الجمعة، نوفمبر 06، 2009

كيف يقرأ العرب؟


محمد فوزي عبد الحي
اختلاف القراءة هو المحك الأول لصناعة الرؤى المختلفة، ومن ثم إطلاق الأحكام المتباينة على الحالات المتماثلة، وهذا يوضح تباين فهم القراء للمقال الواحد وللقطعة الواحدة، وتفاوت تحليل المفكرين للحدث الواحد، والحركة الواحدة، اختلاف استنباط العلماء من نصوص الأحكام، وتباين تقييم البشر لما يشاهدونه ويعاصرونه من أحداث، وهذه كلها أنواع من القراءات للنصوص والأحداث والوقائع والثورات والمعارك والدعوات الإصلاحية والتسويقية والخداعية، بل والمسلسلات والأفلام والبرامج والإعلانات وأدواتها المستخدمة.

ولذلك يختلف القراء في تقييم الحدث الواحد وتفسير الخطاب الواحد، وينقسمون بين معارض ومناصر، ومن الجلي أن هذه الأمور طبيعية لا غبار عليها، بل هي من سنن الله المنثورة في الخليقة: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" القرآن الكريم (11/118)

الكارثة الحقيقية عندما يصاب جمهور الأمة بالقراءة الزائفة للنص والواقع، فعندما يكتب كاتب ثقة مشهود له بالموضوعية والاستقلال ضد عناكب الظلام وأفاعي الحقل المسروق ممن يسكنون سلة مهملات الثقافة العربية، ويتغذون - كما الحشرات - على فضلات أدبيات العقل العربي والمسلم، ويترعرعون كما الجرذان على أكوام القمامة والمخلفات الثقافية التي تعرفها كل أمة في أدوار نهضتها وتخلفها على السواء، وهذه البقع الثقافية لا تحمل إلا السموم والجراثيم بطبيعة الحال لأنها فضلات – ثم يختلف القراء في قراءة النص؛ فبينما يراه أنصار المشروع العربي الإسلامي واجبا من الواجبات، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وفضحا للإفك والكذب، يراه آخرون حربا على الإبداع، وتسلطا على الحرية، ومحاربة للعقل، إلخ تلك القصيدة المكذوبة.

ربما يرد قائل بأن هذا طبيعي؛ طبيعي أن يجد هؤلاء أنصارا لهم كما يجد أولئك أنصارا، ولكن هذا ليس طبيعيا بل شاذا، عندما تنقسم أمة على قراءة نص كتبه محامي الدفاع عن قضيتها وقلعتها، وتختلف على إكبار دور المجاهدين المناضلين في سبيلها، فتنقسم بين ساب ولاعن ومناصر، ماذا يرجى لها؟

من الطبيعي أن يختلف الناس في تأويل ما يقبل التأويل؛ أما عندما يختلفون في حكم من يخون الأمة، ويبيع الوطن، ويتاجر بدماء الشعب، ويسرق أعمار الأجيال، ويحتكر مواردهم، ويسلب حريتهم، ويتساهل مع من يسب نبيهم - صلى الله عليه وسلم – ويعادي عقيدتهم، ويحارب حضارتهم..

عندما يختلفون في وجوب الوقوف جبهة واحدة دفاعا عن حصون الأمة التي هددها حزب ابن أبي اللعين، واستباحها أتباع يهوذا وحزب صهيون في سويداء قلبها، ومتعصبو الصفويين في الجناح الشرقي، بينما خانها من يرفعون عقيرتهم بأنواع التوحيد وحقيقة التوحيد ويصدعون رءوسنا بالولاء والبراء ومن يدعون لرجوع الخلافة بعد أن ساهمت عصاباتهم في إسقاط الخلافة - فلا بد أن الأمة تعيش - وأتمنى لو ساغ استخدام الفعل "تعبر" - كارثة حقيقية في قراءتها.

حدث أن نشرتُ مقالا تحدثت فيه عن المهاجرين الغير شرعيين، وما يلقونه من متاعب في طريق رحلتهم، وعن تهافت أغلبهم على الحياة التي حرموها في أوطانهم ومن ثم انغماسهم في المحرمات الشرعية، ثم ما يلقونه من محاباة وإكبار في أوطانهم وذكرت نصا معبرا عن مأساتهم وملتفتا من ضمير الغائب إلى المتكلم لجذب الانتباه واسترعاء مشاعر القاريء وعينه:

"منذ سنوات لم أكن قط مسست فتاة أو كلمتها، وهنا تعلمت كيف تكون القبل باردة لا طعم لها، وكيف تكون اللذة رخيصة لا قيمة لها. منذ سنوات كنت بريئا كما الطفل، طاهرا كماء البحر، عذبا كنيل مصر، فقيرا ككل المصريين.. لم أكن أستطيع الزواج من عقيلة كريمة أو نسيبة شريفة ولكني اليوم تدنست كثيرا، ولم أعد طفلا، وأصبحت رجلا له سيئات كثيرات وسوءات مقززات ومع ذلك يمكنني الآن الزواج من أجمل وأرق الإناث ومن أعز العائلات، والفضل بل الحقيقة تشدو بأنني صرت ثريا وخرجت من ربقة الفقر التي يخافونها وعرفت يدي الطريق إلى اليورو الساحر، الويل لنا جميعا لقد صرنا عبيدا للدرهم"

ذكرت ذلك في محاولة لفضح سلوك المصريين الذين يمنعون بناتهم الفقراء الطائعين، رغم عفتهم وبراءتهم، ويبيعون بناتهم للأغنياء العائدين من الشمال مع دنسهم ومعصيتهم، اختلفت القراءة للنص، فالكاتب الذي يحارب هذا السلوك المشين عندما ينحاز الناس للدينار على حساب الدين، ويجعلون من المال حكما بينهم فوق توجيه الرسول الأمين - أصبح في نظر بعض القراء مشيعا للفاحشة، بل ومرتكبا للموبقات، ونسي هؤلاء أن القرآن حكى هم زوجة العزيز بنبيه يوسف، وحكى إعجاب النساء به وتقطيعهم الأيدي عند رؤيته ليؤكد على إخلاص يوسف وعفته وصبره، ولا يجرؤ أحد أن يتهم القرآن بإشاعة الفاحشة.

لماذا يصر العرب على قراءتين؛ قراءة تمثيلية خارجية تعبر عن قناعات كاذبة وفهوم مشوشة، ونقاط انطلاق موهومة؛ وقراءة أخرى داخلية لا تخرج إلا في الأماكن المغلقة وربما لا تسمعها إلا النفس الإنسانية، وهي تعتصر لحظاتها وهمومها وأحلامها الحاطمة.

في صورة أخرى للقراءات المزدوجة غير السوية، يجتمع المسئول – رئيسا أو وزيرا أو محافظا - بعمال أو موظفي إحدى المصالح، فينظمون الأشعار والخطب في مديحه، وعندما يولي دبره يأخذون في نقده وعيبه وكيل اللعائن والسباب له.

أليست هذه قراءة مزدوجة تعبر عن جريمة نفاق متعمدة لأعمال الشخص ذاته؛ قراءة نفاقية مصلحية تنظم الشعر، وتكتب الخطب، وترفع العقيرة بالكذب، هذه القراءة تعطن أنفاسك في الصحف والمجلات الأموية، والمسلسلات والأغاني الأموية، ومؤلفات المؤرخين الأمويين ممن ينظمون مواويل الديمقراطية الأموية الخرساء، ويشرحون دقائق ألواح الحرية السجينة، ويفسرون السياسات التائهة لمتون الاجتهادات الأموية في توريث يزيد، ويخرجون علينا بمئات التأويلات التي تدل على أنها وحي جديد من ألواح الوحي السماوي، وإعجاز ملهم من الإعجاز الرباني، وآيات شاهدات في الأرض على تأييد السماء!!!

هم هم ينقلبون على أنفسهم في الحجرات المغلقة والأحاديث الخاصة والشجون الشخصية ليمحو في السر ما كتبوا في العلن، وليلعنوا في الخفاء ما صرحوا به على الملأ، وليعبروا عن قراءة أخرى مناقضة تقود الأمة إلى النهاية..

إنها النهاية الحزينة التي يستشعرها كل مثقف عربي يلمس حجم الهوة التي نعيشها، وحجم الكارثة التي لا ندري المخرج منها، إننا نعيش عصر ملوك الطوائف مرة أخرى، ولكن العصر الحديث بسرعة تغيره وتطوره لن يترك للعرب الفرصة ليموتوا خلال خمسمائة عام، فقد تغيرت الظروف وبات علينا أن ننتظر النهاية خلال بضعة عقود قليلة.

قراءات حرباوية من قراءات العرب:

نحن ندعم فلسطين وندعم بقاء عروشنا برضا ماما أمريكا.
نحن حزانى لسقوط القدس وفي أشد الأسى لهدم الأقصى الوشيك ولكننا نتبع المصلحة الوطنية الاستراتيجية فنصدر الغاز والحديد لأولاد عمنا يهوذا.
نحن نعمل على تقوية الجبهة العربية والخلافات بيننا لا حصر لها والتبادل التجاري بيننا زي الزفت.
نحن عرب شجعان ولكننا نعمل من أجل سلام الخرفان.
نحن مسلمون ولكن هوانا أوروبي وأدبنا حداثي ولساننا فرانكفوني ووزراؤنا خريجو كتاتيب جامعات الغرب وأصحاب جوائز الدولة التقديرية من يلعنون ديننا ودين (اللي خلفونا).
أمين للحزب الكبير– وسلام للأحزان الشياشية - يصرح لي شخصيا: لو الإخوان وصلوا للحكم سأطلق لحيتي على الفور وأصبح إخوانيا.
مسئول كبير وداعية معروف يصرح لي شخصيا عن شيء كتبه وخالف فيه الجمهور ورأي نصره وهو واهن أفن: الحقيقة مطلوب نكتب كده.
داعية مشهور يتزوج من نصرانية ويعلم أولاده في مدارس قبطية ومع ذلك يصدع رءوسنا بأنه أزهري، وينتمي للأزهر شاء غيره أم أبى.. خلاص يا سيدي علم أولادك في الأزهر ولا إيه يا سي أزهري؟
هل ما زال العرب في طفولة فكرية، يتمسحون ويبكون صباحا لنيل دمية فارغة ثم يمزقونها ويرمون بها مساء؟

لماذا يصر كثير من العرب على التلبس بزي القديسين وهم عراة، وانتحال دور الورعين وهم فسقة، وتزعم دور الأحرار وهم عبيد، والانتساب إلى الوطن والتراب والأمة والدين وهم ممثلون أغرار، وأغراب لا انتماء لهم؟

لماذا يتمثل كثيرون وكثيرات أدوار المدافعين عن الدين وهم أجهل به من غير المسلمين؟ لماذا نحتكر دائما القراءة الصحيحة دون دليل قاطع ولا برهان ظاهر، عندما أعلنت الإمارة الإسلامية في أفغانستان كانت مشكلتها الكبرى احتكار قراءة وحيدة بل وغريبة للنص الديني والتحيز الأعمى لرأي واحد من بحر الفكر الفقهي الثري، لماذا نكره القراءات الصحيحة إذا خالفت قناعاتنا الكسيحة؟

بالأمس القريب انقضت حماس المغضوب على إسلامها وجهادها على الإمارة الإسلامية المعلنة في غزة، ورغم فجاجة هذا الإعلان، وتهافت الإخراج المسرحي له، وبرهنته على طفولة فكرية سياسية ودينية تحياها فصائل تتسنم دور النخبة – فإن حماس تعاملت معه بنفس القراءة الاحتكارية، وهم يرددون عبارات مفتيي السلطات والأنظمة الدكتاتورية من نحو: الافتيات على الإمام، ومفارقة الجماعة، والخروج على الشرعية، وهكذا يأخذون حكم الباغي الخارج والمستحق للقتل بحكم النص.

أليست مهزلة أن يتقاتل المساجين داخل السجن ويشنق بعضهم بعضا قبل صدور الحكم من السجان؟

عندما خرج شيوخ العرب ممن يحكمون العرب اليوم على دولة الخلافة العثمانية، وحاربوها ووقفوا يدعمون الإنجليز والحلفاء ضد دولة الإسلام نعت كل خارج نفسه بالمصلح والمحرر والقائد، وعندما سقطت الخلافة لعن الجميع كمال أتاتورك ونسوا أن يلعنوا قادة الإصلاح الكبار في الوطن الغجري الكبير.

عندما قاد عبد الناصر طريق الوحدة العربية غضب زعماء القبائل، وشيوخ العشائر المنعوتة بالدول، وقفوا إلى جانب العم سام حتى سقط ناصر وسقطت القومية، وسقط العرب، وعندما كانت إيران حليفا لأمريكا وقفت الجزيرة العربية إلى جانبها دعما ومساندة وودا، وعندما قامت الثورة الشيعية – وبغض النظر عن مثالبها – وقف الجميع ضد النموذج الإسلامي المطروح، وهو على أسوأ الفروض خير من نماذج العرب البائدة، واستبدادهم المنكر وحينئذ استخرجوا تراث الصفويين، ومكفرات الباطنية، وأوهام الإثنى عشرية، ودعموا صدام المسلم آنذاك في حربه ضد المسلمين ولكن عندما استهوت صدام فكرة القائد الزعيم واستولى على الكويت وقف الجميع يدعمون الحق الصباحي والخوف السعودي والحكمة المصرية، ويلعون صدام البعثي الملحد.

القراءة مغلوطة تستولي عليها عقيدة الحق النسبي ولكن الحق مطلق لا نسبي، الحق مطلق لا يتقيد إلا بالحق، الحق ينبثق من روح النص ولكن لا يلصق إفكا بالنص المعصوم والنص بريء منه.

متى نجيد القراءة؟ متى نعرف المصارحة؟ متى يتعلم العرب القراءة ويتخلصوا من متاهة الاجتهاد المأزور الذي لا يستند إلى ضوابط حاكمة، وقواعد مقررة، ومصالح مرعية، أو تأويل سائغ، متي يقرأ العرب؟

ليست هناك تعليقات: