإستراتجية بهذا الكيان المكلف جدا أخلاقيا و ماليا و شعبيا.

فلسطينيا: كان الكثير منا يدرك تماما بان تحويل التقرير لمجلس الأمن كان سينال وسام الفيتو الأمريكي، هذا الفيتو كان سُيحرج إدارة المخادع اوباما، وهذا بحد ذاته عمل عظيم،يؤكد للمجتمعات الإنسانية حول العالم بان الإدارة الأمريكية هي من يُحارب الشعب الفلسطيني بضغط المكبس الصهيوني، و بالتالي مزيداً من التعرية و الإحراج لسياساتهم العنصرية. وعالميا يؤكد جرم اسرائيل ... ماذا ارتأى من قام بهذا العمل ألتأجيلي الرهيب في اللامبالاة الوطنية والمغامر بالقضية الفلسطينية بشكل خطر الى هذا الحد. هذا العمل الكارثة أثاره المستقبلية وخيمة، فقدنا المصداقية أمام من نطلب العون منهم لإسنادنا، و مساعدتنا في طلب العدالة، انفض الكثير من الأصدقاء من حولنا، لن تثق فينا الحركات المدنية.الشعوب لا تفرق بين مدني فلسطيني او رسمي فلسطيني ، فقد ارتسمت صورة لنا بأننا لا نستحق العناء من أحد. المناصر و المتضامن البسيط لنا في شوارع العالم المنتفخة قضايا و تفاصيل، يرد على تبريرات السلطة، كيف ستنالون حريتكم إذا لم تستطيعوا الصمود أمام ضغوط سياسية. من يحارب في سبيل حريته لينالها عليه دفع الثمن هكذا فعلت الأمم ,فتنام أمام أمريكا، والجزائر أمام فرنسا ، و ايرلندا أمام بريطانيا العظمى...كلها كانت شعوب بسيطة وحاربت قوى عظمى بزمانها. تعطيل هذا التقرير سيطيل لأجيال معارك نضالنا الوطنية،و سيعمق الشرخ الوطني القائم في فلسطين لزمن.

لجان التحقيق:

تحدثت تقارير كثيرة عن أسباب شتى لما حصل ،وهي اتهامات غاية في الخطورة، منها ما يشير لتورط فلسطيني بالتحريض على الحرب على غزة، كما قالت وسائل تلفزة صهيونية عن تحريض مباشر على الاستمرار بالحرب البشعة علي غزة من قبل رئيس السلطة الفلسطينية.حتى تتضح الرؤيا ، يجب أن تتشكل لجنة مُستقلة حيادية لا تتبع أي جهة فلسطينية تتسلم ولو حتى دولاراً واحداً من السُلطة أو من أي جهة تنوب عن السلطة.

لماذا: قصص لجان التحقيق الفلسطينية هذه كثيرة، تحقيقات المجلس التشريعي بفساد الوزراء و كبار موظفي السلطة، بدون طائلا وفائدة. إلي قصة التحقيق بأموال منظمة التحرير و المال العام المسروق، الى أكثرهم تحيرا التحقيق في تسميم الشهيد ياسر عرفات. كما يقول أهلنا الصابرون المرابطون في غزة "موت يا كديش". لذلك فلسطينيا التجارب عقيمة في هذا الشأن، فاللجنة التي أعلن عنها ياسر عبد ربه لن تجد من يستمع أو يحترم نقطة فوق حرف فيها.

تقرير القاضي ريتشارد غولدستين كان سيمُد عباس بشرعية شعبية و دولية، و كاد أن يزود قيادة السلطة، لو استمرت، بأوراق جديدة تُعززهم بأسلحة سلمية تفاوضية علي طريقتهم الإستراتيجية بإدارة المُفاوضات و عملية السلام، أن صدقنا وجدها أصلا. كانت هذه فُرصتهم لان ينطلقوا الى وحدة الصف الفلسطيني و الظهور بمظهر الممثل الشرعي لشعبِهم و المناضل في سبيل حقوقه، من خلال الشرعيات المُتاحة دوليا. أوشكت السلطة على أن تنال الاحترام والتقدير من العائلات الثكلى و المُشردة بفعل الحرب على غزة، كان هذا التقرير جسرها لتعبر إلي غزة، ورقة سياسية من الوزن الثقيل جدا.

التراجع الوطني

فلسطينيا، أحد أهم أسباب تراجعنا الوطني هو فقدان القيادة الواعية الحكيمة والجماعية، فالتفرد بالقرار، وعدم إشراك باقي الأطراف المناضلة الفلسطينية أو المستقلة، و المفكرين والمثقفين أو استشارة و مشاركة الدول الشقيقة الحريصة على مصالح الشعب العربي الفلسطيني، هو مرضنا المزمن.

القيادة الفلسطينية لدينا أصابها عمى ألوان وطني، و فقدت بوصلتها النضالية، انغماسها بصغائر الأمور و الصراعات الداخلية، أعاد بها لعصر حروب الأندلس و صراعات المماليك. إن الخوف الكبير الذي يسكنني بعد هذا كله، أن يكون هذا نهج سياسي و أيديولوجي تكرس و ترسخ و تورطت فيه السُلطة و الفصائل المشاركة فيها و على رأسها حركة فتح. إدارتهم للصرع الوجودي بيننا و بين الكيان الصهيوني كلفنا الخسارة و الكارثة تلو الأخرى. فقد حان الوقت لكف أياديهم عن العبث بمصير الشعب الفلسطيني و الإضرَار بالأمن القومي العربي. فتح مُطالبة بكشف كل الأوراق و الملابسات مهما كانت مؤلمة، فتح هي المعنية بمحاسبة كل من تورط، لأنهم قيادتها. و التحقيق في ترخيص اسرائيل لشركة الهواتف(الوطنية) لنجل السيد محمود عباس ، الذي تتحدث التقارير على انه مكافئة ،على سحب التقرير . ففتح أغلى علينا من كل السُلطات، و إلصاق هكذا جريمة بحركة فتح و قيادتها لهو كارثة وطنية ضخمة ستحطم الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، فالتحركات العربية والشعبية الفلسطينية لمقاطعة السلطة و منظمة التحرير على قدم وساق الأن، لن نخسر منظمة التحرير في سبيل هذه السلطة أبدا.

ليست هناك تعليقات: