رشا أرنست
بين مسلسلات التلفزيون والفضائيات وصراع النجوم على مواعيد عرض كل منها، واستقبال شهر رمضان، والمشكلات الطائفية التي تحدث بين الحين والآخر، واشتعال الآراء حول موضوع الردة وغيرها من الأمور، والحكم سنة على أربع صحفيين أشاعوا خبر مرض الرئيس... نجد الفقراء ينعون أنفسهم، يُدهسون من الجميع في ميدان عام وسط مصر المحروسة. ما ذكرته هو ما يحدث وما تهتم به الآن الأحزاب المعارضة والجرائد القومية و"الناس اللي فوق"، أما "الناس اللي تحت" ربنا يرحمهم.
في نشرات الاقتصاد تارة يخبرونا بارتفاع الاقتصاد بنسبة كبيرة وغير متوقعة. وتارة يخبرونا أن مقال السيد إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور الخاص بنشر إشاعة مرض الرئيس هي السبب في انخفاض الاقتصاد، ويُتهم ضمن أربع رؤساء تحرير جرائد، ويُحكم على كل منهم بالسجن سنة مع غرامة 20 ألف جنيه، وهذا نتيجة من يظن أن الحرية مكفولة فعلاً للجميع وأنها بلا حدود. الخبران سمعتهما في نفس يوم الثلاثاء 11 سبتمبر والموافق ذكرى أحداث النكبة الكبرى بأمريكا. سمعتهما على قناتين إحداهما التلفزيون المصري وهو خبر ارتفاع الاقتصاد، والثانية على إحدى القنوات الفضائية.
إحدى أهم الأسباب الرئيسية لما نحن عليه، نحن المصريون هو الفوضى. الفوضى التي نعيشها كل يوم في كل ركن من هذه البلد الطيبة التي على وشك الانفجار بمن عليها. الفوضى التي نحياها في المصالح الحكومية والوزارات وأعلامنا المصري وشارعنا. والتي تتحدث عن نفسها، فهي بكل المعاني لا تمت بصلة إلى مجتمع راقي، أهله هم أبناء الفراعنة بناة الأهرام الذين وحتى الآن يُكتشف كل يوم شيئاً في حضاراتهم عن طريق الخبراء الأجانب وليس عن طريق أبنائها المنهمكون بأشياء أخرى. المهتمون بفضح احدهم للآخر على الملأ ودون أي خجل أو احترام لهذه البلد التي تحمل في أعماقها حضارة سبعة آلاف عام. المهتمون بمن يلعب اليوم ومن سيلعب غداً، من يفوز اليوم ومن سيفوز غداً.
نعيش أيام ليس لها مثيل، بدل أن نستقبل شهر كريم يُنتظر من العام إلى العام، وبدل أن نُجهز أقلامنا لتشجيع أبنائنا في بداية العام الدراسي الجديد ونهنئهم عليه. وبدل الثورة على جشع التجار وتجاهل الحكومة لموت الفقراء، وحرمان أطفالهم من الضروري في بداية شهر مبارك وسنة دراسية جديدة. جلسنا حول المائدة الفضائية بين مسلسلات رمضان وصراع رؤساء التحرير على ما يصلح أن يقال وما لا يقال، وتداعيات من هنا وأحاديث من هناك، والمواطن المصري المُعدم سيظل مُعدم لان من كلفوا برعايته ليس لديهم الوقت الكافي لينظروا مجرد نظرة عابرة على حاله. فأنفسهم مريضة مسيطرة على كيانهم، لا وقت لديهم للتفكير لحظة في مستقبل امة على حافة السقوط.
أرسلت لي صديقة منذ أيام رسالة عبر بريدي الالكتروني كنوع من التسلية الهادفة قليلاً، عندما تأملتها حزنت كثيراً. فالرسالة لم تحتوي على صورة لطفل مقتول بين أحضان أمه في فلسطين، أو لمقبرة جماعية في العراق، أو كلمات تعبر عن البؤس الذي يعيشه العالم. فهذا كله متوفر في نشرات الأخبار بما يكفي. لكن الرسالة كانت تحتوي على فكاهة، فكاهة من النوع الذي يحمل في طياته شجناً، فكاهة تجعلنا نفكر ونفكر.اقرءوا معي الرسالة: العنوان: سؤال عالمي، تم مؤخرا إجراء استبيان عالمي من قبل الأمم المتحدة والسؤال الذي سُئل كان:
رجاءاً ممكن تعطي رأيك حول نقص المواد الغذائية في بقية العالم؟
وقد فشل السؤال الذي ورد في الاستبيان فشلاً ذريعاً للأسباب التالية:
في أفريقيا : لم يعرفوا ما معنى غذاء
في أوروبا الغربية : لم يعرفوا ما معنى نقص
في الشرق الأوسط : لم يعرفوا ما معنى رأي
في أمريكا الجنوبية : لم يعرفوا ما معنى رجاء
وفي الولايات المتحدة : لم يعرفوا ما معنى بقية العالم
يا لسخرية الكلمات التي تخرج من اليأس لتخترق القلوب في صمت وعبر الوسائل الحديثة.
أتتخيلون معي أن ابن الوزير فلان يستطيع أن يذهب لمدرسته اليوم على الأقدام أو بسيارة أجرة؟ أتتخيلون انه ربما سيخرج من قصر أبيه الذي يقطن بأجمل أحياء القاهرة دون أن يأخذ مصروفه الذي لا نعرف كم يعادل من مرتب موظف طول الشهر؟ أتتخيلون انه ربما ابن الوزير هذا أو رجل الأعمال يذهب لمدرسته بدون ساندوتشات، لان والده الباشا ظل واقفاً في "طابور العيش" حتى جاء موعد المدرسة، ولاحظوا انه يقف بإحدى مخابز العيش البلدي لان مخابز العيش الفينو لم تعد تنتج رغيف اقل من 25 قرشاً وهو الرغيف الذي تستطيع أن تطلق عليه هذا الاسم!
أنا شخصياً أتخيل شيئاً آخر، أتخيل أننا مُقدمون على ثورة للجياع، للمظلومين، ثورة للأحياء موتى، ليس فقط ثورة إنما موت جماعي من الحسرة والجوع والأمراض التي ستأكل أكثر من نصف سكان مصر. نعم في أفريقيا لا يعرفوا معنى الغذاء كما يجب أن تُعرف، لأن اغلب دول أفريقيا تعيش في جوع. والخوف أن نكون يوماً ضمن تلك الدول. فيأتي اليوم الذي لا نعرف فيه معنى غذاء، وربما أيضاً لن نعرف معنى رأي أو رجاء أو حياة.
نشرت وكالات الأخبار أمس 14 سبتمبر الخبر التالي: امتنع الإيطاليون أمس عن شراء المعكرونة «الباستا» ليوم واحد تلبية لدعوة جمعيات المستهلكين الإيطاليين احتجاجا على رفع الأسعار، ودعت الجمعيات الحكومة إلى التدخل من أجل خفض أسعار المعكرونة بعد الارتفاع الذي سجلته إثر ارتفاع أسعار الحنطة. ويذكر أن المعكرونة هي طبق وطني إيطالي والدليل على ذلك تناول كل إيطالي 28 كيلوغراما من المعكرونة سنويا. هذا ما فعله الايطاليون، فماذا نحن فاعلون؟ والارتفاع أصبح في كل شيء والانخفاض فقط في كرامة الإنسان.
سعار الغلاء الذي اجتاح بلدنا سنة وراء الأخرى، والظلم والروتين واللامبالاة والفوضى. هم الهلاك الذي يأتينا كالسوس من كل اتجاه بمنتهى الذكاء مستغلاً غفلتنا في أمور اقل ما يقال عنها أنها لا تليق بشعب متحضر، ترك فيه المثقفون والمتعلمون و النخبة من أهله كل ما يحدث لأولاد بلدهم ومستقبل بلدهم ليهتموا بمن سيذيع هذا البرنامج وعلى أي قناة وكم سيقبض ثمنا له، ومن سيأخذ الكأس ومن سيكون الرئيس!!!! وهذا حلال وهذا حرام. ونحن نغرق في أوحال فقر وجهل وظلم ولا نهتم، لأنه يوجد من سيدفع الثمن. فأولئك الذين يفكرون كيف يطعمون أولادهم خبز حاف ولا يجدونه مازالوا موجودين ليدفعوا الثمن.
الاهتمام بالأحداث أيًّ كانت ليس عيباً والتعبير عنها أو مواجهتها ليس عيباً، أن نطالب بتطبيق المساواة أو الحرية أيضاً ليس عيباً، لكن .. العيب أن لا نعي الهلاك الذي يُحاصر ملايين المصريين الذين لا يعيشون يوماً كآدميين لهم كرامة وحق في المأكل والمسكن والتعليم والعلاج، أن لا يعيشوا لهم حق في حياة، العيب أن لا يوجد مسئول يواجه هذا الفساد والجشع. العيب أن لا يوجد رجل أعمال أو تاجر واحد مصري يواجه هذا السعار ويقول لا.
ارتفاع الأسعار ليس بسلعة أو اثنين حتى نتغاضى عنها، إنما بكل شيء، المأكل "مزروع ومصنوع" والملبس والمواصلات، حتى المياه ارتفع سعرها، فأصبحت تصل للآلاف من المصريين بعد عناء وبعد فضائح عديدة في بلد يسير فيه أعذب واهم نهر في العالم، وربما تصل وربما لا تصل. ما يحدث تصريح بالموت الفوري لمن لا يملك، تحدي لكل فقير إن أراد العيش. ولكن ماذا يملك هذا الفقير لنتحداه؟ ...فقيرلا يملك خبزه أو خبز أطفاله. حتى الأغنياء لم يعد لديهم فضلات للفقراء. التحدي أيها المسئولون يكون لمن يستطيع أن يواجه التحدي....فكيف تتحدون فقراء ليس لديهم ما يخسرونه!؟ بعد أن خسروا كرامتهم وحياتهم وقدرتهم على إطعام أطفالهم!!
ترك الفراعنة القدماء حضارة عظيمة اسمها الحضارة المصرية الفرعونية، تركوها إرثاً لنا، فماذا سيترك فراعنة اليوم إرثاً لمن بعدهم؟ فراعنة الظلم والقهر واحتراف كسر أعناق هؤلاء الذين ليس لهم أحداً يعرفهم؟ أتتركون ناراً من الحقد بين أبناء الطبقات؟ أم تتركون شعار البقاء للأقوى .. أقوى للسلطة أو المال أو النفوذ؟ أم تتركون شعباً أكله الفقر ويعيش على الإحسان؟ أم ستتركون حضارة الجوع؟
هناك أشياء كثيرة لا نملك لها نهاية، إنها تلك الأشياء التي تُعلن الميلاد أو الموت، فهل تجعلوا الموت إرثاً لأطفالنا الصغار ونهاية تُكتب بأيديكم؟
هناك تعليق واحد:
ماذكر فى المقال ما هو الا تعبير عن واقع يتفاقم بيننا كل يوم
وليت من بايديهم القرار يروا حقيقة الشارع المصرى بعيدا عن الاحياء الراقية
لم ارى فى حياتى شعب يهان بسبب طيبته مثل هذا الشعب الطيب الذى لم يجعل له حكامه ثمن فازله الاخرون
نرجو من الله ان ينقذ هذا الشعب قبل ان يبيده الحكام
إرسال تعليق