محمد داود
في هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك الذي يحمل في سجله التاريخي عبر الأزمنة المتصارعة، انتصارات للأمة المسلمة وانكسارات لأعدائها، فأعظم الفتوحات والانتصارات الإسلامية جرت في هذا الشهر الكريم وإذا تحدثنا عن النصر والانتصار فيجب أن نذكر قرين النصر وهو الجهاد والاستشهاد .. ولا جهاد إلا بالصبر والتحمل، .. ويتحقق النصر من خلال الثبات والتضحية، ... فما زالت الأمة المسلمة تشهد انتصارات وتلحق الهزائم بأعدائها وقد سجل رمضان أروع معارك عزٍ طاحنة عبر التاريخ وكانت سببا في النصر منذ غزوات الرسول مروراً بانتصارات رمضان 73م والجهاد في الجزائر لطرد المستعمر الفرنسي ولبنان من خلال المقاومة والعراق وفلسطين المحتلة، فرمضان أكبر دافع ومحفز للنصر والاستقلال، وفيه أُنزلت الكتب السماوية على الأنبياء والمرسلين.
يأتي رمضان وفلسطين تغيب وراء الأفق ، ودماء المسلمين فوّارة في الأرض تحت هدير المعتدين الظالمين المجرمين ، وأشلاء المسلمين وأعراضهم وحرماتهم وأموالهم منثورة يتزاحم عليها المجرمون.
يأتي رمضان علينا بطابع جديد يسوده المرارة وتعصف به لغة التنافر والتناحر والتقاتل والتشاحن أو التخاصم، بعكس أعوامهِ الماضية التي تميزت بوحدة المقاومة الوطنية من أجل تدعيم نضال انتفاضته في مرحلة التحرر الوطني والشروع في تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني تقوم بقيادة نضاله حتى تحقيق أهدافه في العودة وتقرير المصير والحرية والاستقلال.
جاء رمضان بمذاقٍ أخر حاملاً في جعبته الكثير من التساؤلات التي يكتنفها روح المآسي والاختلاف، يحمل في طياتها كابوساً وشبحاً ينذر بحدوث كارثة أشد فتكاً في الأراضي الفلسطينية لكنها أكثر رحمة عن كارثة الحسم أو "الانقلاب "الذي قامت به حركة حماس على شريكتها في السلطة قبل ثلاثة أشهر على الأقل، الذي أودى بحياة المئات من المواطنين بين قتيل وجريح ومعاق وهروب غالبية قوى ألأمن وعائلاتهم للضفة الغربية وإلى دول الجوار، مما دعا الاحتلال الإسرائيلي بفرض حصار مشدد وخانق على قطاع غزة، وإغلاق المعابر وعدم التعامل مع نظامه الحاكم أو المحكوم مما زاد من معاناة المواطنين الذين يدفعون الثمن وأعينهم ترنوا نحو الفصيلين المتخاصمين، داعين المولى عزوجل أن ينتهي هذا الكابوس الشيطاني، وأن تعيد اللحمة والترابط، متسائلين الأخوة المتناحرين، ماذا فعلتم إلينا وبقضيتنا الفلسطينية التي اختفت عن الأجندة السياسية وبالوطن الذي انقسمت وحدته الجغرافية والديمغرافية؟
كما أنقسم حال ساكنيه؟ فإسرائيل اليوم تهدد بشن هجوم واسع النطاق باحتلال محور فيلادلفيا وتقسيم القطاع ثلاثة أجزاء ضمن خطط متقنة أعدها وزير الحرب باراك وأركان جيشه في خطوة منه لإعادة هيبة جندهم وهيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تمرغت سمعتها في لبنان على يد مقاتلي حزب الله في العام الماضي، لتمارس عدوانها ضد شعب أعزل لا يمللك من القوة ولا حول، ..
هدفهم الوحيد هو استباحة الدم الفلسطيني، وتعميق المعاناة الفلسطينية، لتبقى تحت رحمة السياسة الإسرائيلية خاضعة مذلولة ، وقد أطلق وزير حربهم على عمليته الوشيكة أسم "دفع الثمن" معلناً بذلك رسمياً اعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، لاسيما بعد أن مارسنا نحن الفلسطينيين أشد أنواع الغلظة بحق بعضنا البعض من إرهاب وقتل وعنف وتخوين وتكفير التي انتهت بالانقلاب المخزي. يأتي هذا العدوان في ظل وجود المبررات وتوفر الأرضية لشن هذا العدوان، بعد أن تهيأت الأجواء على الساحة الداخلية والدولية وتقبل أي عدوان جديد على المنطقة، في ظل ضعف الظروف الداخلية المشحونة بين ألأطراف الفلسطينية من فرقة وتمزق، وتأكل، وقد لمست تلك الخاصية من خلال متابعتي لحديث الشارع والتعليقات عبر وسائل الإعلام كاستفتاء، وأخر هذه التعليقات تقول : : "ليت الاحتلال يدخل وينهينا من هذا الوضع وينهينا من شيء أسمه حماس"، وأخرى " نحن شعب نستحق الموت لأننا مارسنا القتل والعنف ضد بعضنا "، فاليهود أرحم منا.
وأتساءل هل وصل الجنون بنا أن نتلفظ هذا الدعاء المشين في هذا الشهر الفضيل، مهما وصلت حالتنا المعيشية من سقوط وتعاسة، هل غابت عن مخيلتنا جرائم العدو التي ارتكبت ومازالت ترتكب، فهل هانت علينا دماء أبناء شعبنا، العثامنة وغالية ومجازر مخيم جنين وصبرا وشاتيلا ودير ياسين، حتى قبل لحظة داسوا بآلياتهم مواطناً ..... فحدث بلا حرج، عن جرائم وفساد جندهم التي تطال كل مسبح لله على هذه الأرض الطاهرة.
يأتي رمضان اليوم بعد مباركة ربانية للمقاومة في تحديها للآلة البطش الإسرائيلية وتسديدها لضربات فدائية رداً على جرائمه، حيث تمكنت المقاومة في الأسبوع الماضي من تنفيذ سلسلة عمليات بقتل ضابط وتسديد صاروخ أصاب 70 إسرائيلياً بجراح وقبل يومين تمكنت المقاومة من قنص جندي.وبفعل هذه العمليات البطولية ألتزمت إسرائيل الصمت حيال قطاع غزة بعكس ما يجري بالضفة الغربية، وهذا الصمت الذي يسبق العاصفة يحمل رسائل عديدة وقد أعلن قادة العدو بضرورة توجيه الضربة القاسمة لقطاع غزة، بعد إعلانهم القطاع كيان معادي، بهدف خلق واقع جديد، بالتالي اكتملت المخططات والاستعدادات الإسرائيلية والميدانية لشن هذا العدوان، وقد تفاجئنا باستعراض لهذه العضلات بعد شن سلاح الجو الإسرائيلي غارة على قواعد في العمق السوري، وتدمير منظومة صواريخ، وتأكيدها المستمر بتوجيه ضربة أخرى لإيران، الأمر الذي دفع بالأخيرة بأن تعلن عن نشر منظومة صواريخ تقدر بــ600 صاروخ تنطلق دفعة واحدة صوب الأهداف الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
براك وزير الدفاع الإسرائيلي أعتبر ما حدث من عدوان على سورية جزء من استعادة قوة الردع، وأنه بعد استكمال تهيئة الأجواء وتقبل الوقائع سيكون الحساب عسير ضد قطاع غزة، داعياً الكنيست بأن يعتبر قطاع غزة حماستان، كما سعت حكومته لحصول على تفويض دولي وإقليمي بضرورة شن الحرب على قطاع غزة، وبالفعل أيدت الولايات المتحدة الأمريكية قرار إسرائيل باعتبار القطاع كيان معادي.
سلطة حماس و المقاومة الفلسطينية وجموع المواطنين استشعروا بالخطر الوشيك، فكان الحراك على الصعيد الداخلي بدعوة قوى المقاومة لوقف ضربات الصواريخ اتجاه البلدات الإسرائيلية، فيما على الصعيد الخارجي والسياسي طالبت القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس عباس المجتمع الدولي بالتحرك الفوري قبل وقوع المأساة وتفاقم معاناة المواطنين الفلسطينيين في القطاع، مشدداً على أن الشعب الفلسطيني موحد ويجب أن يبقى كذلك بصرف النظر عن الصعوبات التي خلقها الانقلاب، أم ميدانيا في ظل تصاعد وتيرة التهديدات، حيث قامت قوى المقاومة بإعادة تنظيم ورص صفوف قواتها وتشكيل غرفة عمليات مشتركة بين قوى المقاومة المختلفة، انطلاقاً من تغليب المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبارات حزبية أو افتعال معارك جانبية تضعف الجبهة الوطنية"، رغم حساسية الموقف وعمق الجراح الذي أصابها بفعل الانقلاب وما أفرزه من شرخ في وحدة الصف والأرض والقضية، بالتالي ما يجري على ألأرض هو فن إرهاق الخصم يمارسه الاحتلال ضمن سياق الحرب النفسية ضد قوى المقاومة وضد جماهير شعبنا الصامد، من أجل استنزافه وإرباك حاله ومن ثم إسقاطه كأوراق الشجر أمام قدرات الجيش الإسرائيلي المتقدمة. فأي مستقبل تعيشه غزة بل فلسطين في هذا الشهر الكريم، لا صلاة بالمسجد الأقصى ولا زيارة للأسرى القابعين خلف زنازين العدو الذين تجاوزوا الأحد عشر ألاف أسيراً، ...
ومساكن وساحات تملؤها البؤس من ذوي العائلات الشهداء والجرحى والمعاقين والأسر الفقيرة والمحتاجة. فما أبكاك يا رمضان في غزة، وسط حصاراً خانقاً، ومخاوف وقلق ومستقبل مجهول، في ظل اشتداد نار الفتنة والفرقة بين أخوة النضال والدرب، وانشغال القادة السياسيين في كلا الاتجاهين بكيل الاتهامات وكشف وحرق أوراق ألأخر من فضائح فساد وأخرى بتقديم التنازلات للاحتلال على حساب الثوابت الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
بينما ينظر السكان في قطاع غزة الذين تجاوزوا المليون ونصف نسمة، على شريط حدودي لا يتجاوز الـ 365 كيلو متر مربع، والذي يفتقر لكل مقومات الحياة بفعل هذا الحصار الجائر وما تبعه من إغلاق للمعابر حيث أصبح يعتمد سكان غزة بدرجة متزايدة على المساعدات الغذائية التي تقدمها الأمم المتحدة في وقت توقفت فيه حركة الأعمال وانهيار الاقتصاد المحلي الصناعي والزراعي لا سيما وأن المنفذ الوحيد لقطاع غزة "معبر رفح" لا يزال مغلقاً، الأمر الذي زاد من شدة المعاناة لسكان قطاع غزة بعد نفاذ السلع الأساسية ومواد التموين حيث غلاء في أسعار السلع واستفحال كبير في نسبة العاطلين عن العمل بفعل الإغلاق المضروب على القطاع منذ عامين على الأقل، وأشدت وتيرته بشكل تام منذ ثلاثة أشهر على الأقل، وسط تهديدات بحرمان القطاع من باقي الاحتياجات الأساسية ألأخرى كالكهرباء والماء ومشتقات الوقود، وتشديد الحصار واستئناف الاغتيالات، بما فيها اغتيال قيادات سياسية وميدانية وتقطيع أوصال قطاع غزة".
يأتي هذا بالتزامن مع شلل تام في أداء المؤسسات الخدماتية الأخرى وعلى رأسها الصحة والبيئة، مما ينذر بحدوث كوارث إنسانية لا تقل فتكاً عن العوامل الأخرى. هذا حال رمضان في غزة، دموعاً تذرف دماً وتشتكي للمولى عزوجل وقد تقطعت بنا السبل والأرحام وازدادت الفرقة والتشاحن بين أوصال العائلات بل داخل الأسرة الواحدة التي يجمعها سقف واحد، في وقت تخلى عنا الشقيق والصديق وباتت الدول العربية والإسلامية الشقيقة لا تكترث لشكوانا و.. ولا لنداء أقصانا و لا للحرم الإبراهيمي، والسكوت على تهويدهما، وقضم أجزاء من المسجد الأقصى، وحفر الأنفاق تحت المسجد، وحصار الأقصى ومنع أبناء الشعب الفلسطيني من الصلاة فيه. فهل الدم الفلسطيني أصبح رخيصاً بهذا الثمن أم أن مشاهد الأمس غيرت المفاهيم لديكم فأصبحتم على قناعة بأننا لا نستحق التضحية، ...... ،
أصنعوا شيئاً لعل ذلك يعيد البسمة على الأطفال ونساء أدميت أعينها من شدة البكاء وبيوتاً أكتنفها الحزن والشقاق كما والوطن.
صحفي وكاتب فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق