محمد فوزي عبد الحي
عالم غريب هو عالم الهروب من الحقيقة، عالم اللجوء إلى الخيال، إلى الحلم، إلى العالم السالب هربا من العالم السليب، والهروب له ضروب عدة، ولذلك هناك فريق يهرب إلى المخدرات، وآخر يهرب إلى الكرة والغناء، وثالث يعايش المسرح والسينما والشبكة المعلوماتية لا ليستفيد ولكن ليخلع نفسه من نفسه ويتلبس بأبطال الأفلام، ويزول رويدا في أقلام القصاصين والروائيين، وربما ليقوم بعملية استعاضة فارغة للإنسان القابع في وجدانه وهو أمام شاشة الحاسوب، ولكن هناك فريق يقررالخيار الأصعب.. يركب البحر، ويحمل روحه الباهتة، ونفسه القلقة على قوارب الموت وهو يحلم بالحياة، إنه الهروب من الشمس الباردة للجليد الدافيء، هروب من ربقة العبد الجنوبي إلى صولجان الحر الشمالي...
إنه هروب أشد وأبشع من هروب رجال غسان كنفاني تحت شمس القهر العربية الغجرية..
بعد سنوات من غربته، عاد ابن النيل، سليل فرعون العنيد وبكر العربي الشامخ، عاد المصري محملا اليوم بآلام الأمة، وقد خرج مكلكلا بآلام نفسه، عاد ليسترجع سنواته التي حصدتها ريح الشمال، وشبابه الذي انزوى في حياة الجرذ، ونفس الجرذ، وسلوك الجرذ وثقافة الجرذ، وهو يدرك اليوم ملامح تاريخ الحقبة الجرذانية الذي تقوده الأنظمة السائدة.
حقا كانت رحلة عصيبة ، لكنها مرت بسلام، سنوات من التخفي والتنكر والخوف والانتحال والجرذنة، سنوات عجاف سمان.. عجاف من الحب، والأمن، والكرامة، والعزة، والحنان، والشخصية، والدين، والثقافة ..
عجاف من الوطن والأهل والأصالة.. عجاف لأن الغربة كرب وحدها فإذا اجتمع إليها غربة الاسم والدين والنفس، غرفة اللسان والفكر، غربة اللباس والسلوك والإشارة - زاد كربها كربا وغمها غما...
وهي سنوات سمان، تعلمت فيها كثيرا عن الحرية، تعلمت قيادة السيارات، امتلكت سيارة، أرسلت آلاف الجنيهات إلى الوطن السليب و اشتريت بيتا آوي إليه، وأصبح عندي مشروع صغير أعيش منه.
منذ سنوات لم أكن قط مسست فتاة أو كلمتها، وهنا تعلمت كيف تكون القبل باردة لا طعم لها، وكيف تكون اللذة رخيصة لا قيمة لها.
منذ سنوات كنت بريئا كما الطفل، طاهرا كماء البحر، عذبا كنيل مصر، فقيرا ككل المصريين.. لم أكن أستطيع الزواج من عقيلة كريمة أو نسيبة شريفة ولكني اليوم تدنست كثيرا، ولم أعد طفلا، وأصبحت رجلا له سيئات كثيرات وسوءات مقززات ومع ذلك يمكنني الآن الزواج من أجمل وأرق الإناث ومن أعز العائلات، والفضل بل الحقيقة تشدو بأنني صرت ثريا وخرجت من ربقة الفقر التي يخافونها وعرفت يدي الطريق إلى اليورو الساحر، الويل لنا جميعا لقد صرنا عبيدا للدرهم!
لقد تعلمت كثيرا، وأنا في رحلة الموت على قارب مكهن، تركت شهادتي الجامعية، وتاريخي العربي، ومضاضة الكراهية لمن قتلوا جدي وهو يحفر القناة، وشردوا أولاده من بعده، إنني ذاهب لأعمل أجيرا عند من سرقوا فلسطين ووهبوها للصوص .. استسلمت اليوم لبحر الروم الأوربي، ورضخت لرغبتي الجامحة في التحول، وحلمي اللحوح بالحياة ولو في قبضة الموت.. ولكن عجبا أيمنحوني الحياة التي حرموا جدي منها بلا ثمن ولا عوض؟؟
تعملت كثيرا وأنا في معسكرات اللاجئين.. نأكل الطعام الجيد، ونتسلم الزي الجيد.. يعاملوننا معاملة راقية وفي كل لحظة أتذكر وطني الذي هجرته وأهلي الذين فرحوا بشدة لسفري وغربتي، وفرحوا أكثر بما حققت من مكاسب.. لقد نجوت من الموت - على عكس كثير من إخواني - وصادفني التوفيق ونزلت بسلام على شواطيء اليونان، وانتقلت إلى فرنسا، ومنها إلى انكلترا ..
غيرت جنسيتي والتجئت إلى فلسطين الذبيحة؛ لأول مرة أرى لليهود فضلا عليّ، فالإنكليز الذين وعدوا بوطن لليهود ووفوا لهم بقيام إسرائيل يمنحون حق الحياة لضحايا ربيبتهم، ومن يتمسحون بها أيضا..
اليوم صرت فلسطينيا وتسميت اسما جديدا، واتخذت عنوانا جديدا، اليوم أنا من رام الله، أصبحت لي أوراق جديدة.. أعايش معالمي الجديدة، ووطني السليب الجديد، هل قدرنا أن نتجرع مرارة الأوطان السليبة؟
تجربة فريدة أن تترك اسمك واسم أبيك وجدك ولقبك لتعيش في ثوب آخر، وأن تتبرأ من وطنك للعمل في وطن آخر.. أليس قتلا أن يرحمك الضابط الإنكليزي الذي يعرف أنك كاذب وأنك مصري وأنك هارب من أرض الأهرام التي يعشقونها ومن النيل الذي يمجدونه، ومع ذلك يمنحك الحق في البقاء على أنك فلسطيني، يا الله!! هل الإنكليز الجرمانيون أرحم من المصريين العرب المسلمين؟
لكن الحاجة للعمل والحاجة لدخل أعلى تطلبت اسما جديدا، عمل في الصباح وآخر في المساء، ولو كان لي روحان لعملت بهما معا وتركت مصر لحظها تتعثر...
كان لدي ثلاثة أسماء، والأغرب أنه اختلط علي فوقعت في أحد الأعمال باسمي في العمل الآخر، وعندما تذكرت وحاولت تبرير تصرفي أمام الموظف، قلت له العربي الفسطيني يغير اسمه حسب البيئة فهو إلى جوار البحر هادي وسلسبيل وبحار، وفي الصحراء صخر وماهر وصابر وواسع، وفي البطحاء سهل وسهيل وربيع وربيعة، وفي الحدائق مطر ورياض وجمال وزاهر، وفي الحرب فارس وأمير وشجاع وماجد، وفي السماء نجم وبدر وسامي، وفي إنكلترا لا يعرف ما هو اسمه: لحظة أتذكر اسمي يا وطني!!!
Faqeeh2life@yahoo.com
إنه هروب أشد وأبشع من هروب رجال غسان كنفاني تحت شمس القهر العربية الغجرية..
بعد سنوات من غربته، عاد ابن النيل، سليل فرعون العنيد وبكر العربي الشامخ، عاد المصري محملا اليوم بآلام الأمة، وقد خرج مكلكلا بآلام نفسه، عاد ليسترجع سنواته التي حصدتها ريح الشمال، وشبابه الذي انزوى في حياة الجرذ، ونفس الجرذ، وسلوك الجرذ وثقافة الجرذ، وهو يدرك اليوم ملامح تاريخ الحقبة الجرذانية الذي تقوده الأنظمة السائدة.
حقا كانت رحلة عصيبة ، لكنها مرت بسلام، سنوات من التخفي والتنكر والخوف والانتحال والجرذنة، سنوات عجاف سمان.. عجاف من الحب، والأمن، والكرامة، والعزة، والحنان، والشخصية، والدين، والثقافة ..
عجاف من الوطن والأهل والأصالة.. عجاف لأن الغربة كرب وحدها فإذا اجتمع إليها غربة الاسم والدين والنفس، غرفة اللسان والفكر، غربة اللباس والسلوك والإشارة - زاد كربها كربا وغمها غما...
وهي سنوات سمان، تعلمت فيها كثيرا عن الحرية، تعلمت قيادة السيارات، امتلكت سيارة، أرسلت آلاف الجنيهات إلى الوطن السليب و اشتريت بيتا آوي إليه، وأصبح عندي مشروع صغير أعيش منه.
منذ سنوات لم أكن قط مسست فتاة أو كلمتها، وهنا تعلمت كيف تكون القبل باردة لا طعم لها، وكيف تكون اللذة رخيصة لا قيمة لها.
منذ سنوات كنت بريئا كما الطفل، طاهرا كماء البحر، عذبا كنيل مصر، فقيرا ككل المصريين.. لم أكن أستطيع الزواج من عقيلة كريمة أو نسيبة شريفة ولكني اليوم تدنست كثيرا، ولم أعد طفلا، وأصبحت رجلا له سيئات كثيرات وسوءات مقززات ومع ذلك يمكنني الآن الزواج من أجمل وأرق الإناث ومن أعز العائلات، والفضل بل الحقيقة تشدو بأنني صرت ثريا وخرجت من ربقة الفقر التي يخافونها وعرفت يدي الطريق إلى اليورو الساحر، الويل لنا جميعا لقد صرنا عبيدا للدرهم!
لقد تعلمت كثيرا، وأنا في رحلة الموت على قارب مكهن، تركت شهادتي الجامعية، وتاريخي العربي، ومضاضة الكراهية لمن قتلوا جدي وهو يحفر القناة، وشردوا أولاده من بعده، إنني ذاهب لأعمل أجيرا عند من سرقوا فلسطين ووهبوها للصوص .. استسلمت اليوم لبحر الروم الأوربي، ورضخت لرغبتي الجامحة في التحول، وحلمي اللحوح بالحياة ولو في قبضة الموت.. ولكن عجبا أيمنحوني الحياة التي حرموا جدي منها بلا ثمن ولا عوض؟؟
تعملت كثيرا وأنا في معسكرات اللاجئين.. نأكل الطعام الجيد، ونتسلم الزي الجيد.. يعاملوننا معاملة راقية وفي كل لحظة أتذكر وطني الذي هجرته وأهلي الذين فرحوا بشدة لسفري وغربتي، وفرحوا أكثر بما حققت من مكاسب.. لقد نجوت من الموت - على عكس كثير من إخواني - وصادفني التوفيق ونزلت بسلام على شواطيء اليونان، وانتقلت إلى فرنسا، ومنها إلى انكلترا ..
غيرت جنسيتي والتجئت إلى فلسطين الذبيحة؛ لأول مرة أرى لليهود فضلا عليّ، فالإنكليز الذين وعدوا بوطن لليهود ووفوا لهم بقيام إسرائيل يمنحون حق الحياة لضحايا ربيبتهم، ومن يتمسحون بها أيضا..
اليوم صرت فلسطينيا وتسميت اسما جديدا، واتخذت عنوانا جديدا، اليوم أنا من رام الله، أصبحت لي أوراق جديدة.. أعايش معالمي الجديدة، ووطني السليب الجديد، هل قدرنا أن نتجرع مرارة الأوطان السليبة؟
تجربة فريدة أن تترك اسمك واسم أبيك وجدك ولقبك لتعيش في ثوب آخر، وأن تتبرأ من وطنك للعمل في وطن آخر.. أليس قتلا أن يرحمك الضابط الإنكليزي الذي يعرف أنك كاذب وأنك مصري وأنك هارب من أرض الأهرام التي يعشقونها ومن النيل الذي يمجدونه، ومع ذلك يمنحك الحق في البقاء على أنك فلسطيني، يا الله!! هل الإنكليز الجرمانيون أرحم من المصريين العرب المسلمين؟
لكن الحاجة للعمل والحاجة لدخل أعلى تطلبت اسما جديدا، عمل في الصباح وآخر في المساء، ولو كان لي روحان لعملت بهما معا وتركت مصر لحظها تتعثر...
كان لدي ثلاثة أسماء، والأغرب أنه اختلط علي فوقعت في أحد الأعمال باسمي في العمل الآخر، وعندما تذكرت وحاولت تبرير تصرفي أمام الموظف، قلت له العربي الفسطيني يغير اسمه حسب البيئة فهو إلى جوار البحر هادي وسلسبيل وبحار، وفي الصحراء صخر وماهر وصابر وواسع، وفي البطحاء سهل وسهيل وربيع وربيعة، وفي الحدائق مطر ورياض وجمال وزاهر، وفي الحرب فارس وأمير وشجاع وماجد، وفي السماء نجم وبدر وسامي، وفي إنكلترا لا يعرف ما هو اسمه: لحظة أتذكر اسمي يا وطني!!!
Faqeeh2life@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق