د. فايز أبو شمالة
يا ليت ما بين سلطة رام الله وبين غزة مثل ما بين رام الله وتل أبيب، وأن تفكر رام الله في مصالحة المسلمين في غزة بالمقدار نفسه الذي تعمل فيه على مصالحة اليهود في تل أبيب، بمعنى آخر؛ يا ليت سلطة رام الله تكره حركة حماس مثلما تكره الحركة الصهيونية في تل أبيب، وليس أكثر من ذلك، لأن كراهية رام الله لتل أبيب كراهية محمودة محببة، فيها غزل عفيف، لا يصل إلى حد الاحتكاك الجسدي العنيف، وفيه لقاءات سرية، وقبلات علنية، وفيه تعاون وتنسيق، لذا نستحلفكم بالله في رام الله أن تغضبوا على غزة بالقدر ذاته الذي تغضبوا فيه على تل أبيب، ولا بأس أن تعاهدوا الله على عودة غزة، وأن تقسموا على استردادها، ولكن يا حبذا لو كان بالقدر ذاته الذي تصرون فيه على عودة تل أبيت؛ على افتراض أن تل أبيب أرض فلسطينية اغتصبها الصهاينة وأقاموا عليها دولتهم اليهودية، وسأفترض أن غزة أرض فلسطينية اغتصبتها حركة حماس، وأقامت عليها إمارتها الإسلامية. ليبقى الأمل أن تصير غزة طرفاً آخر مثلما صارت تل أبيب طرفاً آخر.
ويا ليت رام الله تستقبل التهنئة بالعيد من الطرف الآخر في غزة مثلما تستقبل التهنئة بالعيد من الطرف الآخر في تل أبيب، وأن تتجرأ رام الله وتطالب المجتمع الدولي مقاطعة الطرف الآخر في تل أبيب، مثلما تقاطع الطرف الآخر في غزة، فإذا كانت غزة مخطوفة من حماس فإن تل أبيب مخطوفة من الحركة الصهيونية. وفي المقابل يا ليت حماس تنجح في التهدئة مع السلطة الفلسطينية في رام الله مثلما نجحت في التهدئة مع إسرائيل، وأن تتوافق مع الفصائل على وقف الصواريخ الكلامية ضد رام الله مثلما نجحت في التوافق مع الفصائل على وقف الصورايخ التفجيرية ضد إسرائيل، لعل ذلك مقدمة للمصالحة الفلسطينية.
ويا ليت السلطة في رام الله تلتقي مع حركة حماس وتنسق معها شئون حياة الناس اليومية، وتعمل على فتح المعابر، وإدخال مواد البناء لغزة، وترفع عنها الحصار، مثلما تلتقي مع الإسرائيليين في تل أبيب، وتنسق معهم كثيراً من أمور الناس اليومية والأمنية، ليصير التنسيق بين رام وغزة بمستوى التنسيق بين رام الله وتل أبيب.
في يوم العيد يرفع الفلسطينيون رأسهم إلى السماء، ويضرعون إلى الله بأن تنجح المصالحة الفلسطينية قائلين مع أبي فراس الحمداني:
فيا ليت ما بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خراب.
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
وكل عام وأنتم بخير، ووئام
**
كوني عاقراً يا أرض فلسطين
ما قاله الشاعر العراقي مظفر النواب، في قصيدته المشهورة "القدس عروس عروبتكم" قبل عشرات السنين يتحقق اليوم، وقد صارت أرض فلسطين عاقراً، وتوقف رحم نسائها عن الإخصاب، وما عادت قادرة على أن تلد، أو تعطي بديلاً للسيد عباس، الذي لوح بعصا الاعتزال، فاهتزت كل الأغصان وألقت بأوراقها الجافة، وهي تصرخ من الشرق إلى الغرب: لا بديل عنك يا مصدر الكرامة والمجد، نريدك ولا نريد غيرك، لا بدائل تقود المرحلة سواك، أنت وبس القائد الفذ الذي لا قبله ولا بعده، وأنت فقط من تلتقي على شواطئك كل أمواج الوطن الهادر بالمفاوضات، وتصب في بحرك كل روافد رفض المقاومة؟
أيعقل ذلك؟ وما العمل لو توفي السيد عباس بنوبة قلبية، أو بأي حادث عارض؟ هل تضيع حركة فتح، ويضيع التنظيم، وتضيع المنظمة، وتنتهي السلطة؟ أي وطن هذا الذي يعلق في عرقوب شخص، ويتأرجح بين أنامله؟، أيعقل أن السيد عباس قد صار يفوق الشهيد أبي عمار مكانته وتأثيراً، ورمزية، وصار يمسك بزمام كل الأمور؟
ما الذي يجري في فلسطين؟ وكيف التقت كل الآراء، والأسماء، والشخصيات والقيادات لتطالب بضرورة ترشيح السيد عباس نفسه، فلا خيار سواه، ولا أمل جفاه؟
قد يكون اللهاث خلف السيد عباس له معنيان:
الأول: اضمحلال القيادات السياسية الفلسطينية إلى حد البؤس، والفشل في ترتيب أمرها. ولا أحسب ذلك، وقد تم التوافق بالأمس على السيد عباس رئيساً بعد استشهاد عرفات.
الثاني: النفاق السياسي الذي جعل الجميع يتسابق للغناء على ربابة السيد عباس، وقد وثق جميعهم أن الذي يجري مناورة، وبالتالي يتوجب دعمها، والمطالبة بعودة الرجل، وتسجيل المواقف. وهذا هو الوجع الفلسطيني الذي يجب أن نبرأ منه قبل الحديث عن تحرير فلسطين، ومحاربة الصهيونية، إنه وجع التزلف، والانقياد، والتسليم للقائد، والانقياد، إنه وجع الرعب من نقد القيادة، والخشية من المبيت في العراء لو تجرأ صوت وقال ما يخالف حلم القائد.
ما سبق يفرض علينا التميز بين من ينشد وطن، ويستعد للتضحية بالنفس، وبين من ينشد حياة الدنيا، ويستعد للتضحية بكل شيء إلا بالنفس.
**
العدو الإسرائيلي أم الطرف الآخر؟
أعرف نفسك، حكمة إغريقية قديمة اعتبرها الفلاسفة مدخلاً مهماً لمعرفة الآخرين، ولتحديد موقع الإنسان في هذه الحياة بشكل عام، وهي حكمة قد ترشد الإنسان الفلسطيني ليعرف نفسه، وليحدد موقعه من إسرائيل. ما هي دولة إسرائيل بالنسبة إليك؟
بعضهم يرى إسرائيل دولة عدوةً بالمفهوم الكامل للعداوة، وما تفرضه من كراهية، وما تفرزه من أحقاد، واستعداد للمواجهة، وهذا حال غالبية الشعب الفلسطيني، ولا أحسب أن فلسطينياً واحداً من صلب هذه الأرض يرى في إسرائيل صديقة، بغض النظر عن لونه وانتمائه ودينه ورأيه وتاريخه الشخصي. ولكن بعض الفلسطينيين يرى في إسرائيل طرفاً آخر وفق التسمية السياسية؛ فلا هي عدوة ولا هي صديقة.
بين رؤية إسرائيل عدوة، أو رؤيتها طرفاً آخر، يتحكم في الساحة الفلسطينية خطابان سياسيان، ولكل خطاب دلالته، وانعكاسه الوجداني، وعميق مساره الذي يتوازى مع الخطاب الآخر. ففي حين يصف أحد الخطابين إسرائيل بالعدو، ويكرر المقولة في كل أحاديثه الثقافية، ولقاءاته الفكرية، ووسائل إعلامه، ويدرك ما يترتب على هذه العداوة من أفعال. وخطاب يحسب أن إسرائيل ليست عدوة، وإنما هي طرف الآخر، وعليه يسعى لتعميم ثقافة المهادنة، ويعمل على اقتلاع ثقافة العداوة لدولة إسرائيل وفق الاتفاقيات الموقعة، والتي تلزمه بغرس ثقافة الوئام بدلاً من الخصام. فما أوسع الهوة بين الخطابين، وما أبعد أثرها على مستقبل القضية الفلسطينية، ولاسيما أن الذي يقول: العدو الإسرائيلي، يقصد أن لا تفاوض، ولا صلح، ولا سلام، ولا لقاء مع هذا العدو الغاصب إلا في ساح الوغى. أما الذي يقول: الطرف الآخر، فإنه يقصد التفاهم معه، والتوصل لاتفاق، وفتح بوابة اللقاء معه، بل والتنسيق المشترك.
أما الذي يقول: العدو الإسرائيلي، فإنه يرى ما يدور من أحداث يومية هي تعبير عن صراع وجود لا مهادنة فيه مع الغاصب، وأما الذي يقول: الطرف الآخر، فإنه يرى ما يدور نزاعاً سياسياً على حدود الدولة الفلسطينية، ويمكن التغلب عليه مع المحتل. الأول يرى في الصراع مع إسرائيل بعداً عقائدياً سيرتد على أفكار وقلوب شعوب المنطقة ككل، صراع يمتد من بداية الهجمة الصهيونية، ولا يتوقف عند حدود هدنة سنة 1948، والآخر يرى أن الذي يجرى هو نزاع سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يمكن حله بالانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967.
قد يتفق معي كثيرون؛ بأن بطاقة تعريف الفلسطيني هي موقفه من دولة إسرائيل، هل إسرائيل دولة عدوة أم طرف آخر؟!.
**
الأقصى، خداعٌ للصورة
توزع عبر البريد الإلكتروني صور عن الحفريات اليهودية تحت المسجد الأقصى، ويوصي مرسل الصور أن نوزعها لفضح المخططات اليهودية، والصور جميلة بحق، وتخطف الأبصار، وتشد المشاهد لمتابعتها، ولاسيما أنها تكشف عن جوانب مهمة من الحفريات اليهودية تحت أساسات المسجد الأقصى كما يدعي مرسل الصور.
إذن هي صور التقطتها الدعاية اليهودية، وتعمدت نشرها عبر وسائل الإعلام، والهدف منها ليس تحذير المسلمين مما سيلحق بمقدساتهم، وإنما تقديم الدليل على حق اليهود في المكان، وهذا ما تلمسته وأنا أدقق في مجموع الصور، إذ تظهر إحدى الصور مجسماً على هيئة الهيكل مدفوناً تحت الأرض، وتظهر صورة أخرى لوحة أثرية كتب عليها باللغة العبرية ما ترجمته: "ستظل عيني، ويظل قلبي هنالك إلى الأبد". وتظهر صورة أخرى تابوتاً مقدساً نابتاً من الأرض، وكأنه عامود نور، وتظهر إحدى الصور المغطس الرخامي، وتظهر بعض الصور أقواساً من الحجارة المبنية بشكل هندسي دقيق، وممرات مرصوفة بالحجارة الأثرية، وكل هذا دلائل على وجود معالم تاريخية يهودية تحت مباني المسجد الأقصى!.
الغريب أن الذي ينشر هذه الصور، ويوزعها عبر البريد الإلكتروني هم عرب ومسلمون حريصون على الدفاع عن المسجد الأقصى، ولكنهم للأسف؛ قد وقعوا فريسة للإعلام اليهودي، وقد انطلت عليهم الخدعة.
أزعم أن الهدف الذي تسعى إليه الدعاية اليهودية من وراء نشر الصور هو تهيئة العقل، والنفس العربية الإسلامية لتقبل الدعاية بأن الدين اليهودي لا يأتيه الباطل، وهذه الصور دليل على وجود الهيكل المزعوم، وأنه أقدم من المسجد الأقصى الذي بني على أنقاضه، وتشهد الصور على أن التاريخ اليهودي المسجل في كتبهم الدينية صادق، وكل ما أدعاه اليهود عن حقوق تاريخية ودينية في كل فلسطين غير مشكك فيها.
قبل خمسة وعشرين عاماً سألني أحد المحققين اليهود: لماذا سمي المسجد الأقصى بالأقصى؟ وأعترف الآن أنني قد حرت بالجواب، واجتهدت بالتفسير اللغوي للكلمة كي لا أبدو جاهلاً، ولكن المحقق المثقف ثقافة دينية يهودية قال: سموه الأقصى لبعده عن الأرض، وما صار بعيداً عن الأرض إلا لأنه الأقرب إلى السماء، .ومن ذاك المكان كان الإسراء.
**
أشواقٌ تتسلقُ الأشواكَ
أصدّق أن السجين "عبد الله أوجلان" زعيم حزب العمال الكردستاني قد عشق محاميته، كما جاء في صحيفة "كونيش" التركية، بعد أن التقى فيها مئات المرات، وأزعم أن الحب لا يحتاج إلى مئات اللقاءات، فالحبُّ يكتفي بنظرة حيناً، وأحياناً يلهو كالأطفال في الطرقاتِ، قبل أن يكبر، ويصير غيمة تسقط أمطار الشوق على المحبين، وتنثر رذاذه على ضوء المصباح، ليطل عليهم كل صباح في مرايا النفس، التي تصير خلف السور كالبلور تعكس عطرها المنثور، وتلامس بالحنين قلب السجين "عبد الله اوجلان" وترطبه بأرق شعور، وهي تشحن حياته بإرادة البقاء.
وللحب في غرف السجن مذاق النسيم، ورائحة البنفسج المنبعثة من أنفاس الزائرين، فإن تكررت زيارة امرأة بعينها، فإنها تصير الأكسجين الذي تتنفسه الرئتين، وتزفره حسرة مع الفراق، فالمرأة هي إرادة الحياة، وهي الذاكرة المتقدة في الغياب. وهذا ما حصل مع السجين سمير القنطار سنة 1992، حيث ترددت علي زيارته فتاة فلسطينية من عكا، لينمو عشب الحب على جدران قلبه، وهو يهمس لي في سجن نفحة الصحراوي عن شوقه الذي لا ينطفئ للفتاة الزائرة. ورغم محاولاتي لثنية عن هذا الحب الذي لن يحصل على شهادة ميلاد بين محكوم بالمؤبد، وبين امرأة يحاصرها الإعجاب بالسجين والشفقة عليه، إلا أن الرغبة في تواصل الحياة فرضت نفسها حباً على القلبين، وصل إلى أقصى مراميه بإعلان خطبتهما خلف الأسوار، ولكنها خطوبة لم تستطع أن تخترق جدران الغرفة، وظلت شوقاً معلقاً على الأشواك!. ليخرج سمير القنطار بعد ستة عشر عاماً، ويتزوج المذيعة اللبنانية "زينب برجاوي" سنة 2009، بعد أن غطى الزمان بأحداثه مصير الفتاة الفلسطينية.
في حالة أخرى أثمر الحب خلف الأسوار زواجاً؛ فقد حصل أن هاتف السجين الإسرائيلي المشهور "هرتزل أبيتان" أمه من سجن بئر السبع، وردت على الهاتف فتاة إسرائيلية لا تتعدي 17 عاماً، جاءت لزيارة أمه بالصدفة، فما كان من "هرتزل" إلا أن دعاها لحضور محاكمته، وهناك التقيا، وتعانقا، ليستيقظ بين قلبيهما حبٌ لم ينم على فراش الزوجية إلا بعد أن أجبرا إدارة سجن بئر السبع على توفير غرفة حب خاصة لهما، يلتقيان فيها يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وفق القانون الذي لا يطبق على السجناء العرب.
فما أحوج السجين إلى همسه حنان، وظلال أملٍ، ولمسة أمان! وما أوسع أفق السجين، وما أنقى قلبه، وما أصدق حبه، وما أرق دمعه، وما أطول صبره!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق