زهير الخويلدي
" ليس الأبيض ماهية الإنسان ولا جزء ماهيته ولا ماهية الإنسان توجب أن يكون أبيض"[1]
الإنية عند الفارابي تشير إلى وجود الشيء والى فعل إثبات تحقق هذا الوجود عينيا ولكن التعين يظل معنويا والإنية والجوهر في خصوص الأشياء لا يوجد فرقا بينهما، ولكن بخصوص الأشخاص ربما الأمر يختلف، لأن معنى الإنية ليس مشتقا من الضمير أنا باعتباره النفس المدركة بل من أن وإن وموضوعهما بيّن في جميع اللغات ويعنى الثبات والدوام والوثاقة في الوجود والعلم بالشيء وبلوغ الوجود الأكمل وهو بعينه ماهيته. "الإنية هي الوجود العيني من حيث مرتبه الذاتية" حسب تعريفات الجرجاني أما ابن سينا( في كتاب الشفاء، المنطق، المدخل 46 ) فإنه يقول:"يكون كل لفظ ذاتي إما دالا على ماهية أعم وسمي جنسا وإما دالا على ماهية أخص وسمي نوعا وإما دالا على إنية وسمي فصلا، ومعنى ذلك كله أن الفصل كالنطق للإنسان هو الذي يدل على إنيته ومرتبته الذاتية بالنسبة إلى غيره من أنواع الحيوان وهو الذي يدل على تحقق وجوده العيني."
وقد تعني الإنية في الفلسفة العربية الإسلامية الذات والماهية والهوية والشخص والعينية ولكن الذات التي يقصدها الفارابي هنا هي النفس، يقال الذاتي لكل شيء ما يخصه وما يميزه عما عداه. والذات ما يقوم بنفسه ويقابله العرض وفي المنطق الذات هي الموضوع ويقابله المحمول وتطلق على الماهية بمعنى ما به الشيء هوهو ويراد به حقيقة وجود الشيء.وقال الجرجاني:" ذات الشيء نفسه وعينه وهو لا يخلو عن العرض والفرق بين الذات والشخص أن الذات أعم من الشخص لأن الذات تطلق على الجسم وغيره والشخص لا يطلق على الجسم.". أما الهوية فتقال بالترادف على المعنى الذي يطلق عليه اسم الموجود وهي مشتقة من الهوُ كما تشتق الإنسانية من الإنسان،وهي عبارة عن التشخص تطلق على الوجود الخارجي وعلى الماهية والحقيقة الجزئية والفارابي في التعليقات 21 يقول:"هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك"، وترادف الهوية اسما يطلق على الوجود والوحدة. يصرح في هذا الإطار: " هوية الشيء وعينيته ووحدته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد. وقولنا: انه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له، الذي لا يقع فيه اشتراك. الهوهو معناه الوحدة والوجود. فاذا قلنا: زيد قلنا: زيد هو كاتب، معناه زيد موجود كاتب. "هو" يسمى رابطة ومعناه بالحقيقة الوجود. وانما يسمى رابطة لأنه يربط بين المعنيين."[2]
لكن ماذا تفيد إنية الإنسان عند الفارابي؟ وماهي علاقتها بالغيرية؟ أي سؤال أقدر على الاستفسار عنها؟
"وأما قولنا "هل الإنسان إنسان" فإنه يكون فيما بين المحمول وبين الموضوع تباين وغيرية بوجه ما- وإلا فليس يصبح السؤال- مثل "هل ما يعقل من لفظ الإنسان هو الإنسان الخارج عن النفس أو "الإنسان الكلي هو الإنسان الجزئي" أو "الإنسان الجزئي يوصف بالإنسان الكلي" أو الذي أنت تظنه حيوانا هو في الحقيقة حيوان".فإن كان معنى الإنسان الموضوع هو بعينه معنى الإنسان المحمول بعينه من كل جهاته فلا تصح المسألة عنه بحرف هل.
وان قال قائل إن الإنسان الموضوع هو الذي يدل عليه بحده فإنه لا يصح أيضا. لأن الذي يدل عليه القول إن لم يكن قد علم أنه محمول على الذي يدل عليه الاسم فليس يقال لذلك الذي يدل عليه القول انه إنسان. فلذلك لا يحمل عليه من حيث هو مسمى إنسانا، إذ كان لم يصح بعد أنه إنسان، بل إن يصح "هل الإنسان حيوان مشاء ذو رجلين أم لا" فليس تصح هذه المسألة عنه أن المحمول هو أيضا إنسان، وإنما يصح أن المحمول هو أيضا إنسان إذا صح أنه محمول عليه وصح أنه حده. أو أن يقال إن قولنا "هل الإنسان موجود إنسانا" يعني هل الإنسان وجوده وانيته هي تلك الذات المسؤولة عنها وليس له ذات بوجوه أخر، مثل أنه حيوان مشاء ذو رجلين، أي هل له وجود وماهية على ما يدل لفظه عنه فلا يمكن أن يتصور تصورا آخر أزيد منه ولا أنقص. فيكون ما نتصوره إنسانا على مثال ما عليه كثير من الأمور المسؤول عنها في الشيء، يتصور حينا مجملا وحينا مفصلا، ثم لا يكون ممكنا أن يعقل إلا بجهة واحدة فقط. فانه قد يصح هذا السؤال على هذه الجهة أيضا. وعلى ذلك فيقال "لمَ الإنسان إنسان" وبأي سبب الإنسان هو إنسان" و"لماذا الإنسان إنسان" و"عماذا". ويصح أيضا "لمَ الإنسان إنسان" إذا عني به لمَ الإنسان حيوان مشاء ذو رجلين ولمَ الإنسان ماهيته هذه الماهية.
وهذا إنما يصح في الشيء الذي له حدان أحدهما سبب لوجود الآخر فيه، مثل "لم صار كسوف القمر هو انطماس ضوئه"- فإن انطماس ضوء القمر هو الكسوف- فيقال "لأنه يحتجب بالأرض عن الشمس"، فكلاهما ماهية الكسوف، إلا أن احتجابه بالأرض عن الشمس/ هو السبب في ماهيته الأخرى. وأما فيما عدا ذلك فلا يصح فيه هذا السؤال. وقد كان هذا لا يصلح أن يسأل عنه بحرف "هل" وقد يصلح أن يصلح عنه بحرف "لمَ"."[3]
ينوع الفارابي لعبة السؤال عن الطبيعة البشرية ويتنقل بين عدة حروف مثل هل وبأي وكيف وعماذا ولمَ ولكنه يرفض البحث عن الإنسان من جهة سؤال هل لأن ذلك يبعده عن ماهيته الأصيلة ويبقيه خارج ماهو مطلوب منه تحديده ويعتني بطرح سؤال لمَ لأنه يعطي علم الوجود وسبب وجوده معا الأقدر على إثبات الإنية والاهتداء إلى الانساني في الإنسان، ويعرف الإنسان بوصفه إنسانا عاقلا يتولد من قدرة النفس على التفكير ويتفطن إلى أهمية مفهوم الإنسانية لكونها المعنى الكلي الدال على الخصائص المشتركة بين جميع الناس كالحياة والحيوانية والنطق وغيرها. "الإنسان لا يعرف حقيقة الشيء البتة لأن مبدأ معرفته الأشياء هو الحس ثم يميز بالعقل بين المتشابهات والمتباينات ويعرف حينئذ بالعقل بعض لوازمه وذاتياته وخواصه ويتدرج في ذلك إلى معرفة مجملة غير محققة."[4]
المقصود بالإنسان هنا هو الإنسان الفرد الكائن الجزئي بدلالة اسم الإشارة الذي استعمله الفيلسوف وآيته في ذلك أنه محدود وزائل ولا يجوز أن يكون الكلي زائل فاسد وهو القائل: " "طبيعة الإنسان بماهي تلك الطبيعة غير كائنة ولا فاسدة بل هي مبدعة وهي مستبقاة بأشخاصها الكائنة والفاسدة. وأما طبيعة هذا الإنسان فإنها كائنة فاسدة. وكذلك طبيعة كل واحد من العناصر مبدعة غير كائنة ولا فاسدة وهي مستبقاة بأشخاصها. وأما طبيعة هذه الأرض فإنها كائنة فاسدة."[5]
إن الإنسانية هي مجموع أفراد النوع الانساني من حيث أنهم يؤلفون موجودا جماعيا، وبعبارة أخرى هي مجموع خصائص النوع البشري المقومة لفصله النوعي التي تميزه عن غيره من الأنواع القريبة مثل الرأفة والإيثار والتعاطف التلقائي مع البشر. والإنسانية تشترك في معنى الحيوانية انتماء النوع إلى الجنس لاسيما وأن "الميت يحمل عليه الإنسان باشتراك الاسم فيقال هو الإنسان وحمله عليه غير واجب فان الإنسانية تتضمن الحيوانية ولا يصح أن يحمل الميت على أنه حيوان".[6]
يعتبر الفارابي النفس جوهر الإنسان ويميز بين النفس المتعلقة بالأجرام السماوية والنفس المرتبطة بالأشياء من نبات وجماد وحيوان والنفس الإنسانية العاقلة ويسمى العقل القوة الناطقة ويثبت وجود معاني عديدة له: الأول العقل العمومي أو الروية وهو الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان انه عاقل وهو مرجع ما يعنون به هو إلى التعقل ويعنون بالعاقل من كان فاضلا جيد الروية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير أو يجتنب من شر. الثاني: العقل الجدلي أي الإدراك العام وبادئ الرأي وهو العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون هذا ما يوجبه العقل وينفع العقل وهو إنما يعنون به المشهور في بادئ الرأي عند الجميع، الثالث: العقل البرهاني أي الإدراك الطبيعي للمبادئ الأولية والضرورية ويعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس أصلا ولا عن فكر بل بالفطرة والطبع أو من صباه ومن حيث لا يشعر من أين حصلت وكيف حصل. فإن هذه القوة جزء ما من النفس يحصل لها المعرفة الأولى، لا بفكر ولا بتأمل أصلا، واليقين بالمقدمات والمبادئ الخاصة بالعلوم النظرية. الرابع: العقل الأخلاقي أو الفطنة الأخلاقية التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر وهو جزء من النفس الذي يحصل اليقين بقضايا ومقدمات في الأمور الإرادية التي شأنها أن تؤثر أو تجتنب. الخامس: العقل الصائر من القوة إلى الفعل بالاستفادة من العقل الفعال. السادس: العقل الفعال وهو يدرك الجواهر المفارقة والحقائق الغيبية. في هذا السياق يقول الفارابي:" العقل المنفعل يكون شبه المادة والموضوع للعقل الفعال. فحينئذ يفيض من العقل الفعال على العقل المنفعل القوة التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة"[7].
الإنية تثبت بالنفس الناطقة والاستفادة من معاني العاقلية وقوى الإدراك والعمل وبتسديد من العقل الفعال وتمكن الإنسان من تحقيق إنسانيته وبلوغ السعادة وتتحقق بالانطلاق من غيرية الذات عن الموضوع والغيرية هي كون كل من الشيئين غير الآخر ويقابله العينية وهي خاصية ماهو غيري أنا والغيرية ليست الاثنينية بل تصورها ليس مستلزما لتصورها. فإن الاثنينة كون الطبيعة ذات وحدتين ويقابلها كون الطبيعة ذات وحدة أو وحدات وحينئذ لا يتصور بينهما واسطة ، فالمفهوم من الشيء إن لم يكن هو المفهوم من الآخر فهو غيره وإلا فعينه. وقد قال ابن رشد في تلخيص مابعد الطبيعة 108:"إن الذي يقابل الواحد من جهة ماهوهو هي الغيرية". والآخر هو اسم خاص بالمغاير بالشخص وبعبارة أخرى اسم للمغاير بالعدد وقد يطلق على المغاير في الماهية.
لكن إذا كانت الإنية تعني الارتقاء بالذات إلى مرتبة الوجود الأشرف ،ألا يحق لنا أن نقرب بينها وبين مفهوم الدازاين عند هيدجر من جهة كونها كينونة الموجود الانساني وحقيقة نزوعه إلى ما يريد أن يكون؟ ألا يشترك الفيلسوفان في استشكال السؤال عن الوجود وفي السير في الدرب الأنطولوجي لإثبات الإنية؟
المراجع:
أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1990..
أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية،دار المشرق، بيروت،طبعة 1964.
أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق جعفر آل ياسين، دار المناهل للطباعة والنشر، بيروت لبنان،الطبعة1 1992
[1] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1990.ص.215.
[2] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق جعفر آل ياسين، دار المناهل للطباعة والنشر، بيروت لبنان،الطبعة1 1992 ،ص399
[3] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،.ص.ص220.221.222.
[4] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول، كتاب التعليقات، ،ص387
[5] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول، كتاب التعليقات، تحقيق ،صً381
[6] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق 2 ،ص398
[7] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية،دار المشرق، بيروت،طبعة 1964.ص79.
" ليس الأبيض ماهية الإنسان ولا جزء ماهيته ولا ماهية الإنسان توجب أن يكون أبيض"[1]
الإنية عند الفارابي تشير إلى وجود الشيء والى فعل إثبات تحقق هذا الوجود عينيا ولكن التعين يظل معنويا والإنية والجوهر في خصوص الأشياء لا يوجد فرقا بينهما، ولكن بخصوص الأشخاص ربما الأمر يختلف، لأن معنى الإنية ليس مشتقا من الضمير أنا باعتباره النفس المدركة بل من أن وإن وموضوعهما بيّن في جميع اللغات ويعنى الثبات والدوام والوثاقة في الوجود والعلم بالشيء وبلوغ الوجود الأكمل وهو بعينه ماهيته. "الإنية هي الوجود العيني من حيث مرتبه الذاتية" حسب تعريفات الجرجاني أما ابن سينا( في كتاب الشفاء، المنطق، المدخل 46 ) فإنه يقول:"يكون كل لفظ ذاتي إما دالا على ماهية أعم وسمي جنسا وإما دالا على ماهية أخص وسمي نوعا وإما دالا على إنية وسمي فصلا، ومعنى ذلك كله أن الفصل كالنطق للإنسان هو الذي يدل على إنيته ومرتبته الذاتية بالنسبة إلى غيره من أنواع الحيوان وهو الذي يدل على تحقق وجوده العيني."
وقد تعني الإنية في الفلسفة العربية الإسلامية الذات والماهية والهوية والشخص والعينية ولكن الذات التي يقصدها الفارابي هنا هي النفس، يقال الذاتي لكل شيء ما يخصه وما يميزه عما عداه. والذات ما يقوم بنفسه ويقابله العرض وفي المنطق الذات هي الموضوع ويقابله المحمول وتطلق على الماهية بمعنى ما به الشيء هوهو ويراد به حقيقة وجود الشيء.وقال الجرجاني:" ذات الشيء نفسه وعينه وهو لا يخلو عن العرض والفرق بين الذات والشخص أن الذات أعم من الشخص لأن الذات تطلق على الجسم وغيره والشخص لا يطلق على الجسم.". أما الهوية فتقال بالترادف على المعنى الذي يطلق عليه اسم الموجود وهي مشتقة من الهوُ كما تشتق الإنسانية من الإنسان،وهي عبارة عن التشخص تطلق على الوجود الخارجي وعلى الماهية والحقيقة الجزئية والفارابي في التعليقات 21 يقول:"هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك"، وترادف الهوية اسما يطلق على الوجود والوحدة. يصرح في هذا الإطار: " هوية الشيء وعينيته ووحدته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد. وقولنا: انه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له، الذي لا يقع فيه اشتراك. الهوهو معناه الوحدة والوجود. فاذا قلنا: زيد قلنا: زيد هو كاتب، معناه زيد موجود كاتب. "هو" يسمى رابطة ومعناه بالحقيقة الوجود. وانما يسمى رابطة لأنه يربط بين المعنيين."[2]
لكن ماذا تفيد إنية الإنسان عند الفارابي؟ وماهي علاقتها بالغيرية؟ أي سؤال أقدر على الاستفسار عنها؟
"وأما قولنا "هل الإنسان إنسان" فإنه يكون فيما بين المحمول وبين الموضوع تباين وغيرية بوجه ما- وإلا فليس يصبح السؤال- مثل "هل ما يعقل من لفظ الإنسان هو الإنسان الخارج عن النفس أو "الإنسان الكلي هو الإنسان الجزئي" أو "الإنسان الجزئي يوصف بالإنسان الكلي" أو الذي أنت تظنه حيوانا هو في الحقيقة حيوان".فإن كان معنى الإنسان الموضوع هو بعينه معنى الإنسان المحمول بعينه من كل جهاته فلا تصح المسألة عنه بحرف هل.
وان قال قائل إن الإنسان الموضوع هو الذي يدل عليه بحده فإنه لا يصح أيضا. لأن الذي يدل عليه القول إن لم يكن قد علم أنه محمول على الذي يدل عليه الاسم فليس يقال لذلك الذي يدل عليه القول انه إنسان. فلذلك لا يحمل عليه من حيث هو مسمى إنسانا، إذ كان لم يصح بعد أنه إنسان، بل إن يصح "هل الإنسان حيوان مشاء ذو رجلين أم لا" فليس تصح هذه المسألة عنه أن المحمول هو أيضا إنسان، وإنما يصح أن المحمول هو أيضا إنسان إذا صح أنه محمول عليه وصح أنه حده. أو أن يقال إن قولنا "هل الإنسان موجود إنسانا" يعني هل الإنسان وجوده وانيته هي تلك الذات المسؤولة عنها وليس له ذات بوجوه أخر، مثل أنه حيوان مشاء ذو رجلين، أي هل له وجود وماهية على ما يدل لفظه عنه فلا يمكن أن يتصور تصورا آخر أزيد منه ولا أنقص. فيكون ما نتصوره إنسانا على مثال ما عليه كثير من الأمور المسؤول عنها في الشيء، يتصور حينا مجملا وحينا مفصلا، ثم لا يكون ممكنا أن يعقل إلا بجهة واحدة فقط. فانه قد يصح هذا السؤال على هذه الجهة أيضا. وعلى ذلك فيقال "لمَ الإنسان إنسان" وبأي سبب الإنسان هو إنسان" و"لماذا الإنسان إنسان" و"عماذا". ويصح أيضا "لمَ الإنسان إنسان" إذا عني به لمَ الإنسان حيوان مشاء ذو رجلين ولمَ الإنسان ماهيته هذه الماهية.
وهذا إنما يصح في الشيء الذي له حدان أحدهما سبب لوجود الآخر فيه، مثل "لم صار كسوف القمر هو انطماس ضوئه"- فإن انطماس ضوء القمر هو الكسوف- فيقال "لأنه يحتجب بالأرض عن الشمس"، فكلاهما ماهية الكسوف، إلا أن احتجابه بالأرض عن الشمس/ هو السبب في ماهيته الأخرى. وأما فيما عدا ذلك فلا يصح فيه هذا السؤال. وقد كان هذا لا يصلح أن يسأل عنه بحرف "هل" وقد يصلح أن يصلح عنه بحرف "لمَ"."[3]
ينوع الفارابي لعبة السؤال عن الطبيعة البشرية ويتنقل بين عدة حروف مثل هل وبأي وكيف وعماذا ولمَ ولكنه يرفض البحث عن الإنسان من جهة سؤال هل لأن ذلك يبعده عن ماهيته الأصيلة ويبقيه خارج ماهو مطلوب منه تحديده ويعتني بطرح سؤال لمَ لأنه يعطي علم الوجود وسبب وجوده معا الأقدر على إثبات الإنية والاهتداء إلى الانساني في الإنسان، ويعرف الإنسان بوصفه إنسانا عاقلا يتولد من قدرة النفس على التفكير ويتفطن إلى أهمية مفهوم الإنسانية لكونها المعنى الكلي الدال على الخصائص المشتركة بين جميع الناس كالحياة والحيوانية والنطق وغيرها. "الإنسان لا يعرف حقيقة الشيء البتة لأن مبدأ معرفته الأشياء هو الحس ثم يميز بالعقل بين المتشابهات والمتباينات ويعرف حينئذ بالعقل بعض لوازمه وذاتياته وخواصه ويتدرج في ذلك إلى معرفة مجملة غير محققة."[4]
المقصود بالإنسان هنا هو الإنسان الفرد الكائن الجزئي بدلالة اسم الإشارة الذي استعمله الفيلسوف وآيته في ذلك أنه محدود وزائل ولا يجوز أن يكون الكلي زائل فاسد وهو القائل: " "طبيعة الإنسان بماهي تلك الطبيعة غير كائنة ولا فاسدة بل هي مبدعة وهي مستبقاة بأشخاصها الكائنة والفاسدة. وأما طبيعة هذا الإنسان فإنها كائنة فاسدة. وكذلك طبيعة كل واحد من العناصر مبدعة غير كائنة ولا فاسدة وهي مستبقاة بأشخاصها. وأما طبيعة هذه الأرض فإنها كائنة فاسدة."[5]
إن الإنسانية هي مجموع أفراد النوع الانساني من حيث أنهم يؤلفون موجودا جماعيا، وبعبارة أخرى هي مجموع خصائص النوع البشري المقومة لفصله النوعي التي تميزه عن غيره من الأنواع القريبة مثل الرأفة والإيثار والتعاطف التلقائي مع البشر. والإنسانية تشترك في معنى الحيوانية انتماء النوع إلى الجنس لاسيما وأن "الميت يحمل عليه الإنسان باشتراك الاسم فيقال هو الإنسان وحمله عليه غير واجب فان الإنسانية تتضمن الحيوانية ولا يصح أن يحمل الميت على أنه حيوان".[6]
يعتبر الفارابي النفس جوهر الإنسان ويميز بين النفس المتعلقة بالأجرام السماوية والنفس المرتبطة بالأشياء من نبات وجماد وحيوان والنفس الإنسانية العاقلة ويسمى العقل القوة الناطقة ويثبت وجود معاني عديدة له: الأول العقل العمومي أو الروية وهو الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان انه عاقل وهو مرجع ما يعنون به هو إلى التعقل ويعنون بالعاقل من كان فاضلا جيد الروية في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير أو يجتنب من شر. الثاني: العقل الجدلي أي الإدراك العام وبادئ الرأي وهو العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون هذا ما يوجبه العقل وينفع العقل وهو إنما يعنون به المشهور في بادئ الرأي عند الجميع، الثالث: العقل البرهاني أي الإدراك الطبيعي للمبادئ الأولية والضرورية ويعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس أصلا ولا عن فكر بل بالفطرة والطبع أو من صباه ومن حيث لا يشعر من أين حصلت وكيف حصل. فإن هذه القوة جزء ما من النفس يحصل لها المعرفة الأولى، لا بفكر ولا بتأمل أصلا، واليقين بالمقدمات والمبادئ الخاصة بالعلوم النظرية. الرابع: العقل الأخلاقي أو الفطنة الأخلاقية التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر وهو جزء من النفس الذي يحصل اليقين بقضايا ومقدمات في الأمور الإرادية التي شأنها أن تؤثر أو تجتنب. الخامس: العقل الصائر من القوة إلى الفعل بالاستفادة من العقل الفعال. السادس: العقل الفعال وهو يدرك الجواهر المفارقة والحقائق الغيبية. في هذا السياق يقول الفارابي:" العقل المنفعل يكون شبه المادة والموضوع للعقل الفعال. فحينئذ يفيض من العقل الفعال على العقل المنفعل القوة التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة"[7].
الإنية تثبت بالنفس الناطقة والاستفادة من معاني العاقلية وقوى الإدراك والعمل وبتسديد من العقل الفعال وتمكن الإنسان من تحقيق إنسانيته وبلوغ السعادة وتتحقق بالانطلاق من غيرية الذات عن الموضوع والغيرية هي كون كل من الشيئين غير الآخر ويقابله العينية وهي خاصية ماهو غيري أنا والغيرية ليست الاثنينية بل تصورها ليس مستلزما لتصورها. فإن الاثنينة كون الطبيعة ذات وحدتين ويقابلها كون الطبيعة ذات وحدة أو وحدات وحينئذ لا يتصور بينهما واسطة ، فالمفهوم من الشيء إن لم يكن هو المفهوم من الآخر فهو غيره وإلا فعينه. وقد قال ابن رشد في تلخيص مابعد الطبيعة 108:"إن الذي يقابل الواحد من جهة ماهوهو هي الغيرية". والآخر هو اسم خاص بالمغاير بالشخص وبعبارة أخرى اسم للمغاير بالعدد وقد يطلق على المغاير في الماهية.
لكن إذا كانت الإنية تعني الارتقاء بالذات إلى مرتبة الوجود الأشرف ،ألا يحق لنا أن نقرب بينها وبين مفهوم الدازاين عند هيدجر من جهة كونها كينونة الموجود الانساني وحقيقة نزوعه إلى ما يريد أن يكون؟ ألا يشترك الفيلسوفان في استشكال السؤال عن الوجود وفي السير في الدرب الأنطولوجي لإثبات الإنية؟
المراجع:
أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1990..
أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية،دار المشرق، بيروت،طبعة 1964.
أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق جعفر آل ياسين، دار المناهل للطباعة والنشر، بيروت لبنان،الطبعة1 1992
[1] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1990.ص.215.
[2] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق جعفر آل ياسين، دار المناهل للطباعة والنشر، بيروت لبنان،الطبعة1 1992 ،ص399
[3] أبو نصر الفارابي، كتاب الحروف، حروف السؤال،.ص.ص220.221.222.
[4] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول، كتاب التعليقات، ،ص387
[5] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول، كتاب التعليقات، تحقيق ،صً381
[6] أبو نصر الفارابي ، الأعمال الفلسفية، الجزء الأول،كتاب التعليقات، تحقيق 2 ،ص398
[7] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية،دار المشرق، بيروت،طبعة 1964.ص79.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق