يذكر ان صاحب مصطلح " رأس المال الفكرى" هو رالف ستير مدير شركة جونسون فيلي للأطعمة حيث قال: " في السابق كانت المصادر الطبيعية أهم مكونات الثروة الوطنية وأهم الموجودات ، بعد ذلك أصبح رأس المال متمثلاً في النقد والموجودات الثابتة هما أهم مكونات المنظمات والمجتمع ، أما الآن فقد حل محل المصادر الطبيعية والنقد والموجودات الثابتة رأس المال الفكري الذي يعد أهم مكونات الثروة الوطنية وأغلى موجودات الامم" , ويقصد برأس المال الفكرى تلك الفئة من البشر التى تمتلك الخبرة والمعرفة والقدرة الإبداعية والمواهب الفطريه التى تمكنها من دفع عجلة التقدم على المستوى القومى , إن رأس المال الحقيقي الذي تملكه الامم هو " رأس المال الفكري" وما تتميز به امه عن اخرى هو القدر الذى تستطيع به تحويل رأس المال الفكري إلى قيمة من خلال ما تحدثه من الاختراعات والابتكارات فى شتى المجالات , ومما لاشك فيه ان قيمة رأس المال الفكري استثمار له عائد على المدى الطويل , ولكي يتحقق هذا العائد يجب أن تكون هناك تكاليف تتحملها الامه نظير حصولها على هذا العائد لاحقا , لذلك يجب ان تبذل من أجله كل الطاقات في سبيل الحصول عليه , ولكن يبدو ان واقع الحال مختلف تماما , حيث لايدرك كثير من القائمين على الامور ان أي فكرة أو معرفة لا تصبح ذات قيمة أوفائدة ما لم يتم تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ , لقد كان مفهوم رأس المال الفكرى – ومازال- فى اذهان من نادوا به او من عملوا على تنظيره ينسحب فقط على منظمات الاعمال من الشركات والمؤسسات والهيئات ولكننى اعتقد ان هذا المفهوم جدير بالتطبيق على الامم والدول , وخاصة بالدول التى فى طور التقدم او التى تخلفت عنه .
ان نقطة الانطلاق الاولى لرأس المال الفكرى على مستوى الدول لابد ان تنبع من الاقتناع بانه الاساس فى النهضه والتنميه , ومدى هذا الاقتناع لابد ان يكون باتساع يشمل القمه والقاعده على حد سواء , ويقصد بالقمه النخب سواء اكانت الحاكمه ام المثقفه , ويقصد بالقاعده جميع الافراد فى سوق العمل , و برأيى ان البدايه يجب ان تكون باتجاهين متوازيين : الاول يتمثل فى النشأ بكافة المستويات التعليميه , اما الثانى فيتمثل فى كافة المفردات المكونه لسوق العمل . وبالطبع لن يكون كل هؤلاء من المبدعين , فليس من المتصور ان يكون هناك مجتمع بالكامل من المفكرين او المخترعين , لكن افراز مبدعين ومفكرين سيكون بالامر الهين ان توافرت البيئه الملائمه والتى تعنى فى المقام الاول اتجاه المجتمع بكافة طبقاته الى المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الكبوه الحضاريه التى يمر بها , والتى من ابراز دلائلها " الاستهلاك لا الانتاج – الاستيراد لا التصدير " , ان اتخاذ المعرفه طريقا لتجاوز الكبوه الحضاريه , وارتياد ركب التقدم لابد ان يكون على ثلاث محاور : المحور الأولى يشمل الاهتمام بتوفير التعليم كعامل من عوامل اكتساب وتطوير التكنولوجيا , المحور الثاني يتركز على ربط متطلبات سوق العمل بنوعية التعليم من حيث الكم والتخصصيه , المحور الثالث يتمثل فى حق كل فرد بالمجتمع فى الحصول على التعليم الكافى الذى يجعل منه قيمه انسانيه قادره على توجيه سلوكه للتكيف مع نفسه ومع مجتمعه , لكن حتى لو استطعنا الوصول الى صياغه جيده لتلك البيئه التى نصفها بالملائمه الا ان هناك عقبات كثيره ستقف حائلا بيننا وبين ما نصبو اليه , اهم تلك العقبات عدم وجود منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الى جنب مع المنظومه التعليميه , ونقصد بالاصلاحيه تكييف النظم واللوائح والتعليمات لتتامشى فى نفس الخط , حيث يمثل الكثير منها حجر عثره امام التقدم والتنميه , وخاصة فيما يتعلق باسلوب عمل الجهات الرقابيه المختلفه , والتى لاتعى الدور المنوط بها , يواكب ذلك اسلوب الاختيار لاصحاب القرار فى الوظائف القياديه العليا وما يمكن ان تحدثه هذه القيادات من تغيير وتقدم ان كانوا من المبدعين والموهبين فى الاداره , او ما يحدثوه من تأخر وتخلف ان كانوا من اصحاب الاقلام المرتعشه التى تخشى اتخاذ او التوقيع على اى قرار خوفا من ان يقترفوا اخطاء بحق اللوائح او التعليمات , ان فكرة رأس المال الفكرى تحتاج لكثير من التأمل حيث تتشابك فيها الكثير من المحددات والمعطيات وتتعلق بكثير من القناعات فى اذهان المجتمع بكافة مستوياته , لكنها فكره تحتاج منا وقفه جاده مع انفسنا كأمه تريد ان تنهض من كبوتها الحضاريه.
2- الفقر الابداعى والفقر المعرفى
ان المكون الاول لثروات الامم والذى تقوم عليه نهضتها , رأسمالها الفكرى المكون من مجموعه من المبدعين فى شتى المجالات , وعلى ذلك فأن الامم التى اهتمت بهذا العنصر استطاعت ان تأخذ باسباب التقدم , لكن دائما كان هناك سدا منيعا يقف حائلا بين استغلال رأس المال الفكرى لدى الامم يمكننا ان نطلق عليه " الفقر الابداعى " ويتمثل فى عدم وجود طاقات ابداعيه بالمجتمع يمكن ان تبتكر او تخترع او تحدث نظريات جديده تؤدى الى تقدم العلوم او الاداب وبالتالى الى تقدم الامه , وظاهرة الفقر الابداعى يمكن ان نتأملها على مدار التاريخ بامتداد الحضارات المختلفه , بدءً من الحضاره الفرعونيه مرورا بالحضاره اليونانيه والفينيقيه والاشوريه والفارسيه والصينيه والرومانيه والاسلاميه ثم عصر النهضه الحديثه , فغالبا ما كان الفقر الابداعى يصاحبه – بل احد اسبابه – الفقر المعرفى , والذى يتمثل فى نقص او تشوه المعارف لدى الامه فيما يخص العلوم المختلفه , وظاهرة الفقر المعرفى تبدأ تتنامى فى فترات ضعف وتراخى الامم على المستوى الفردى والجماعى , وقد تمتد باتجاه جيل او جيلين او اكثر , حتى تنطفئ شعلة الابداع رويداً رويداً , و تغرق الامه فى ظلام الفقر المعرفى الشبه تام ويمتد فى الاجيال التاليه ضاربا بجذوره بامتداد تاريخا طويلا , ويصاحب الفقر المعرفى جميع انواع الفقر الاخرى - اقتصاديه واجتماعيه وصحيه ودينيه وسياسيه – ونتيجه لذلك كله تصاب الامه بالفقر الابداعى التام.
ومما يجدر ذكره ان مصطلح ادارة المعرفه ظهر على يد كارل ويج وذلك في ندوة لمنظمة العمل الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة عام 1986م , ولا يعنى ذلك ان ادارة المعرفه موضوع جديد , بل انه مفهوم قديم , حيث ان ممارسة إدارة المعرفه من الامور المتداوله على مر العصور , وادارة المعرفه هى مجموعة من الاجراءات التي تساعد فى الحصول على المعرفة واختيارها و تنظيمها واستخدامها ونشرها ، وتحويل المعلومات والخبرات والمهارات التي يمتلكها الافراد الى منظومه جماعيه تمثل الامه , حيث تكون الاساس الذى يبنى عليه الابداع الفردى والجماعى اللازم لصنع التقدم فى شتى مجالات الحياه , وتنقسم المعرفه الى قسمين احدهما المعرفة الضمنيه والاخرى المعرفة الظاهرية , وفى حين تهتم المعرفة الضمنية بالمهارات والتي هي مرتكزه في عقل وقلب الشخص , وهى معارف يصعب اكسابها أو تحويلها للآخرين , كما انه يصعب وضع المعرفه الضمنية في كلمات منطوقة وهناك مقوله معروفه: " أننا نعرف أكثر مما يمكننا أن نقول" , و تتعلق المعرفه الضمنية بالمهارات والخبرات الفنية والادراكيه , اما المعارف الظاهرية فتتعلق بما هو مدون فى الكتب او فى القصص المتوارث وغالبا ما يتمكن غالبية الأفراد من الاطلاع عليها او سماعها أو استخدامها , وتمثل القيم والصور الذهنية والحدس والاستعارات ونفاذ البصيرة جانبا مهما من جوانب المعرفه التي ينبغي الاعتناء والاهتمام بها لأنها تشكل جزءا مهما من الابداع , وفى مجال المعرفه يمكننا ان نفرق بين : نظرية المعرفه وعلم المعرفه , فنظرية المعرفة تتناول عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث الطبيعه والقيمه والحدود والعلاقه بالواقع، وعلى ذلك فانها تركز على الاتجاهات الاختبارية والعقلانية والمادية والمثالية , اما علم المعرفه ويطلق عليه " الإبستيمولوجية " وهو مصطلح إغريقي يتألف من كلمتين: epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم , ويعني عند البعض " علم المعرفة أو علم العلم " , كما يعنى عند البعض: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية , والإبستيمولوجية عملت على تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم ، والخطوات التي يتكون منها، وكذلك نقد العلوم والعودة إلى مبادئه الاساسيه , وقد حض على ذلك التقدم العلمى السريع والمتنامى، وظهور مبدأ التخصص كاساسا ثابتا فى الاعمال ، وكذلك تلك التغيرات الجوهريه في بنية منظومة العلوم , لكن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط دون سواها, كما انها تنظر فى وسائل إنتاج المعرفة , و تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة , فى حين تنزع نظرية المعرفة الى تقديم اجابات مطلقة وعامة وشاملة , ان المعرفه سواء على مستوى النظريه او مستوى العلم تحتاج الى بيئه حاضنه مبنيه على اسس صحيحه وسليمه يمكن من خلالها ان تتشكل معارف الامه وبالتالى ينمو الوعى , والذى لابد ان يؤدى الى ولادة الابداع الذى لا محيص عنه للتقدم .
3- سياسات التعليم
ان الهدف الاساسى من تنمية رأس المال الفكرى هو افراز مبدعين ومفكرين فى شتى مجالات المعرفه النظريه والتطبيقيه , ويمكن تحقيق ذلك فى ظل توافر البيئه الملائمه والتى تبدأ يوم ان يتجه المجتمع بكل افراده وامكاناته نحو المعرفه كوسيله للتقدم , ويمثل التعليم حجر الزاويه فى منظومة المعرفه حيث يعتبره كثيرا من المتخصصين هدفا ووسيلة في آن واحد , وتتمثل ازمة الدول الناميه او المتخلفه فى عدم قدرتها على توفير متطلبات التقدم، بسبب عدم القدره على تسخير والاستفاده من المعرفة وما يتوافر لها من المعلومات والتكنولوجيا الحديثه , وعلى ذلك فان منظومة التعليم لابد ان تتعرض لاعادة الصياغه فيما يخص المجالات و المضمون والوسائل , والاهتمام بالتعليم يجب ان يبنى على ثلاث محاور اساسيه اولها يتمثل فى طرق ووسائل تنظيم اكتساب وتطوير العلوم وخاصة العلوم التكنولوجيه الحديثه , وثانيهما ربط التعليم باحتياجات سوق العمل سواء من حيث الكم او التخصص , وثالثهما حق كل مواطن فى اكتساب قدر كافى من التعليم يؤهله للقيام بدوره الفعال فى المجتمع , لكن حتى اذا استطعنا الوصول الى صياغه جيده لتلك المنظومه فلابد ان نوجد منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الى جنب مع المنظومه التعليميه , وتتمثل المنظومه الاصلاحيه فى توفير بيئه حاضنه للتقدم وتبدأ من تكييف القوانين و النظم واللوائح والتعليمات لتتامشى مع المنظومه الجديده , بالاضافه الى توجيه كافة الطاقات والامكانيات الماديه والبشريه نحو الارتقاء المعرفى ,ويتطلب ذلك الدراسه الكامله لتجارب الدول التى اخذت باسباب التقدم المعرفى كمدخل للتقدم الشامل فى مختلف نواحى الحياه, وذلك فيما يخص السياسات او الخطط على المستويين الاستراتيجى والتكتيكى سواء فيما يخص المناهج او طرق التدريس او وسائل اعداد المعلم او المؤسسات التعليميه والعمل على تكامل دورها مع دور المجتمع سواء على مستوى الاسره او الافراد .
ان معظم الدراسات الخاصه بالتعليم فى الوطن العربى توصلت الى ان الخلل فى المنظومه التعليميه ادت الى تشوه كبير فى الهيكل المعرفى للمتعلمين متمثلا فى الانخفاض الشديد فى التحصيل المعرفى , وعدم وجود قدرات كافيه على مستوى التحليل والابتكار , فمن حيث المجالات فهناك خلل جوهري واضح تتمثل اهم مظاهره فى عدم وجود موائمه بين سوق العمل ومتطلبات التنمية من ناحية وبين ناتج التعليم من ناحية أخرى , وبالطبع يتضح ذلك فى ضعف إنتاجية الفرد بالاضافه الى وجود اضطراب كبير فى هيكل الأجور فى كثير من شرائح وقطاعات السوق , علاوه على انخفاض العوائد الاقتصاديه والاجتماعيه المتحققه من العمليه التعليميه , كناتج طبيعى للمعادله الصعبه المتوافره الان بالوطن العربى من كثرة الخريجين وقلة المقبول منهم فى سوق العمل لضعف مستواهم التعليمى والمهارى وبالتالى ارتفاع معدل البطاله , اما من حيث المضمون فيتمثل فى عدم قدرة النظام التعليمى الحالى على توفير المتطلبات الضروريه للاخذ باسباب التقدم , وقد ادى ذلك الى وجود هوه او منطقه عازله بين المجتمع والمعرفه الحضاريه والانسانيه , اما الوسائل والاساليب فهى متخلفه كثيرا فى اغلب المؤسسات التعليميه خاصة فى الدول العربيه كثيفة السكان او الدول ذات الامكانيات الماديه المتواضعه وذلك فى المؤسسات التعليميه الحكوميه , وحتى فى المؤسسات التعليميه الخاصه او المؤسسات التعليميه الحكوميه فى الدول ذات الدخل المرتفع الا ان جميعها تفتقر الى الاساليب والوسائل الناجحه لتعظيم قدرات المتعلمين وامدادهم بالمهارات اللازمه لسوق العمل , كذلك التوقف عن التعليم لمجرد حصول الفرد على المؤهل اللازم لالتحاقه بسوق العمل يمثل كارثه حقيقيه على المستوى المعرفى للمجتمع , حيث يتوقف التحصيل المعرفى لاولئك الافراد ويفقدون الاتصال بكل ما هو جديد وحديث على مستوى ما حصلوا عليه من تعليم او حتى على مستوى ما يقومون به من ادوار وظيفيه فى مجال اعمالهم , فلا يجب ان يكون التعليم بالمدارس او الجامعات هو نهاية المطاف للافراد ولايعد كافيا لتأهيل المجتمع وتنميته , بل يجب ان يكون التعليم مستمرا بامتداد عمر الفرد "مدى الحياة" , ويمثل التدريب الامتداد الطبيعى للتعليم المدرسى والجامعى وهو لا يختص بفئه دون غيرها وانما ضروريا لكافة الافرد فى سوق العمل او خارجه , فقد يحتاجه الفرد خارج نطاق تخصصه وايضا خارج نطاق عمله , فقد يحتاجه لتنمية مهارات اتصاله وتفاعله مع اولاده او مجتمعه على وجه العموم , وعلى ذلك فاننا نحتاج الى اعادة تاهيل لافراد المجتمع والمؤسسات التعليميه والتدريبيه وفق افاق جديده اكبر مما نحن عليه الان فى ظل فلسفه اقرب ما تكون الى مدخل متقدم للمعرفه فى اوسع معانيها , حتى لا نجد انفسنا فى معزل عما يدور حولنا من تغيرات وتحولات سريعه بعد ان فاتنا الكثير , فلابد لنا ان نتبنى منظومة اصلاحيه واسعه للتعليم فهو الاساس والخيار الاول للحاق بركب الحضاره.
4- القيم الانسانية
أن عقل الإنسان وفكره وما ينتج عنهما من ابداع هو المصدر الاساسى لرأس المال الفكري ووهناك نوع اخر من انواع رأس المال يطلق عليه رأس المال الاجتماعى , وهو يعنى قدرة المجتمع على الارتقاء ذاتيا من خلال تكامل مجهودات وعطاء أفراده دون التزام بقوانين وانما نتاج اقتناع كامل بضرورة المساهمه فى نهضة المجتمع , على ذلك فان رأس المال الاجتماعي مصدره الاساسى هو التنظيم المبنى على القيم الانسانيه , والمتأمل لمسيره الحضاره الانسانيه على مر التاريخ سيرى ان المجتمعات التى استطاعت ان توجد منظومه مستنده على قواعد قيميه , كانت الأكثر حظا في التفوق على غيرها من المجتمعات المعاصره لها , وان كان هناك استثناء فى بعض مراحل التاريخ الانسانى فلا تعدو عن كونها شواذ القاعده , وحتى وقت ليس بالبعيد لم يكن فى محيط النظريات الاقتصادية الحديثه او القديمه اى تنظير يشمل مجموعة القيم والأخلاق الاجتماعيه كمساهم في عملية التنمية ، ولم تعترف تلك النظريات الا بالمعايير المادية البحتة فى صياغات التنميه مثل متوسط دخل فرد ، والناتج القومي الإجمالي ، ومقدرة الدولة على زيادة الإنتاج بمعدلات اعلي من معدلات النمو السكاني , وغاب فى الفكر الاقتصادى البعد الإنساني فى علاقته بالتنمية ، وعلى الرغم من ان المجتمعات المتقدمه قد اخذت بمبدأ القيم الاجتماعيه الا ان ربط تلك القيم بالنظريات والمذاهب الاقتصاديه قد تاخر كثيرا فى الادبيات الاقتصاديه , وان بدا فى الافق بعضا منها مثل ما يعرف بالمسئوليه الاجتماعيه للشركات والذى يعنى فى مجمله ان تلعب الشركات دورا فى تنمية مجتمعاتها من خلال ما تقدمه من مال او جهد او مشوره فى تنمية بعض الفئات الغير قادره او البذل لبعض المجالات التى تقصر عنها جهود الدوله اوالتناغم مع امال الامه فى اتمام مشروعات مصيريه تدفع بها قدما الى الامام , ولا يتوقف الامر عند الشركات فقط بل هو مزيجا متكاملا فى كل نواحى الحياه , تقوده مجموعة من القيم والأخلاق الاجتماعية بما يسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي على المستوى المؤسسى والفردى بما يشكل بنية أساسية للعلاقات الاقتصادية والسياسية والتنظيميه ، حيث تتجسد القيم والأخلاق من خلال هياكل وبنى اجتماعية لصالح كل افراد المجتمع مدعمه لمصالحهم ومقويه لتماسكهم , فتصبح الحياه ليست قاصره على تبادل السلع فقط ، بل يشملها تعزيز دور الموطنين كافراد او جماعات فاعله فى مجتمعاتها , فتتراكم فى المجتمع قيم التنظيم والعدالة والشفافية واحترام الآخر والنفع العام والمحافظه على مكتسبات الامه , فيصبح المجتمع قادرا على التغلب على مشكلاته الواحده تلو الاخرى , ومن الطبيعى ان ينتج ذلك تقوية للثقة في عمليات ومؤسسات التبادل الاقتصادي وبالتالى يزيد من كفاءتها وسرعتها، كما أنه يخلق علاقة قوية بين الدولة والمجتمع يمكن من خلالها مد جسور التفاهم المؤسسي للاشتراك فى تحديد الأهداف والسياسات المتعلقه بالتنمية , فالتبرع بالأموال لدعم المؤسسات والجهات التي تفيد المجتمع وكذلك التطوع بالوقت والجهد للمشاركة في بناء المجتمع هي اليوم من المسلمات فى كثير من البلدان المتقدمه , فما الذى يدفع بيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت للتبرع بأكثر من 30 مليار دولار تخصص للأعمال الخيرية في الصحة والتعليم , ويقررالتخلي عن مهام إدارة شركته ليسخر نفسه ووقته وفكره لخدمة المجتمع , لقد بلغت أوقاف جامعة هارفارد امريكيه اليوم أكثر من 30 مليار دولار, كما بلغت اوقاف جامعة تكساس أكثر من عشرة مليارات دولار, ولا يمر شهرعلى جامعة فلوريدا دون ان تتلقى تبرع يفوق المليون دولار لدعم نشاط من أنشطتها التعليمية أو البحثية , ان ذلك كله نتاج افعال افراد عاديين يستشعرون دورهم القيمى فى مجتمعهم ولا يقتصر الامر على رجال الاعمال فقط بل يتعداه الى شرائح المجتمع كلها فهناك مطربه امريكيه شهيره تتبرع باكثر من ثلثى دخلها لدعم المجتمع , انها منظومه قيميه ينصهر فى بوتقتها الكثير من الافعال التى تدفع بالتنميه قدما الى الامام.
5- مزيج من المعرفه والابداع وثقافه المجتمع
الاميرة فاطمة اسماعيل
اذا قرر المجتمع بكافة طبقاته الاتجاه الى المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الهوه الحضاريه التى وقع فيها , فلابد ان يبدأ من المعرفه والتى لابد ان ينطلق من طياتها الابداع , لكن هذا الابداع يحتاج الى امكانيات واليات , تتمثل فى موارد ماليه يتم من خلالها اقامة مراكز بحثيه جديده او تمويل المراكز البحثيه القائمه والتى تعانى الاهمال او البيروقراطيه المفرطه والتى يتحول بمقتضاها الباحثين الى موظفين قتلهم الاحباط وقضى على مواهبهم الروتين العقيم ودمر نفسياتهم رؤساء لا يجدون من يحاسبهم على انتاجهم او مخرجات مراكزهم البحثيه او مدى اجادتهم فى الادارة , واذا اعتبرنا ان اقسام الدراسات العليا بالجامعات والاكاديميات مراكز بحثيه عامه , فهل هناك خطة بكل قسم من الاقسام سواء تغطى الاجل القصير او الطويل , ولا اقصد بالخطط الكم اى اعداد المقبولين كل عام او كل فصل دراسى او عدد الابحاث وانما اقصد مواضيع البحث التى يتم التركيز عليها , فهل عمل القائمون على الدراسات العليا بدراسة احتياجات المجتمع المحلى او حتى العالمى لتحديد المواطن التى يجب التركيز عليها لتقابل هذه الاحتياجات , فتحل مشاكل التصنيع اوتكتشف طرق اواساليب جديده لتخفيض تكلفة منتج ما او اكتشاف علاج لمرض ما او صنع اله طبيه او هندسيه , او العمل على حل مشاكل ضعف الخبره والمهاره لدى الخريجين او تاهيلهم للدخول الى سوق العمل , او ابتكار نظريات اداريه جديده ؟ , وماهى الموازنات الماليه المرصوده لكى يتمكن الباحثون من انجاز فروضهم البحثيه ؟ , وما الذى يتقضاه الاساتذه المشرفين على الباحثين حتى يتمكنوا من متابعة عملهم ؟ اننى اعتقد ان هذه الاماكن هى اول منابع الابداع وهى ايضا التى تضع البذره الاولى للمعرفه , لكن هذه المراكز البحثيه ماذا قدمت للمجتمع ؟ وماذا قدم لها المجتمع حتى تتمكن من تقديم ما يعمل على تطويره سواء على مستوى الفرد او المؤسسات او حتى على مستوى الاسره ؟ ان التواصل بين منابع المعرفه والابداع والمجتمع تحتاج الى جسور قويه من التبادل والالمام بحجم المنافع التى ستعود على المجتمع باكمله , كما تحتاج الى الشفافيه التى يتولد عنها الثقه التى تجعل الجميع يعمل من خلال منظومه قوامها المصلحه والمنفعه المتبادله للجميع , ولقد ذكرنا من قبل ان الاوقاف التى رصدها المجتمع لجامعة هارفارد بامريكا تبلغ اليوم حوالى ثلاثين مليار دولار, مساهمه منه فى تمويل مورد من موارد المعرفه والابداع , فكم تبلغ التبرعات اواوقاف المجتمع اليوم لكل الجامعات المصريه او العربيه ؟ ومن الجدير بالذكر ان جامعة القاهره (والتى كانت تعرف باسم جامعة فؤاد الاول) اقيمت على ارض اوقفتها الاميره الأميرة "فاطمة إسماعيل" (1853-1920) حيث أوقفت مساحة من أراضيها الزراعية ليذهب ريعها إلى الجامعة فتضمن بذلك مصدرا للتمويل، كما تبرعت بجزء كبير من مجواهراتها كسيوله ماليه للبدء فى المشروع ، كما خصصت الارض المقام عليها الحرم الجامعى من حيازتها الخاصه ، وشاركت فى وضع حجر الأساس في الاحتفال الذي أقيم في 31 مارس 1914م ,وقد ساهم كثيرون غيرالاميره فاطمه فى استكمال بناء جامعة القاهره ,فقد تبرعت كافة طوائف الشعب بالمال واوقف اخرين ريع اراضيهم الزراعيه للصرف على استكمال البناء , لقد غابت هذه الروح واضحت منارات العلم والمعرفه لا تمثل للمجتمع وحتى للمنتسبين اليها الا تخريج الاف الشباب كل عام لينضم اكثرهم الى سوق البطاله , ومن انضم منهم الى سوق العمل ترك تخصصه الاصلى ليعمل فى مجال ليس له علاقه بما درسه فى الجامعه , بلاضافه الى بضعة الاف من الرسائل والابحاث العلميه التى يكون مآلها ارفف المكتبات او الارشيف , لاتفيد المجتمع ولايتلاقى اكثرها مع متطلباته , هذا هو حال منارات المعرفه فى اوطاننا , ناهيك عن الضعف التام فى اجور الاساتذه المفترض انهم يبدعون ويصنعوا المبدعين , هل درس القائمون على منارات العلم ببلادنا لماذا لم تحصل جامعاتنا على اى مراكز متقدمه فى التصنيف العالمى للجامعات( طبقا للتصنيف الامريكى او الاوربى) ؟ فى حين حازت دول مثل الهند وجنوب افريقيا على مراكز متقدمه فى التصنيف , وما هى الخطوات التى اتخذت للارتفاع بالمستوى الذى يؤهل جامعتنا لمنافسه حقيقيه مع الجامعات العالميه ؟ , اننى اعتقد ان الحكومات مسئوله بدرجه كبيره على توجيه نظر الجامعات الى التواصل مع المجتمع , كما انها مسئوله ايضا عن خلق ثقافه المعرفه لدى المجتمع , ان ثقافة المجتمع تنبع من وسائل كثيره يجب ان تكون متسقه معا لتحقق اهدافها , مثل القوانين والتعبئه العامه نحو موضوع ما, وعمل المنظمات الاهليه او ما يسمى منظمات المجتمع المدنى من جمعيات اهليه ونقابات مهنيه واحزاب سياسيه , ان التناغم والتوافق بين المعرفه والابداع وثقافة المجتمع هى البدايه الحقيقيه نحو التقدم واللحاق بركب الحضارة
ان نقطة الانطلاق الاولى لرأس المال الفكرى على مستوى الدول لابد ان تنبع من الاقتناع بانه الاساس فى النهضه والتنميه , ومدى هذا الاقتناع لابد ان يكون باتساع يشمل القمه والقاعده على حد سواء , ويقصد بالقمه النخب سواء اكانت الحاكمه ام المثقفه , ويقصد بالقاعده جميع الافراد فى سوق العمل , و برأيى ان البدايه يجب ان تكون باتجاهين متوازيين : الاول يتمثل فى النشأ بكافة المستويات التعليميه , اما الثانى فيتمثل فى كافة المفردات المكونه لسوق العمل . وبالطبع لن يكون كل هؤلاء من المبدعين , فليس من المتصور ان يكون هناك مجتمع بالكامل من المفكرين او المخترعين , لكن افراز مبدعين ومفكرين سيكون بالامر الهين ان توافرت البيئه الملائمه والتى تعنى فى المقام الاول اتجاه المجتمع بكافة طبقاته الى المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الكبوه الحضاريه التى يمر بها , والتى من ابراز دلائلها " الاستهلاك لا الانتاج – الاستيراد لا التصدير " , ان اتخاذ المعرفه طريقا لتجاوز الكبوه الحضاريه , وارتياد ركب التقدم لابد ان يكون على ثلاث محاور : المحور الأولى يشمل الاهتمام بتوفير التعليم كعامل من عوامل اكتساب وتطوير التكنولوجيا , المحور الثاني يتركز على ربط متطلبات سوق العمل بنوعية التعليم من حيث الكم والتخصصيه , المحور الثالث يتمثل فى حق كل فرد بالمجتمع فى الحصول على التعليم الكافى الذى يجعل منه قيمه انسانيه قادره على توجيه سلوكه للتكيف مع نفسه ومع مجتمعه , لكن حتى لو استطعنا الوصول الى صياغه جيده لتلك البيئه التى نصفها بالملائمه الا ان هناك عقبات كثيره ستقف حائلا بيننا وبين ما نصبو اليه , اهم تلك العقبات عدم وجود منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الى جنب مع المنظومه التعليميه , ونقصد بالاصلاحيه تكييف النظم واللوائح والتعليمات لتتامشى فى نفس الخط , حيث يمثل الكثير منها حجر عثره امام التقدم والتنميه , وخاصة فيما يتعلق باسلوب عمل الجهات الرقابيه المختلفه , والتى لاتعى الدور المنوط بها , يواكب ذلك اسلوب الاختيار لاصحاب القرار فى الوظائف القياديه العليا وما يمكن ان تحدثه هذه القيادات من تغيير وتقدم ان كانوا من المبدعين والموهبين فى الاداره , او ما يحدثوه من تأخر وتخلف ان كانوا من اصحاب الاقلام المرتعشه التى تخشى اتخاذ او التوقيع على اى قرار خوفا من ان يقترفوا اخطاء بحق اللوائح او التعليمات , ان فكرة رأس المال الفكرى تحتاج لكثير من التأمل حيث تتشابك فيها الكثير من المحددات والمعطيات وتتعلق بكثير من القناعات فى اذهان المجتمع بكافة مستوياته , لكنها فكره تحتاج منا وقفه جاده مع انفسنا كأمه تريد ان تنهض من كبوتها الحضاريه.
2- الفقر الابداعى والفقر المعرفى
ان المكون الاول لثروات الامم والذى تقوم عليه نهضتها , رأسمالها الفكرى المكون من مجموعه من المبدعين فى شتى المجالات , وعلى ذلك فأن الامم التى اهتمت بهذا العنصر استطاعت ان تأخذ باسباب التقدم , لكن دائما كان هناك سدا منيعا يقف حائلا بين استغلال رأس المال الفكرى لدى الامم يمكننا ان نطلق عليه " الفقر الابداعى " ويتمثل فى عدم وجود طاقات ابداعيه بالمجتمع يمكن ان تبتكر او تخترع او تحدث نظريات جديده تؤدى الى تقدم العلوم او الاداب وبالتالى الى تقدم الامه , وظاهرة الفقر الابداعى يمكن ان نتأملها على مدار التاريخ بامتداد الحضارات المختلفه , بدءً من الحضاره الفرعونيه مرورا بالحضاره اليونانيه والفينيقيه والاشوريه والفارسيه والصينيه والرومانيه والاسلاميه ثم عصر النهضه الحديثه , فغالبا ما كان الفقر الابداعى يصاحبه – بل احد اسبابه – الفقر المعرفى , والذى يتمثل فى نقص او تشوه المعارف لدى الامه فيما يخص العلوم المختلفه , وظاهرة الفقر المعرفى تبدأ تتنامى فى فترات ضعف وتراخى الامم على المستوى الفردى والجماعى , وقد تمتد باتجاه جيل او جيلين او اكثر , حتى تنطفئ شعلة الابداع رويداً رويداً , و تغرق الامه فى ظلام الفقر المعرفى الشبه تام ويمتد فى الاجيال التاليه ضاربا بجذوره بامتداد تاريخا طويلا , ويصاحب الفقر المعرفى جميع انواع الفقر الاخرى - اقتصاديه واجتماعيه وصحيه ودينيه وسياسيه – ونتيجه لذلك كله تصاب الامه بالفقر الابداعى التام.
ومما يجدر ذكره ان مصطلح ادارة المعرفه ظهر على يد كارل ويج وذلك في ندوة لمنظمة العمل الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة عام 1986م , ولا يعنى ذلك ان ادارة المعرفه موضوع جديد , بل انه مفهوم قديم , حيث ان ممارسة إدارة المعرفه من الامور المتداوله على مر العصور , وادارة المعرفه هى مجموعة من الاجراءات التي تساعد فى الحصول على المعرفة واختيارها و تنظيمها واستخدامها ونشرها ، وتحويل المعلومات والخبرات والمهارات التي يمتلكها الافراد الى منظومه جماعيه تمثل الامه , حيث تكون الاساس الذى يبنى عليه الابداع الفردى والجماعى اللازم لصنع التقدم فى شتى مجالات الحياه , وتنقسم المعرفه الى قسمين احدهما المعرفة الضمنيه والاخرى المعرفة الظاهرية , وفى حين تهتم المعرفة الضمنية بالمهارات والتي هي مرتكزه في عقل وقلب الشخص , وهى معارف يصعب اكسابها أو تحويلها للآخرين , كما انه يصعب وضع المعرفه الضمنية في كلمات منطوقة وهناك مقوله معروفه: " أننا نعرف أكثر مما يمكننا أن نقول" , و تتعلق المعرفه الضمنية بالمهارات والخبرات الفنية والادراكيه , اما المعارف الظاهرية فتتعلق بما هو مدون فى الكتب او فى القصص المتوارث وغالبا ما يتمكن غالبية الأفراد من الاطلاع عليها او سماعها أو استخدامها , وتمثل القيم والصور الذهنية والحدس والاستعارات ونفاذ البصيرة جانبا مهما من جوانب المعرفه التي ينبغي الاعتناء والاهتمام بها لأنها تشكل جزءا مهما من الابداع , وفى مجال المعرفه يمكننا ان نفرق بين : نظرية المعرفه وعلم المعرفه , فنظرية المعرفة تتناول عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث الطبيعه والقيمه والحدود والعلاقه بالواقع، وعلى ذلك فانها تركز على الاتجاهات الاختبارية والعقلانية والمادية والمثالية , اما علم المعرفه ويطلق عليه " الإبستيمولوجية " وهو مصطلح إغريقي يتألف من كلمتين: epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم , ويعني عند البعض " علم المعرفة أو علم العلم " , كما يعنى عند البعض: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية , والإبستيمولوجية عملت على تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم ، والخطوات التي يتكون منها، وكذلك نقد العلوم والعودة إلى مبادئه الاساسيه , وقد حض على ذلك التقدم العلمى السريع والمتنامى، وظهور مبدأ التخصص كاساسا ثابتا فى الاعمال ، وكذلك تلك التغيرات الجوهريه في بنية منظومة العلوم , لكن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط دون سواها, كما انها تنظر فى وسائل إنتاج المعرفة , و تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة , فى حين تنزع نظرية المعرفة الى تقديم اجابات مطلقة وعامة وشاملة , ان المعرفه سواء على مستوى النظريه او مستوى العلم تحتاج الى بيئه حاضنه مبنيه على اسس صحيحه وسليمه يمكن من خلالها ان تتشكل معارف الامه وبالتالى ينمو الوعى , والذى لابد ان يؤدى الى ولادة الابداع الذى لا محيص عنه للتقدم .
3- سياسات التعليم
ان الهدف الاساسى من تنمية رأس المال الفكرى هو افراز مبدعين ومفكرين فى شتى مجالات المعرفه النظريه والتطبيقيه , ويمكن تحقيق ذلك فى ظل توافر البيئه الملائمه والتى تبدأ يوم ان يتجه المجتمع بكل افراده وامكاناته نحو المعرفه كوسيله للتقدم , ويمثل التعليم حجر الزاويه فى منظومة المعرفه حيث يعتبره كثيرا من المتخصصين هدفا ووسيلة في آن واحد , وتتمثل ازمة الدول الناميه او المتخلفه فى عدم قدرتها على توفير متطلبات التقدم، بسبب عدم القدره على تسخير والاستفاده من المعرفة وما يتوافر لها من المعلومات والتكنولوجيا الحديثه , وعلى ذلك فان منظومة التعليم لابد ان تتعرض لاعادة الصياغه فيما يخص المجالات و المضمون والوسائل , والاهتمام بالتعليم يجب ان يبنى على ثلاث محاور اساسيه اولها يتمثل فى طرق ووسائل تنظيم اكتساب وتطوير العلوم وخاصة العلوم التكنولوجيه الحديثه , وثانيهما ربط التعليم باحتياجات سوق العمل سواء من حيث الكم او التخصص , وثالثهما حق كل مواطن فى اكتساب قدر كافى من التعليم يؤهله للقيام بدوره الفعال فى المجتمع , لكن حتى اذا استطعنا الوصول الى صياغه جيده لتلك المنظومه فلابد ان نوجد منظومه اصلاحيه تعمل جنبا الى جنب مع المنظومه التعليميه , وتتمثل المنظومه الاصلاحيه فى توفير بيئه حاضنه للتقدم وتبدأ من تكييف القوانين و النظم واللوائح والتعليمات لتتامشى مع المنظومه الجديده , بالاضافه الى توجيه كافة الطاقات والامكانيات الماديه والبشريه نحو الارتقاء المعرفى ,ويتطلب ذلك الدراسه الكامله لتجارب الدول التى اخذت باسباب التقدم المعرفى كمدخل للتقدم الشامل فى مختلف نواحى الحياه, وذلك فيما يخص السياسات او الخطط على المستويين الاستراتيجى والتكتيكى سواء فيما يخص المناهج او طرق التدريس او وسائل اعداد المعلم او المؤسسات التعليميه والعمل على تكامل دورها مع دور المجتمع سواء على مستوى الاسره او الافراد .
ان معظم الدراسات الخاصه بالتعليم فى الوطن العربى توصلت الى ان الخلل فى المنظومه التعليميه ادت الى تشوه كبير فى الهيكل المعرفى للمتعلمين متمثلا فى الانخفاض الشديد فى التحصيل المعرفى , وعدم وجود قدرات كافيه على مستوى التحليل والابتكار , فمن حيث المجالات فهناك خلل جوهري واضح تتمثل اهم مظاهره فى عدم وجود موائمه بين سوق العمل ومتطلبات التنمية من ناحية وبين ناتج التعليم من ناحية أخرى , وبالطبع يتضح ذلك فى ضعف إنتاجية الفرد بالاضافه الى وجود اضطراب كبير فى هيكل الأجور فى كثير من شرائح وقطاعات السوق , علاوه على انخفاض العوائد الاقتصاديه والاجتماعيه المتحققه من العمليه التعليميه , كناتج طبيعى للمعادله الصعبه المتوافره الان بالوطن العربى من كثرة الخريجين وقلة المقبول منهم فى سوق العمل لضعف مستواهم التعليمى والمهارى وبالتالى ارتفاع معدل البطاله , اما من حيث المضمون فيتمثل فى عدم قدرة النظام التعليمى الحالى على توفير المتطلبات الضروريه للاخذ باسباب التقدم , وقد ادى ذلك الى وجود هوه او منطقه عازله بين المجتمع والمعرفه الحضاريه والانسانيه , اما الوسائل والاساليب فهى متخلفه كثيرا فى اغلب المؤسسات التعليميه خاصة فى الدول العربيه كثيفة السكان او الدول ذات الامكانيات الماديه المتواضعه وذلك فى المؤسسات التعليميه الحكوميه , وحتى فى المؤسسات التعليميه الخاصه او المؤسسات التعليميه الحكوميه فى الدول ذات الدخل المرتفع الا ان جميعها تفتقر الى الاساليب والوسائل الناجحه لتعظيم قدرات المتعلمين وامدادهم بالمهارات اللازمه لسوق العمل , كذلك التوقف عن التعليم لمجرد حصول الفرد على المؤهل اللازم لالتحاقه بسوق العمل يمثل كارثه حقيقيه على المستوى المعرفى للمجتمع , حيث يتوقف التحصيل المعرفى لاولئك الافراد ويفقدون الاتصال بكل ما هو جديد وحديث على مستوى ما حصلوا عليه من تعليم او حتى على مستوى ما يقومون به من ادوار وظيفيه فى مجال اعمالهم , فلا يجب ان يكون التعليم بالمدارس او الجامعات هو نهاية المطاف للافراد ولايعد كافيا لتأهيل المجتمع وتنميته , بل يجب ان يكون التعليم مستمرا بامتداد عمر الفرد "مدى الحياة" , ويمثل التدريب الامتداد الطبيعى للتعليم المدرسى والجامعى وهو لا يختص بفئه دون غيرها وانما ضروريا لكافة الافرد فى سوق العمل او خارجه , فقد يحتاجه الفرد خارج نطاق تخصصه وايضا خارج نطاق عمله , فقد يحتاجه لتنمية مهارات اتصاله وتفاعله مع اولاده او مجتمعه على وجه العموم , وعلى ذلك فاننا نحتاج الى اعادة تاهيل لافراد المجتمع والمؤسسات التعليميه والتدريبيه وفق افاق جديده اكبر مما نحن عليه الان فى ظل فلسفه اقرب ما تكون الى مدخل متقدم للمعرفه فى اوسع معانيها , حتى لا نجد انفسنا فى معزل عما يدور حولنا من تغيرات وتحولات سريعه بعد ان فاتنا الكثير , فلابد لنا ان نتبنى منظومة اصلاحيه واسعه للتعليم فهو الاساس والخيار الاول للحاق بركب الحضاره.
4- القيم الانسانية
أن عقل الإنسان وفكره وما ينتج عنهما من ابداع هو المصدر الاساسى لرأس المال الفكري ووهناك نوع اخر من انواع رأس المال يطلق عليه رأس المال الاجتماعى , وهو يعنى قدرة المجتمع على الارتقاء ذاتيا من خلال تكامل مجهودات وعطاء أفراده دون التزام بقوانين وانما نتاج اقتناع كامل بضرورة المساهمه فى نهضة المجتمع , على ذلك فان رأس المال الاجتماعي مصدره الاساسى هو التنظيم المبنى على القيم الانسانيه , والمتأمل لمسيره الحضاره الانسانيه على مر التاريخ سيرى ان المجتمعات التى استطاعت ان توجد منظومه مستنده على قواعد قيميه , كانت الأكثر حظا في التفوق على غيرها من المجتمعات المعاصره لها , وان كان هناك استثناء فى بعض مراحل التاريخ الانسانى فلا تعدو عن كونها شواذ القاعده , وحتى وقت ليس بالبعيد لم يكن فى محيط النظريات الاقتصادية الحديثه او القديمه اى تنظير يشمل مجموعة القيم والأخلاق الاجتماعيه كمساهم في عملية التنمية ، ولم تعترف تلك النظريات الا بالمعايير المادية البحتة فى صياغات التنميه مثل متوسط دخل فرد ، والناتج القومي الإجمالي ، ومقدرة الدولة على زيادة الإنتاج بمعدلات اعلي من معدلات النمو السكاني , وغاب فى الفكر الاقتصادى البعد الإنساني فى علاقته بالتنمية ، وعلى الرغم من ان المجتمعات المتقدمه قد اخذت بمبدأ القيم الاجتماعيه الا ان ربط تلك القيم بالنظريات والمذاهب الاقتصاديه قد تاخر كثيرا فى الادبيات الاقتصاديه , وان بدا فى الافق بعضا منها مثل ما يعرف بالمسئوليه الاجتماعيه للشركات والذى يعنى فى مجمله ان تلعب الشركات دورا فى تنمية مجتمعاتها من خلال ما تقدمه من مال او جهد او مشوره فى تنمية بعض الفئات الغير قادره او البذل لبعض المجالات التى تقصر عنها جهود الدوله اوالتناغم مع امال الامه فى اتمام مشروعات مصيريه تدفع بها قدما الى الامام , ولا يتوقف الامر عند الشركات فقط بل هو مزيجا متكاملا فى كل نواحى الحياه , تقوده مجموعة من القيم والأخلاق الاجتماعية بما يسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي على المستوى المؤسسى والفردى بما يشكل بنية أساسية للعلاقات الاقتصادية والسياسية والتنظيميه ، حيث تتجسد القيم والأخلاق من خلال هياكل وبنى اجتماعية لصالح كل افراد المجتمع مدعمه لمصالحهم ومقويه لتماسكهم , فتصبح الحياه ليست قاصره على تبادل السلع فقط ، بل يشملها تعزيز دور الموطنين كافراد او جماعات فاعله فى مجتمعاتها , فتتراكم فى المجتمع قيم التنظيم والعدالة والشفافية واحترام الآخر والنفع العام والمحافظه على مكتسبات الامه , فيصبح المجتمع قادرا على التغلب على مشكلاته الواحده تلو الاخرى , ومن الطبيعى ان ينتج ذلك تقوية للثقة في عمليات ومؤسسات التبادل الاقتصادي وبالتالى يزيد من كفاءتها وسرعتها، كما أنه يخلق علاقة قوية بين الدولة والمجتمع يمكن من خلالها مد جسور التفاهم المؤسسي للاشتراك فى تحديد الأهداف والسياسات المتعلقه بالتنمية , فالتبرع بالأموال لدعم المؤسسات والجهات التي تفيد المجتمع وكذلك التطوع بالوقت والجهد للمشاركة في بناء المجتمع هي اليوم من المسلمات فى كثير من البلدان المتقدمه , فما الذى يدفع بيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت للتبرع بأكثر من 30 مليار دولار تخصص للأعمال الخيرية في الصحة والتعليم , ويقررالتخلي عن مهام إدارة شركته ليسخر نفسه ووقته وفكره لخدمة المجتمع , لقد بلغت أوقاف جامعة هارفارد امريكيه اليوم أكثر من 30 مليار دولار, كما بلغت اوقاف جامعة تكساس أكثر من عشرة مليارات دولار, ولا يمر شهرعلى جامعة فلوريدا دون ان تتلقى تبرع يفوق المليون دولار لدعم نشاط من أنشطتها التعليمية أو البحثية , ان ذلك كله نتاج افعال افراد عاديين يستشعرون دورهم القيمى فى مجتمعهم ولا يقتصر الامر على رجال الاعمال فقط بل يتعداه الى شرائح المجتمع كلها فهناك مطربه امريكيه شهيره تتبرع باكثر من ثلثى دخلها لدعم المجتمع , انها منظومه قيميه ينصهر فى بوتقتها الكثير من الافعال التى تدفع بالتنميه قدما الى الامام.
5- مزيج من المعرفه والابداع وثقافه المجتمع
الاميرة فاطمة اسماعيل
اذا قرر المجتمع بكافة طبقاته الاتجاه الى المعرفه كوسيله للتميز وتجاوز الهوه الحضاريه التى وقع فيها , فلابد ان يبدأ من المعرفه والتى لابد ان ينطلق من طياتها الابداع , لكن هذا الابداع يحتاج الى امكانيات واليات , تتمثل فى موارد ماليه يتم من خلالها اقامة مراكز بحثيه جديده او تمويل المراكز البحثيه القائمه والتى تعانى الاهمال او البيروقراطيه المفرطه والتى يتحول بمقتضاها الباحثين الى موظفين قتلهم الاحباط وقضى على مواهبهم الروتين العقيم ودمر نفسياتهم رؤساء لا يجدون من يحاسبهم على انتاجهم او مخرجات مراكزهم البحثيه او مدى اجادتهم فى الادارة , واذا اعتبرنا ان اقسام الدراسات العليا بالجامعات والاكاديميات مراكز بحثيه عامه , فهل هناك خطة بكل قسم من الاقسام سواء تغطى الاجل القصير او الطويل , ولا اقصد بالخطط الكم اى اعداد المقبولين كل عام او كل فصل دراسى او عدد الابحاث وانما اقصد مواضيع البحث التى يتم التركيز عليها , فهل عمل القائمون على الدراسات العليا بدراسة احتياجات المجتمع المحلى او حتى العالمى لتحديد المواطن التى يجب التركيز عليها لتقابل هذه الاحتياجات , فتحل مشاكل التصنيع اوتكتشف طرق اواساليب جديده لتخفيض تكلفة منتج ما او اكتشاف علاج لمرض ما او صنع اله طبيه او هندسيه , او العمل على حل مشاكل ضعف الخبره والمهاره لدى الخريجين او تاهيلهم للدخول الى سوق العمل , او ابتكار نظريات اداريه جديده ؟ , وماهى الموازنات الماليه المرصوده لكى يتمكن الباحثون من انجاز فروضهم البحثيه ؟ , وما الذى يتقضاه الاساتذه المشرفين على الباحثين حتى يتمكنوا من متابعة عملهم ؟ اننى اعتقد ان هذه الاماكن هى اول منابع الابداع وهى ايضا التى تضع البذره الاولى للمعرفه , لكن هذه المراكز البحثيه ماذا قدمت للمجتمع ؟ وماذا قدم لها المجتمع حتى تتمكن من تقديم ما يعمل على تطويره سواء على مستوى الفرد او المؤسسات او حتى على مستوى الاسره ؟ ان التواصل بين منابع المعرفه والابداع والمجتمع تحتاج الى جسور قويه من التبادل والالمام بحجم المنافع التى ستعود على المجتمع باكمله , كما تحتاج الى الشفافيه التى يتولد عنها الثقه التى تجعل الجميع يعمل من خلال منظومه قوامها المصلحه والمنفعه المتبادله للجميع , ولقد ذكرنا من قبل ان الاوقاف التى رصدها المجتمع لجامعة هارفارد بامريكا تبلغ اليوم حوالى ثلاثين مليار دولار, مساهمه منه فى تمويل مورد من موارد المعرفه والابداع , فكم تبلغ التبرعات اواوقاف المجتمع اليوم لكل الجامعات المصريه او العربيه ؟ ومن الجدير بالذكر ان جامعة القاهره (والتى كانت تعرف باسم جامعة فؤاد الاول) اقيمت على ارض اوقفتها الاميره الأميرة "فاطمة إسماعيل" (1853-1920) حيث أوقفت مساحة من أراضيها الزراعية ليذهب ريعها إلى الجامعة فتضمن بذلك مصدرا للتمويل، كما تبرعت بجزء كبير من مجواهراتها كسيوله ماليه للبدء فى المشروع ، كما خصصت الارض المقام عليها الحرم الجامعى من حيازتها الخاصه ، وشاركت فى وضع حجر الأساس في الاحتفال الذي أقيم في 31 مارس 1914م ,وقد ساهم كثيرون غيرالاميره فاطمه فى استكمال بناء جامعة القاهره ,فقد تبرعت كافة طوائف الشعب بالمال واوقف اخرين ريع اراضيهم الزراعيه للصرف على استكمال البناء , لقد غابت هذه الروح واضحت منارات العلم والمعرفه لا تمثل للمجتمع وحتى للمنتسبين اليها الا تخريج الاف الشباب كل عام لينضم اكثرهم الى سوق البطاله , ومن انضم منهم الى سوق العمل ترك تخصصه الاصلى ليعمل فى مجال ليس له علاقه بما درسه فى الجامعه , بلاضافه الى بضعة الاف من الرسائل والابحاث العلميه التى يكون مآلها ارفف المكتبات او الارشيف , لاتفيد المجتمع ولايتلاقى اكثرها مع متطلباته , هذا هو حال منارات المعرفه فى اوطاننا , ناهيك عن الضعف التام فى اجور الاساتذه المفترض انهم يبدعون ويصنعوا المبدعين , هل درس القائمون على منارات العلم ببلادنا لماذا لم تحصل جامعاتنا على اى مراكز متقدمه فى التصنيف العالمى للجامعات( طبقا للتصنيف الامريكى او الاوربى) ؟ فى حين حازت دول مثل الهند وجنوب افريقيا على مراكز متقدمه فى التصنيف , وما هى الخطوات التى اتخذت للارتفاع بالمستوى الذى يؤهل جامعتنا لمنافسه حقيقيه مع الجامعات العالميه ؟ , اننى اعتقد ان الحكومات مسئوله بدرجه كبيره على توجيه نظر الجامعات الى التواصل مع المجتمع , كما انها مسئوله ايضا عن خلق ثقافه المعرفه لدى المجتمع , ان ثقافة المجتمع تنبع من وسائل كثيره يجب ان تكون متسقه معا لتحقق اهدافها , مثل القوانين والتعبئه العامه نحو موضوع ما, وعمل المنظمات الاهليه او ما يسمى منظمات المجتمع المدنى من جمعيات اهليه ونقابات مهنيه واحزاب سياسيه , ان التناغم والتوافق بين المعرفه والابداع وثقافة المجتمع هى البدايه الحقيقيه نحو التقدم واللحاق بركب الحضارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق