نقولا ناصر
كيف وصل الحال الفلسطيني إلى وضعه الراهن؟ الاقتباس التالي يوفر جزءا رئيسيا من الإجابة، وهو مأخوذ من كتاب "رجل في الظلال" لمؤلفه إفرايم هاليفي، المدير السابق لجهاز الموساد في دولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي نشرته الدار العربية للعلوم مترجما إلى العربية العام قبل الماضي. ولا يحتاج الاقتباس إلى تعليق فهو غني عن البيان.
لكن التقديم له بحاجة إلى التذكير: أولا بأن المعنيين بدحض ما جاء فيه من الفلسطينيين لم يفعلوا ذلك بعد.
وثانيا بأن قادة الاستخبارات مثل هاليفي لا يتقاعدون بل يحالون إلى الاحتياط عند التقاعد وبالتالي فإن "مذكراته" التي نفى أن تكون "سيرة ذاتية" يجب التعامل معها كجزء من مهمته المستمرة حتى وفاته.
وثالثا بأن حقيقة كون الموساد لاعبا رئيسيا في إيصال الحال الفلسطيني إلى وضعه الراهن لا ينفي حقيقة وجود العامل الذاتي الفلسطيني كلاعب آخر يمكنه،
رابعا، إذا ما اختار ذلك، أن يكرر مع خطط الموساد المنجزة قصة انقلاب "القاعدة" و"طالبان" على أجهزة الاستخبارات الأميركية.
والتذكير خامسا بأن خطة الموساد موضوع الاقتباس لإفراز "قيادة بديلة للسلطة الفلسطينية" قد نجحت نجاحا ربما لم يتوقعه هاليفي نفسه.
يقول هاليفي إنه بعد انطلاق "عملية الدرع الواقي" التي نفذها جيش الاحتلال في الضفة الغربية في آذار / مارس عام 2002، اتضح "منذ البداية بأنه سيكون للعملية مهلة زمنية محدودة .. كان من الضروري" بعدها "أخذ زمام المبادرة والتوصل إلى سياسة يمكن إطلاقها غداة العملية"، لسببين:
أولا لأنه مهما كانت العملية "خاطفة وناجحة" عسكريا فإنها إذا انتهت "بدون تحقيق الهدف بعيد المدى المتمثل باستئصال الإرهاب (أي المقاومة الفلسطينية)" فإنها سوف "تبرز عجز النظام الدفاعي والأمني الإسرائيلي بدلا من أن تبرز قوته".
ولأنه ثانيا "إذا انتهت العملية ولم يتحقق" ذلك الهدف "فسوف يكون الفراغ الناشئ حافزا لإطلاق كافة أنواع المبادرات التي يمكن أن تكون كارثية من وجهة نظر إسرائيل".
وبسبب "الفراغ الحاصل في عملية صنع القرار" في دولة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، دخل الموساد "من الباب الخلفي" باقتراح "دعم خطوة من شانها أن تفرز قيادة بديلة للسلطة الفلسطينية"، لأنه "لم يكن لدى ياسر عرفات أية مصلحة في التوصل إلى تسوية حقيقية مع إسرائيل"، وكانت "تلك المرة الأولى التي يتم فيها اقتراح إحداث تغيير في الحكم في منطقة الشرق الأوسط على المجتمع الدولي". وبسبب "التأييد الشعبي العارم" لعرفات، "تمثلت الفكرة في تركه مع لقب الرئيس، لكن مع نقل صلاحياته بطريقة تجعله رئيسا صوريا يمكن مقارنته .. بملكة إنكلترا".
و"جرت صياغة خطة كثيرة التفاصيل" نصت "في المقام الأول على ضرورة تعيين رئيس تنفيذي يملك صلاحيات"، و"إعادة تنظيم" الأجهزة الأمنية الفلسطينية واختصار عددها بثلاثة، و"إعادة التفكير في النظام المالي للسلطة الفلسطينية وجعله تحت سلطة وزير للمالية يكون خاضعا لرئيس الوزراء، بدلا من أن يكون خاضعا للرئيس".
و"في حال تحقق ذلك كله، نكون قد عرفنا بأنه سوف يبرز شريك يمكن التعويل عليه وعلى استعداده للعمل والتفاوض .. إلى أن يصبح حاكما لدولة فلسطينية مستقلة تعمل جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وبدون حدود مؤقتة. وفي هذه الحالة تؤجل مفاوضات الوضع النهائي إلى أجل غير محدود".
واستغرقت "موافقة" حكومة آرييل شارون "على هذه الفكرة وعلى الخطة التفصيلية" ثلاثة أيام، وفي فترة لم تتعد "عشرة أسابيع، جرى عرض الخطة على واشنطن ولندن والقاهرة وعمان وغيرها من العواصم الفاعلة في المنطقة وخارجها". و"في 24 يونيو / حزيران، وعند الساعة 3:47 من بعد الظهر"، ظهر الرئيس الأميركي جورج بوش في الروز غاردن، وأعلن عما سماه "دعوة من أجل قيادة فلسطينية جديدة"، و"انهالت عبارات الدعم لخطة الرئيس من داخل المنطقة وخارجها، حتى أن بلدانا كانت تدافع عن شرعية الرئيس عرفات أيدت الخطوة الجديدة على الأرض وشجعت العناصر الأكثر اعتدالا داخل المعسكر الفلسطيني على انتهاز الفرصة".
"ولم تبرز حاجة إلى أن تدفع إسرائيل ثمنا سياسيا أو استراتيجيا" واقتصر "التفاهم" الدولي على الخطة على "تصور" أن تبذل إسرائيل "جهدا .. لدعم القيادة البديلة الجديدة .. في الوقت الذي ينجح فيه الضغط الدولي في حمل غالبية المجلس التشريعي الفلسطيني على تبني الخطة".
"ماذا سيكون الهدف السياسي الأول لتلك القيادة البديلة؟"
أجاب هاليفي على سؤاله بالاقتباس التالي من بوش: "عندما يصبح لدى الشعب الفلسطيني قادة جدد، ومؤسسات جديدة، وترتيبات أمنية جديدة مع جيرانه، سوف تدعم الولايات المتحدة إنشاء دولة فلسطينية تكون حدودها ونواح معينة من سيادتها مؤقتة على أن يتم التوصل إلى حل لها كجزء من تسوية نهائية في الشرق الأوسط".
ولاحظ هاليفي أن بوش "لم يحدد جداول زمنية للمفاوضات، أو مدة محددة للانتقال من هدف" إنشاء دولة "مؤقتة" إلى "المرحلة النهائية لمفاوضات الوضع النهائي. واكتست هذه المقاربة أهمية بالغة لأنها انسجمت مع وجهة نظر" شارون.
ويشكو هاليفي في مذكراته "بمرارة" من "الزلة الخطيرة" التي تمثلت في تسريب خبر إلى "صحيفة إسرائيلية يومية رائدة" كتبه "صحفي يتمتع بمصداقية" أثناء زيارة شارون لموسكو في أيلول / سبتمبر 2002 عن لقاء له مع "القائد الفلسطيني أبو مازن الذي أصبح المرشح الطبيعي لملئ مركز رئيس الوزراء" لأنه كما قال "إذا اكتسبت قصة اجتماعي بأبي مازن زخما، فقد تستخدم كذريعة لاغتياله".
ثم يروي هاليفي مذكراته عن "خريطة الطريق"، ومعارضة شارون لها، لأنها في رأيه "كانت ستلحق أضرارا بالمصالح الإسرائيلية"، بخاصة لأنها تنص على "التفاوض" على القدس، ولأنها "تضمنت جداول زمنية تصورت إمكانية التوصل إلى حل نهائي بحلول العام 2005"، لكن شارون اضطر للموافقة عليها، مع أربعة عشر شرطا، لأن "ظروفا استجدت وأملت تغييرا سريعا في السياسة" تمثلت في الاستعدادات الأميركية لغزو العراق، "على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تكن ترغب في البداية في ربط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالمسألة العراقية".
و"تصورت المرحلة الأولى" من خريطة الطريق "جهدا منسقا من جانب الفلسطينيين لتفكيك البنيات التحتية للإرهابيين (يعني المقاومة الفلسطينية)"، "ولكي يتمكنوا من القيام بذلك، كانوا بحاجة إلى التصرف كمواطنين فنلنديين، وهو ما يعتبر أمرا مستحيلا"، لكن، كما قال هاليفي في عنوان الفصل الأخير من كتابه، فإنه إذا كانت "الدبلوماسية هي فن الممكن" فإن "الاستخبارات هي حرفة المستحيل"!
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
كيف وصل الحال الفلسطيني إلى وضعه الراهن؟ الاقتباس التالي يوفر جزءا رئيسيا من الإجابة، وهو مأخوذ من كتاب "رجل في الظلال" لمؤلفه إفرايم هاليفي، المدير السابق لجهاز الموساد في دولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي نشرته الدار العربية للعلوم مترجما إلى العربية العام قبل الماضي. ولا يحتاج الاقتباس إلى تعليق فهو غني عن البيان.
لكن التقديم له بحاجة إلى التذكير: أولا بأن المعنيين بدحض ما جاء فيه من الفلسطينيين لم يفعلوا ذلك بعد.
وثانيا بأن قادة الاستخبارات مثل هاليفي لا يتقاعدون بل يحالون إلى الاحتياط عند التقاعد وبالتالي فإن "مذكراته" التي نفى أن تكون "سيرة ذاتية" يجب التعامل معها كجزء من مهمته المستمرة حتى وفاته.
وثالثا بأن حقيقة كون الموساد لاعبا رئيسيا في إيصال الحال الفلسطيني إلى وضعه الراهن لا ينفي حقيقة وجود العامل الذاتي الفلسطيني كلاعب آخر يمكنه،
رابعا، إذا ما اختار ذلك، أن يكرر مع خطط الموساد المنجزة قصة انقلاب "القاعدة" و"طالبان" على أجهزة الاستخبارات الأميركية.
والتذكير خامسا بأن خطة الموساد موضوع الاقتباس لإفراز "قيادة بديلة للسلطة الفلسطينية" قد نجحت نجاحا ربما لم يتوقعه هاليفي نفسه.
يقول هاليفي إنه بعد انطلاق "عملية الدرع الواقي" التي نفذها جيش الاحتلال في الضفة الغربية في آذار / مارس عام 2002، اتضح "منذ البداية بأنه سيكون للعملية مهلة زمنية محدودة .. كان من الضروري" بعدها "أخذ زمام المبادرة والتوصل إلى سياسة يمكن إطلاقها غداة العملية"، لسببين:
أولا لأنه مهما كانت العملية "خاطفة وناجحة" عسكريا فإنها إذا انتهت "بدون تحقيق الهدف بعيد المدى المتمثل باستئصال الإرهاب (أي المقاومة الفلسطينية)" فإنها سوف "تبرز عجز النظام الدفاعي والأمني الإسرائيلي بدلا من أن تبرز قوته".
ولأنه ثانيا "إذا انتهت العملية ولم يتحقق" ذلك الهدف "فسوف يكون الفراغ الناشئ حافزا لإطلاق كافة أنواع المبادرات التي يمكن أن تكون كارثية من وجهة نظر إسرائيل".
وبسبب "الفراغ الحاصل في عملية صنع القرار" في دولة الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، دخل الموساد "من الباب الخلفي" باقتراح "دعم خطوة من شانها أن تفرز قيادة بديلة للسلطة الفلسطينية"، لأنه "لم يكن لدى ياسر عرفات أية مصلحة في التوصل إلى تسوية حقيقية مع إسرائيل"، وكانت "تلك المرة الأولى التي يتم فيها اقتراح إحداث تغيير في الحكم في منطقة الشرق الأوسط على المجتمع الدولي". وبسبب "التأييد الشعبي العارم" لعرفات، "تمثلت الفكرة في تركه مع لقب الرئيس، لكن مع نقل صلاحياته بطريقة تجعله رئيسا صوريا يمكن مقارنته .. بملكة إنكلترا".
و"جرت صياغة خطة كثيرة التفاصيل" نصت "في المقام الأول على ضرورة تعيين رئيس تنفيذي يملك صلاحيات"، و"إعادة تنظيم" الأجهزة الأمنية الفلسطينية واختصار عددها بثلاثة، و"إعادة التفكير في النظام المالي للسلطة الفلسطينية وجعله تحت سلطة وزير للمالية يكون خاضعا لرئيس الوزراء، بدلا من أن يكون خاضعا للرئيس".
و"في حال تحقق ذلك كله، نكون قد عرفنا بأنه سوف يبرز شريك يمكن التعويل عليه وعلى استعداده للعمل والتفاوض .. إلى أن يصبح حاكما لدولة فلسطينية مستقلة تعمل جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وبدون حدود مؤقتة. وفي هذه الحالة تؤجل مفاوضات الوضع النهائي إلى أجل غير محدود".
واستغرقت "موافقة" حكومة آرييل شارون "على هذه الفكرة وعلى الخطة التفصيلية" ثلاثة أيام، وفي فترة لم تتعد "عشرة أسابيع، جرى عرض الخطة على واشنطن ولندن والقاهرة وعمان وغيرها من العواصم الفاعلة في المنطقة وخارجها". و"في 24 يونيو / حزيران، وعند الساعة 3:47 من بعد الظهر"، ظهر الرئيس الأميركي جورج بوش في الروز غاردن، وأعلن عما سماه "دعوة من أجل قيادة فلسطينية جديدة"، و"انهالت عبارات الدعم لخطة الرئيس من داخل المنطقة وخارجها، حتى أن بلدانا كانت تدافع عن شرعية الرئيس عرفات أيدت الخطوة الجديدة على الأرض وشجعت العناصر الأكثر اعتدالا داخل المعسكر الفلسطيني على انتهاز الفرصة".
"ولم تبرز حاجة إلى أن تدفع إسرائيل ثمنا سياسيا أو استراتيجيا" واقتصر "التفاهم" الدولي على الخطة على "تصور" أن تبذل إسرائيل "جهدا .. لدعم القيادة البديلة الجديدة .. في الوقت الذي ينجح فيه الضغط الدولي في حمل غالبية المجلس التشريعي الفلسطيني على تبني الخطة".
"ماذا سيكون الهدف السياسي الأول لتلك القيادة البديلة؟"
أجاب هاليفي على سؤاله بالاقتباس التالي من بوش: "عندما يصبح لدى الشعب الفلسطيني قادة جدد، ومؤسسات جديدة، وترتيبات أمنية جديدة مع جيرانه، سوف تدعم الولايات المتحدة إنشاء دولة فلسطينية تكون حدودها ونواح معينة من سيادتها مؤقتة على أن يتم التوصل إلى حل لها كجزء من تسوية نهائية في الشرق الأوسط".
ولاحظ هاليفي أن بوش "لم يحدد جداول زمنية للمفاوضات، أو مدة محددة للانتقال من هدف" إنشاء دولة "مؤقتة" إلى "المرحلة النهائية لمفاوضات الوضع النهائي. واكتست هذه المقاربة أهمية بالغة لأنها انسجمت مع وجهة نظر" شارون.
ويشكو هاليفي في مذكراته "بمرارة" من "الزلة الخطيرة" التي تمثلت في تسريب خبر إلى "صحيفة إسرائيلية يومية رائدة" كتبه "صحفي يتمتع بمصداقية" أثناء زيارة شارون لموسكو في أيلول / سبتمبر 2002 عن لقاء له مع "القائد الفلسطيني أبو مازن الذي أصبح المرشح الطبيعي لملئ مركز رئيس الوزراء" لأنه كما قال "إذا اكتسبت قصة اجتماعي بأبي مازن زخما، فقد تستخدم كذريعة لاغتياله".
ثم يروي هاليفي مذكراته عن "خريطة الطريق"، ومعارضة شارون لها، لأنها في رأيه "كانت ستلحق أضرارا بالمصالح الإسرائيلية"، بخاصة لأنها تنص على "التفاوض" على القدس، ولأنها "تضمنت جداول زمنية تصورت إمكانية التوصل إلى حل نهائي بحلول العام 2005"، لكن شارون اضطر للموافقة عليها، مع أربعة عشر شرطا، لأن "ظروفا استجدت وأملت تغييرا سريعا في السياسة" تمثلت في الاستعدادات الأميركية لغزو العراق، "على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تكن ترغب في البداية في ربط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالمسألة العراقية".
و"تصورت المرحلة الأولى" من خريطة الطريق "جهدا منسقا من جانب الفلسطينيين لتفكيك البنيات التحتية للإرهابيين (يعني المقاومة الفلسطينية)"، "ولكي يتمكنوا من القيام بذلك، كانوا بحاجة إلى التصرف كمواطنين فنلنديين، وهو ما يعتبر أمرا مستحيلا"، لكن، كما قال هاليفي في عنوان الفصل الأخير من كتابه، فإنه إذا كانت "الدبلوماسية هي فن الممكن" فإن "الاستخبارات هي حرفة المستحيل"!
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق