نقولا ناصر
(الناتو جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط العربي وقد تحول إلى أداة مكشوفة في خدمة هذه الإستراتيجية)
(لم يعد الناتو يجد في طريق توسعه عربيا أية عوائق دولية جادة بعد التغيير النوعي الذي طرأ على الموقف الفرنسي)
(نجاح الناتو في توسعه الإقليمي منحه ثقة حد أن يطمح إلى لعب دور في عملية السلام العربية الإسرائيلية)
(يتحول الناتو عمليا أمام أعيننا إلى جدار خارجي جديد في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني يعزز الأسوار الداخلية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي)
كانت المعاهدة التي وقعها حلف شمال الأطلسي " الناتو" مع مصر في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر الجاري والمعاهدة المماثلة التي وقعها مع إسرائيل عام 2006 واتفاقية الشراكة مع العربية السعودية في كانون الثاني / يناير الماضي هي أحدث محطات التوسع جنوبا نحو الشرق الأوسط العربي والإسلامي للحلف ، في سياق اندفاعه نحو المحيط الهندي ، ضمن إستراتيجية عالمية تصب في النتيجة العملية في خدمة تعزيز أحادية القطب الأميركي للهيمنة على السياسة الدولية .
وربما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعبر عن قلق بلاده والصين والهند والمنطقة العربية من هذا التوسع للناتو جنوبا وشرقا ، وهو التوسع المعزز بالدرع الصاروخية الأميركية المخططة في أوروبا والدرع الصاروخية الأميركية-اليابانية-الاسترالية ، عندما وصف في ختام زيارته لإيران أواسط الشهر الجاري هذا التوسع بأنه "سلبي جدا" و"ضار" و"لا يساعد في بناء جو من الثقة" في العالم لأن "المخاطر المعاصرة مثل الإرهاب وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة لا يمكن حلها بواسطة منظمات مثل هذه" ولأن معالجة مخاطر كهذه ممكنة "فقط بوسائل عصرية مثل بناء الثقة والتعاون على أساس تعددي لا على أساس الأحلاف" ، إذ "لا تستطيع قوة عالمية واحدة ، ولا حتى القوة الأكبر ، حل كل مشاكل العالم لوحدها" ، وليست أفغانستان والعراق إلا أمثلة واضحة على ذلك كما قال بوتين في مقابلة مع وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية في 16 الجاري .
لقد كانت الزيارة التاريخية التي قامت بها سفن الناتو الحربية للمحيط الهندي الشهر الماضي أول تطبيق عملي للقرار الذي أعلنته قمة الحلف في ريغا ، لاتفيا ، في تشرين الأول / نوفمبر العام الماضي بالانتشار في المحيط الهندي في إعلان صريح عن انتقال الحلف إلى إستراتيجية عالمية ، في تزامن مع إنشاء القيادة الأميركية في إفريقيا "أفريكوم" .
إذا كان انهيار سور برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 هو الحدث الذي يسجل تاريخيا كانهيار للسد الذي كان يحول دون حلف الناتو الذي يقوده الأميركان والتوسع جنوبا نحو الشرق الأوسط العربي نتيجة لانهيار حلف وارسو بقيادة روسيا السوفياتية ، الذي كان يشغل حلف الناتو عن التفرغ لتوسع جنوبي كهذا ، فإن هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة كانت الحدث الذي يسجل تاريخيا بداية اندفاع الناتو نحو الجنوب في خدمة الحملة الأميركية العالمية على "الإرهاب" حيث نجح هذا الاندفاع حتى الآن في إنشاء شبكة من ترتيبات "الشراكة" مع الناتو تمتد من موريتانيا ومضيق جبل طارق غربا إلى الكويت والخليج العربي شرقا .
وإذا استثنينا سوريا وإيران ، فإن أي تحفظ عربي أو إسلامي في الشرق الأوسط على دور إقليمي لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ضمن الإستراتيجية الأميركية في المنطقة قد شهد في الأسبوع قبل الماضي حدثا رمزيا يسجل سقوط ما كان قد تبقى من أي تحفظ كهذا ، تمثل في توقيع معاهدة بين الناتو وبين مصر ، بعد أقل من ثلاث سنوات من التحذير الذي وجهه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط للناتو كي لا يقدم على أي مهمات في الشرق الأوسط بحجة الحفاظ على الأمن والسلام ، أولا لأن سمعة الناتو ومصداقيته في المنطقة ليست فوق الشبهات وثانيا لأن مثل هذه المهمات هي مسؤولية الأمم المتحدة ، كما قال أبو الغيط في مؤتمر الأمن الدولي الذي انعقد في ميونيخ بألمانيا عام 2005 (سلامة سلامة ، الأهرام ويكلي ، 17 – 23 شباط / فبراير 2005) .
ولم يظهر حتى الآن أي دليل ينقض صحة تحذير أبو الغيط ، بالرغم من انقلاب موقف بلاده على هذا التحذير ، إذ يثبت يوميا أن الناتو لا يمكنه أن ينتهج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، بل على العكس فإن هذا الحلف الأطلسي يثبت عمليا أنه جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط العربي وأنه قد تحول إلى أداة مكشوفة في خدمة هذه الإستراتيجية .
والحلف اليوم يتوسع بهدوء ودون ضجيج توسعا مضطردا ويحرز تقدما ثابتا في توسعه بعد أن أمن وجودا علنيا قويا على الحافة الشمالية للمشرق العربي في تركيا ، وهي عضو في الحلف ، وفي أفغانستان ، حيث له قوة عسكرية قوامها 25000 رجل ، وإلى درجة أقل في العراق حيث يقوم بمهام تدريب "الجيش العراقي الجديد" .
ولم يعد الناتو يجد في طريق توسعه عربيا أية عوائق دولية جادة بعد التغيير النوعي الذي طرأ على الموقف الفرنسي من الناتو ومن الولايات المتحدة على حد سواء , قد بدأ هذا التغيير أولا بانتقال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في أواخر عهده إلى التنسيق مع واشنطن والناتو في لبنان في مواجهة سوريا وإيران ثم تأكد هذا التغيير في فوز نيكولا ساركوزي بالرئاسة الفرنسية وفق برنامج سياسي يقوم على "الصداقة" الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وعلى إعادة فرنسا إلى المشاركة في الهياكل العسكرية للحلف .
كما لا يوجد أي نظام إقليمي نابع من المنطقة يمكنه أن يمثل عائقا فعليا يعرقل توسع الناتو أو في الأقل يحد من أية آثار سلبية لتوسعه في المنطقة ب"التعاون" معه كمنظومة إقليمية تنظم علاقاته مع دولها على أساس غير أحادي كما هو الحال الآن ، مما يخفف من وطأة قبضته على كل منها ، فجامعة الدول العربية لم تعد أكثر من منتدى رفيع المستوى لتجمع القادة تشله الانقسامات والخلافات ويهدده التحالف الإستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي المهيمن على المنطقة وكذلك الناتو باستبداله بمنظومة أوسع تستوعب إسرائيل كشريك قيادي في شرق أوسط "كبير" أو "جديد" ، لا فرق .
ومنذ أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش في أيار / مايو 2003 انتهاء "العمليات الحربية الكبرى" في العراق كشف أيضا في الخطاب ذاته رؤيته عن بداية "عصر جديد" في الشرق الأوسط تتحقق فيه "حريات فرانكلين روزفلت الأربعة ، التي أكدها مبدأ ترومان وتحدي رونالد ريغان لإمبراطورية الشر" ، وهي رؤية كان للناتو دور إقليمي رئيسي فيها نجح بوش في ترسيخ سابقة له في الدور الذي يقوم الحلف به حاليا في أفغانستان . وعندما نجح بوش في دفع مجلس أمن الأمم المتحدة إلى أن يتبنى بالإجماع القرار رقم 1546 الخاص بالعراق اعتقد أن الأمور في المنطقة قد حسمت لصالح الإستراتيجية الأميركية ودر الناتو فيها قبل أن يخيب نمو المقاومة الوطنية العراقية آماله فيؤجل قطف ثمار إعلانه السابق لأوانه للنصر في عام 2003 .
غير أن هذا التطور المخيب لآماله لم ينعكس سلبا على الدور الذي كان يرسمه للناتو في المنطقة بل قاد فقط إلى تغيير دور الناتو من المساهمة في تأمين مكاسب الانتصار السابق لأوانه الذي أعلنه إلى المساهمة إقليميا في احتواء الآثار السلبية لنمو المقاومة العراقية على إستراتيجيته من جهة وفي تأمين الدعم اللوجستي الإقليمي لحربه المستمرة على العراق من جهة أخرى ، والتوسع الراهن لشبكة علاقات الناتو في المنطقة تثبت أن الحلف نجح إقليميا في ذلك دون أن يقود نجاحه هذا إلى نجاح يوازيه لبوش في العراق .
ونجاح الناتو في توسعه الإقليمي منحه ثقة حد أن يطمح إلى لعب دور في عملية السلام العربية الإسرائيلية . ففي خطاب له أمام مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ في 12 شباط / فبراير 2005 قال أمين عام الحلف جاب دي هوب شيفر: "ينبغي علينا ألا نبتعد خجلين عن البدء في التفكير فعلا في أمكانية دور للناتو في دعم أتفاق للسلام في الشرق الأوسط ... واتفاق للسلام بين إسرائيل وفلسطين" ، وأضاف: "يوجد إجماع متنام بين أوروبا وبين أميركا الشمالية على أنه يجب بناء روابط جديدة أقوى مع هذه المنطقة التي لها مثل هذه الأهمية الإستراتيجية . وهناك إجماع أيضا على أن الناتو يستطيع وينبغي عليه أن يلعب دوره فيها" .
توسع لا تفويض قانونيا له
وكانت المعاهدة التي وقعها حلف شمال الأطلسي " الناتو" مع مصر في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر الجاري مجرد قمة ظاهرة على السطح لجبل جليد الحلف الذي يتغلغل دون ضجيج ، لكن بثبات تدريجي واثق ، في المنطقة العربية عبر شبكة متسعة أفقيا ومتعمقة عموديا في اتجاهين أحدهما نحو فلسطين والثاني نحو الخليج العربي حيث إسرائيل والنفط على التوالي ، المصلحتان الحيويتان للغرب في العالم العربي وجواره الجيوبوليتيكي .
وإذا كان القانون الأساسي للحلف يحصر توسعه في القارة الأوروبية ومنطقة شمال الأطلسي فإن الناتو قد ابتدع صيغا سياسية للتوسع جنوبا في اتجاه العالمين العربي والإسلامي . ففي وقت مبكر من سبعينات القرن العشرين الماضي بادرت القوى الأوروبية المؤسسة للحلف إلى "الحوار العربي الأوروبي" في إطار ثقافي – سياسي – اقتصادي لا يثير الشكوك العربية في أية أهداف عسكرية أو أطماع سياسية غربية بالحرص على عدم ربط هذا الحوار بحلف الناتو من قريب أو بعيد .
وقد تفرعت عن هذا الحوار الآن "الشراكة المتوسطية" بين أوروبا الموحدة في الاتحاد الأوروبي وبين مجموعة من الدول العربية في المشرق والمغرب العربيين ، وهي شراكة طالما شكا أطرافها العرب من إصرار الشريك الأوروبي على التعامل معهم كلا على حدة لا كمجموعة إقليمية ، لكنهم لم يتذمروا من إقحام إسرائيل في هذه الشراكة . فالأردن ، على سبيل المثال ، شريك في "الشراكة المتوسطية" التي أولتها وزارة الخارجية اهتماما بتخصيص وحدة خاصة بها في إدارة الشؤون الأميركية والأوروبية ، وهذه الإدارة معنية أيضا بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وكذلك بالناتو الذي دخلت المملكة في ترتيبات شراكة معه عام 1995 .
وفي العام التالي 1996 قرر الرئيس الأميركي آنذاك في 25 أيلول / سبتمبر إبلاغ الكونغرس عزمه إعلان الأردن "حليفا رئيسيا غير عضو في الناتو" للولايات المتحدة في خطوة تظهر مدى التداخل بين العلاقات العربية الإستراتيجية مع واشنطن كعمود فقري لحلف شمال الأطلسي وبين العلاقات العربية غير المباشرة المترتبة على ذلك مع الناتو .
وفي شهر كانون الأول / ديسمبر 1994 دخل الحلف علنا على خط الحوار العربي الأوروبي عندما قرر اجتماعه الوزاري في بروكسل إطلاق حوار مع البلدان الشريكة في "الحوار المتوسطي" الذي انطلق عام 1994 ، وبلغ عدد هذه الدول "المتوسطية" المشاركة حاليا في الحوار مع الناتو سبع دول غير أعضاء في الحلف بالإضافة إلى أربع دول عربية غير مشاركة في الحوار المتوسطي هي الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين .
وطور الناتو حواره مع البلدان المتوسطية إلى صيغ عملية للتعاون مع الحلف ضمن ترتيبات تعاون تضم حاليا إسرائيل وست دول عربية هي الأردن ومصر والجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس . وفي سنة 2002 تم رفع مستوى التعاون ليشمل مسائل الأمن ذات الاهتمام المشترك . وفي قمة الحلف التي انعقدت في استانبول بتركيا في 28 و 29 حزيران / يونيو عام 2004 تم رفع مستوى هذا التعاون إلى علاقة شراكة وأطلق الحلف لهذا الغرض "مبادرة استانبول للتعاون" (آي سي آي) التي انبثقت عنها "برامج التعاون الفردي" لكل دولة على حدة مع الناتو ، وقد منحت مبادرة استانبول أولوية الانضمام إليها إلى دول مجلس التعاون الخليجي العربية .
وكان قادة الحلف قد تخلوا عن فكرة لدعوة دول الحوار المتوسطي السبع لحضور قمتهم في استانبول بسبب الشكوك التي تراود العرب حول أهداف واشنطن والناتو من خططهما المغلفة بشعارات "الإصلاح" و"الديموقراطية" لبناء "شرق أوسط جديد" أو "شرق أوسط كبير" وبسبب العداء العربي الشعبي الواسع لأميركا نتيجة احتلالها للعراق ودعمها غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان ، لكنهم قرروا دعوتهم إلى بروكسل لاحقا .
إن الزيارة غير المسبوقة التي قام بها أمين عام الناتو ، جاب دي هوب شيفر ، للجزائر وزياراته اللاحقة للدول الست الأخرى ، والزيارة التي قام بها نائبه للبحرين والإمارات والكويت قبل أن يتوجه إلى العربية السعودية وقطر وسلطنة عمان تؤشر إلى المستوى الرفيع الذي تتطور فيه الشراكة بسرعة وتسلط الأضواء على النشاطات المشتركة بين الحلف وبين "شركائه" العرب مثل "مكافحة الإرهاب" و"الإصلاحات العسكرية" و"التدريب العسكري" و"مراقبة الحدود" و"تبادل الاستخبارات" والمناورات الحربية .
ومن الجدير بالذكر أنه في إطار "الشراكة" مع الناتو شاركت الأردن ومصر والمغرب في عمليات الناتو في البوسنة كما شاركت قوات أردنية ومغربية في عمليات الناتو في كوسوفو ، أي أن الناتو نجح حتى في إشراك دول المنطقة خارج إقليمها في عملياته .
إن "الخيار الاستراتيجي" لمعظم الدول العربية كما يبدو هو التحالف مع الناتو أو التعاون معه أو تحييد استعدائه بما ينسجم تماما مع خيارها الاستراتيجي بعلاقات مماثلة مع الولايات المتحدة الأميركية ، القوة المهيمنة على الناتو والعمود الفقري للحلف . كما تسعى إسرائيل إلى الانضمام إلى عضوية الناتو لكن بحث عضويتها في الحلف ، كما قال الناطق بلسان الناتو ، جيمس أياثوراي: "ليس مطروحا اليوم ولا مطروحا غدا" لأن توسيع الناتو طبقا لنظامه الأساسي يقتصر على بلدان أوروبا وشمال الأطلسي .
كبديل قرر الناتو في قمته التي عقدها في استانبول بتركيا قبل ثلاثة أعوام أن يعرض على البلدان الشريكة في "الحوار المتوسطي" مع الأوروبيين ، ومعظم هؤلاء الأوروبيين أعضاء مؤسسون للناتو ، إمكانية الاتفاق مع الناتو على "برامج التعاون كلا على حدة" مع الحلف وفي هذا السياق وقع الناتو معاهدتيه مع إسرائيل ومصر .
طوق للناتو حول فلسطين
وقد أصبحت مصر في الأسبوع الماضي ثاني دولة في "الشرق الأوسط" توقع معاهدة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" بعد دولة الاحتلال الإسرائيلي التي وقعت معاهدتها عام 2006 ، "في تحرك يفتح الباب" أمام الحلف الغربي الأميركي الأوروبي الذي أنشأ إسرائيل في قلب الوطن العربي "للانخراط في مسائل أمنية على امتداد حدود مصر مع غزة" كما قالت الجروزالم بوست يوم العاشر من تشرين الأول / أكتوبر الجاري .
ويأتي توقيع المعاهدة المصرية مع الناتو في سياق استمرار أزمة ازدواجية "الشرعية" الفلسطينية وفي سياق إقليمي تكشف التصريحات العلنية الرسمية عن توجه فيه لحسم هذه الازدواجية عسكريا ، فوسائل الإعلام الإسرائيلية كررت نشر أنباء عن "عملية عسكرية" كبرى يُعدٌ لها وزير "الدفاع" إيهود باراك لإعادة احتلال قطاع غزة أو لاجتياح قطاعات منه تضمن التخلص من حماس أولا كمدخل "لتفكيك البنية التحتية" لما تصفه البروباغندا الإسرائيلية والأميركية ب"الإرهاب" الفلسطيني -- تطبيقا للمرحلة الأولى ل"خريطة الطريق" التي اعتمدتها اللجنة الرباعية الدولية عام 2003 – ثم تسليم القطاع عسكريا ل"قوات متعددة الجنسيات" وسياسيا وأمنيا للسلطة الفلسطينية التي اكتشف الاحتلال الإسرائيلي منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 أنها أصبحت مؤهلة ك"شريك" للتفاوض على السلام مع إسرائيل .
والمعاهدة التي وقعها الناتو ومصر يوم التاسع من الشهر الجاري في بروكسل سوف تسمح لمصر ببحث إمكانية قيام الناتو بتأمين حدودها المشتركة مع قطاع غزة ، خصوصا على امتداد ممر صلاح الدين (فيلادلفي) كما قالت يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يوم الثلاثاء الماضي .
ونقلت الجروزالم بوست عن مصادر في الناتو نفيها لإبرام أي اتفاق بين الناتو وبين مصر خاص بالحدود المصرية مع غزة لكن هذه المصادر لم تستبعد أن يعاون الحلف في إغلاق هذه الحدود مع مرور الوقت . غير أن جيمس أباثوراي قال للصحفيين في بروكسل بعد توقيع المعاهدة مع مصر إن هذه المعاهدة تتحدث عن "شراكة أعمق" بين الطرفين وأنها "لن تكون سيئة لإسرائيل" لأنها سوف تعزز الأمن الإقليمي . ومن المعروف أن وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي المتطرف أفيجدور ليبرمان يسعى لدى الناتو لكي يوافق على إرسال قواته إلى المنطقة وبخاصة إلى قطاع غزة ، لكن أياثوراي قال إنه "لا يوجد بحث رسمي أو غير رسمي" في الحلف "للانخراط في غزة" وليس لديه أي نية لإرسال قواته إلى الشرق الأوسط كما أنه لم يتلق أي طلب لدخول لبنان أو سوريا أو غزة .
وإذا لم يكن هناك حتى الآن اتفاق مصري- فلسطيني – إسرائيلي على إرسال قوات الناتو إلى قطاع غزة فإن هناك موافقة من الأطراف الثلاثة ، في الأقل من حيث المبدأ ، على دور على الحدود المصرية الفلسطينية في قطاع غزة لقوات متعددة الجنسيات حلف الناتو هو الوحيد المؤهل لتوفيرها .
والمفارقة أن هناك تقاطعا فلسطينيا – إسرائيليا معلنا إعلانا لا لبس فيه على المطالبة بإرسال قوات متعددة الجنسيات إلى القطاع المحاصر ، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس أعلن مثل هذه المطالبة ويتفق معه فيها ليبرمان الذي كان أكثر تحديدا في مطالبته بأن تكون هذه القوات من الناتو ، وليس من المتوقع أن يختلف عباس معه إلا إذا كان لديه بديل "عربي إسلامي" وهذا احتمال مستبعد تماما لأن من المستحيل أن توافق إسرائيل على بديل كهذا إذا افترضنا جدلا أن هناك دولا عربية أو إسلامية مستعدة لذلك .
والموضوعية تقتضي وضع المعاهدة مع مصر في سياقها العربي وهو سياق ينفي أن تكون مصر هي السباقة عربيا في الانفراد بالتعاون مع الناتو الذي له قبل معاهدته الجديدة مع القاهرة شبكة واسعة من التعاون متفاوت الدرجات مع معظم الدول العربية ، تعاونا يشمل المناورات المشتركة في المياه الإقليمية التي تعج الآن بقطع الناتو البحرية من مضيق جبل طارق غربا إلى شواطئ الصومال شرقا واستضافة مراكز التصنت برا وكذلك خدمة القطع البحرية لأساطيل الناتو في الموانئ العربية ومهمات تدريبية مثل قيام الناتو بتدريب "الجيش العراقي الجديد" .
إن معاهدتي الناتو مع مصر وإسرائيل وتعاون الأردن مع الناتو وكون لبنان يقع ضمن تفويض الحلف وفي نطاق عملياته ، كل ذلك يضع حلف شمال الأطلسي عمليا على حدود فلسطين من الجهات الأربع ويخلق بيئة موضوعية لانخراط الناتو في أي ترتيبات يمكن أن تتمخض عن عملية السلام في حال نجاحها أو أي ترتيبات تتمخض عن استمرار الوضع الفلسطيني الإسرائيلي الراهن المتفجر .
وبغض النظر عن نوايا كل الأطراف المعنية فإن الناتو يتحول عمليا أمام أعيننا إلى جدار خارجي جديد في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني يعزز الأسوار الداخلية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي .
في سنة 2005 عكست دراسة للمعهد الدنماركي للدراسات الدولية (دي آي آي أس) الشكوك العربية في دور الناتو الإقليمي .
فبعد أن لاحظ المعهد أن "الناتو يعيد الآن تدريجيا توجيه إستراتيجيته من أوروبا الشرقية والوسطى إلى الشرق الأوسط ، حيث الإرهاب الدولي وانتشار أسلحة الدار الشامل وعدم استقرار الدول الضعيفة قد خلق بيئة أمنية جديدة وبدأ عملية تحول ثانية للناتو" قالت الدراسة إن هذا التوجه للناتو سوف يكون "صعبا للغاية" بسبب وجود عقبات عميقة الجذور تحول دون بناء شراكة أصيلة أهمها:-
أولا أن الدول العربية بعامة تنظر إلى الناتو والحوار المتوسطي بشك وعدم ثقة في الحلف الذي ترى فيه خطرا أمنيا أكثر منه شريكا ومصدرا للأمن ، وثانيا أن لهذه الدول اهتمامات ومفاهيم أمنية مختلفة في بيئة أمنية مختلفة ، وثالثا أنه خلافا لما هو عليه الحال مع دول أوروبا الشرقية فإن الناتو لا يملك إلا القليل من "الجزر" الذي يقدمه للدول المتوسطية ، ورابعا أن القوات المسلحة لهذه الدول معنية بصيانة الوضع الراهن لا بتغييره .
وخلصت دراسة المعهد الدنماركي إلى التوصية مع ذلك بتقوية دور الناتو في المنطقة عبر التركيز على إنشاء ممثليات رسمية لدول المنطقة في مقر قيادة الحلف ، وتطوير التعاون معها في مكافحة الإرهاب ، ورفع مستوى المساعدة لها في الإصلاحات الدفاعية ، وزيادة التعاون والتدريب في مجال حفظ السلام ، ثم ... "ايلاء اهتمام وحرص للمخاطر الكامنة في تعزيز السياسات والقدرات القمعية للدول العربية" .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
(الناتو جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط العربي وقد تحول إلى أداة مكشوفة في خدمة هذه الإستراتيجية)
(لم يعد الناتو يجد في طريق توسعه عربيا أية عوائق دولية جادة بعد التغيير النوعي الذي طرأ على الموقف الفرنسي)
(نجاح الناتو في توسعه الإقليمي منحه ثقة حد أن يطمح إلى لعب دور في عملية السلام العربية الإسرائيلية)
(يتحول الناتو عمليا أمام أعيننا إلى جدار خارجي جديد في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني يعزز الأسوار الداخلية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي)
كانت المعاهدة التي وقعها حلف شمال الأطلسي " الناتو" مع مصر في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر الجاري والمعاهدة المماثلة التي وقعها مع إسرائيل عام 2006 واتفاقية الشراكة مع العربية السعودية في كانون الثاني / يناير الماضي هي أحدث محطات التوسع جنوبا نحو الشرق الأوسط العربي والإسلامي للحلف ، في سياق اندفاعه نحو المحيط الهندي ، ضمن إستراتيجية عالمية تصب في النتيجة العملية في خدمة تعزيز أحادية القطب الأميركي للهيمنة على السياسة الدولية .
وربما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعبر عن قلق بلاده والصين والهند والمنطقة العربية من هذا التوسع للناتو جنوبا وشرقا ، وهو التوسع المعزز بالدرع الصاروخية الأميركية المخططة في أوروبا والدرع الصاروخية الأميركية-اليابانية-الاسترالية ، عندما وصف في ختام زيارته لإيران أواسط الشهر الجاري هذا التوسع بأنه "سلبي جدا" و"ضار" و"لا يساعد في بناء جو من الثقة" في العالم لأن "المخاطر المعاصرة مثل الإرهاب وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة لا يمكن حلها بواسطة منظمات مثل هذه" ولأن معالجة مخاطر كهذه ممكنة "فقط بوسائل عصرية مثل بناء الثقة والتعاون على أساس تعددي لا على أساس الأحلاف" ، إذ "لا تستطيع قوة عالمية واحدة ، ولا حتى القوة الأكبر ، حل كل مشاكل العالم لوحدها" ، وليست أفغانستان والعراق إلا أمثلة واضحة على ذلك كما قال بوتين في مقابلة مع وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية في 16 الجاري .
لقد كانت الزيارة التاريخية التي قامت بها سفن الناتو الحربية للمحيط الهندي الشهر الماضي أول تطبيق عملي للقرار الذي أعلنته قمة الحلف في ريغا ، لاتفيا ، في تشرين الأول / نوفمبر العام الماضي بالانتشار في المحيط الهندي في إعلان صريح عن انتقال الحلف إلى إستراتيجية عالمية ، في تزامن مع إنشاء القيادة الأميركية في إفريقيا "أفريكوم" .
إذا كان انهيار سور برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 هو الحدث الذي يسجل تاريخيا كانهيار للسد الذي كان يحول دون حلف الناتو الذي يقوده الأميركان والتوسع جنوبا نحو الشرق الأوسط العربي نتيجة لانهيار حلف وارسو بقيادة روسيا السوفياتية ، الذي كان يشغل حلف الناتو عن التفرغ لتوسع جنوبي كهذا ، فإن هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة كانت الحدث الذي يسجل تاريخيا بداية اندفاع الناتو نحو الجنوب في خدمة الحملة الأميركية العالمية على "الإرهاب" حيث نجح هذا الاندفاع حتى الآن في إنشاء شبكة من ترتيبات "الشراكة" مع الناتو تمتد من موريتانيا ومضيق جبل طارق غربا إلى الكويت والخليج العربي شرقا .
وإذا استثنينا سوريا وإيران ، فإن أي تحفظ عربي أو إسلامي في الشرق الأوسط على دور إقليمي لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ضمن الإستراتيجية الأميركية في المنطقة قد شهد في الأسبوع قبل الماضي حدثا رمزيا يسجل سقوط ما كان قد تبقى من أي تحفظ كهذا ، تمثل في توقيع معاهدة بين الناتو وبين مصر ، بعد أقل من ثلاث سنوات من التحذير الذي وجهه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط للناتو كي لا يقدم على أي مهمات في الشرق الأوسط بحجة الحفاظ على الأمن والسلام ، أولا لأن سمعة الناتو ومصداقيته في المنطقة ليست فوق الشبهات وثانيا لأن مثل هذه المهمات هي مسؤولية الأمم المتحدة ، كما قال أبو الغيط في مؤتمر الأمن الدولي الذي انعقد في ميونيخ بألمانيا عام 2005 (سلامة سلامة ، الأهرام ويكلي ، 17 – 23 شباط / فبراير 2005) .
ولم يظهر حتى الآن أي دليل ينقض صحة تحذير أبو الغيط ، بالرغم من انقلاب موقف بلاده على هذا التحذير ، إذ يثبت يوميا أن الناتو لا يمكنه أن ينتهج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأميركية في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، بل على العكس فإن هذا الحلف الأطلسي يثبت عمليا أنه جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط العربي وأنه قد تحول إلى أداة مكشوفة في خدمة هذه الإستراتيجية .
والحلف اليوم يتوسع بهدوء ودون ضجيج توسعا مضطردا ويحرز تقدما ثابتا في توسعه بعد أن أمن وجودا علنيا قويا على الحافة الشمالية للمشرق العربي في تركيا ، وهي عضو في الحلف ، وفي أفغانستان ، حيث له قوة عسكرية قوامها 25000 رجل ، وإلى درجة أقل في العراق حيث يقوم بمهام تدريب "الجيش العراقي الجديد" .
ولم يعد الناتو يجد في طريق توسعه عربيا أية عوائق دولية جادة بعد التغيير النوعي الذي طرأ على الموقف الفرنسي من الناتو ومن الولايات المتحدة على حد سواء , قد بدأ هذا التغيير أولا بانتقال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في أواخر عهده إلى التنسيق مع واشنطن والناتو في لبنان في مواجهة سوريا وإيران ثم تأكد هذا التغيير في فوز نيكولا ساركوزي بالرئاسة الفرنسية وفق برنامج سياسي يقوم على "الصداقة" الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وعلى إعادة فرنسا إلى المشاركة في الهياكل العسكرية للحلف .
كما لا يوجد أي نظام إقليمي نابع من المنطقة يمكنه أن يمثل عائقا فعليا يعرقل توسع الناتو أو في الأقل يحد من أية آثار سلبية لتوسعه في المنطقة ب"التعاون" معه كمنظومة إقليمية تنظم علاقاته مع دولها على أساس غير أحادي كما هو الحال الآن ، مما يخفف من وطأة قبضته على كل منها ، فجامعة الدول العربية لم تعد أكثر من منتدى رفيع المستوى لتجمع القادة تشله الانقسامات والخلافات ويهدده التحالف الإستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي المهيمن على المنطقة وكذلك الناتو باستبداله بمنظومة أوسع تستوعب إسرائيل كشريك قيادي في شرق أوسط "كبير" أو "جديد" ، لا فرق .
ومنذ أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش في أيار / مايو 2003 انتهاء "العمليات الحربية الكبرى" في العراق كشف أيضا في الخطاب ذاته رؤيته عن بداية "عصر جديد" في الشرق الأوسط تتحقق فيه "حريات فرانكلين روزفلت الأربعة ، التي أكدها مبدأ ترومان وتحدي رونالد ريغان لإمبراطورية الشر" ، وهي رؤية كان للناتو دور إقليمي رئيسي فيها نجح بوش في ترسيخ سابقة له في الدور الذي يقوم الحلف به حاليا في أفغانستان . وعندما نجح بوش في دفع مجلس أمن الأمم المتحدة إلى أن يتبنى بالإجماع القرار رقم 1546 الخاص بالعراق اعتقد أن الأمور في المنطقة قد حسمت لصالح الإستراتيجية الأميركية ودر الناتو فيها قبل أن يخيب نمو المقاومة الوطنية العراقية آماله فيؤجل قطف ثمار إعلانه السابق لأوانه للنصر في عام 2003 .
غير أن هذا التطور المخيب لآماله لم ينعكس سلبا على الدور الذي كان يرسمه للناتو في المنطقة بل قاد فقط إلى تغيير دور الناتو من المساهمة في تأمين مكاسب الانتصار السابق لأوانه الذي أعلنه إلى المساهمة إقليميا في احتواء الآثار السلبية لنمو المقاومة العراقية على إستراتيجيته من جهة وفي تأمين الدعم اللوجستي الإقليمي لحربه المستمرة على العراق من جهة أخرى ، والتوسع الراهن لشبكة علاقات الناتو في المنطقة تثبت أن الحلف نجح إقليميا في ذلك دون أن يقود نجاحه هذا إلى نجاح يوازيه لبوش في العراق .
ونجاح الناتو في توسعه الإقليمي منحه ثقة حد أن يطمح إلى لعب دور في عملية السلام العربية الإسرائيلية . ففي خطاب له أمام مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ في 12 شباط / فبراير 2005 قال أمين عام الحلف جاب دي هوب شيفر: "ينبغي علينا ألا نبتعد خجلين عن البدء في التفكير فعلا في أمكانية دور للناتو في دعم أتفاق للسلام في الشرق الأوسط ... واتفاق للسلام بين إسرائيل وفلسطين" ، وأضاف: "يوجد إجماع متنام بين أوروبا وبين أميركا الشمالية على أنه يجب بناء روابط جديدة أقوى مع هذه المنطقة التي لها مثل هذه الأهمية الإستراتيجية . وهناك إجماع أيضا على أن الناتو يستطيع وينبغي عليه أن يلعب دوره فيها" .
توسع لا تفويض قانونيا له
وكانت المعاهدة التي وقعها حلف شمال الأطلسي " الناتو" مع مصر في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر الجاري مجرد قمة ظاهرة على السطح لجبل جليد الحلف الذي يتغلغل دون ضجيج ، لكن بثبات تدريجي واثق ، في المنطقة العربية عبر شبكة متسعة أفقيا ومتعمقة عموديا في اتجاهين أحدهما نحو فلسطين والثاني نحو الخليج العربي حيث إسرائيل والنفط على التوالي ، المصلحتان الحيويتان للغرب في العالم العربي وجواره الجيوبوليتيكي .
وإذا كان القانون الأساسي للحلف يحصر توسعه في القارة الأوروبية ومنطقة شمال الأطلسي فإن الناتو قد ابتدع صيغا سياسية للتوسع جنوبا في اتجاه العالمين العربي والإسلامي . ففي وقت مبكر من سبعينات القرن العشرين الماضي بادرت القوى الأوروبية المؤسسة للحلف إلى "الحوار العربي الأوروبي" في إطار ثقافي – سياسي – اقتصادي لا يثير الشكوك العربية في أية أهداف عسكرية أو أطماع سياسية غربية بالحرص على عدم ربط هذا الحوار بحلف الناتو من قريب أو بعيد .
وقد تفرعت عن هذا الحوار الآن "الشراكة المتوسطية" بين أوروبا الموحدة في الاتحاد الأوروبي وبين مجموعة من الدول العربية في المشرق والمغرب العربيين ، وهي شراكة طالما شكا أطرافها العرب من إصرار الشريك الأوروبي على التعامل معهم كلا على حدة لا كمجموعة إقليمية ، لكنهم لم يتذمروا من إقحام إسرائيل في هذه الشراكة . فالأردن ، على سبيل المثال ، شريك في "الشراكة المتوسطية" التي أولتها وزارة الخارجية اهتماما بتخصيص وحدة خاصة بها في إدارة الشؤون الأميركية والأوروبية ، وهذه الإدارة معنية أيضا بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وكذلك بالناتو الذي دخلت المملكة في ترتيبات شراكة معه عام 1995 .
وفي العام التالي 1996 قرر الرئيس الأميركي آنذاك في 25 أيلول / سبتمبر إبلاغ الكونغرس عزمه إعلان الأردن "حليفا رئيسيا غير عضو في الناتو" للولايات المتحدة في خطوة تظهر مدى التداخل بين العلاقات العربية الإستراتيجية مع واشنطن كعمود فقري لحلف شمال الأطلسي وبين العلاقات العربية غير المباشرة المترتبة على ذلك مع الناتو .
وفي شهر كانون الأول / ديسمبر 1994 دخل الحلف علنا على خط الحوار العربي الأوروبي عندما قرر اجتماعه الوزاري في بروكسل إطلاق حوار مع البلدان الشريكة في "الحوار المتوسطي" الذي انطلق عام 1994 ، وبلغ عدد هذه الدول "المتوسطية" المشاركة حاليا في الحوار مع الناتو سبع دول غير أعضاء في الحلف بالإضافة إلى أربع دول عربية غير مشاركة في الحوار المتوسطي هي الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين .
وطور الناتو حواره مع البلدان المتوسطية إلى صيغ عملية للتعاون مع الحلف ضمن ترتيبات تعاون تضم حاليا إسرائيل وست دول عربية هي الأردن ومصر والجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس . وفي سنة 2002 تم رفع مستوى التعاون ليشمل مسائل الأمن ذات الاهتمام المشترك . وفي قمة الحلف التي انعقدت في استانبول بتركيا في 28 و 29 حزيران / يونيو عام 2004 تم رفع مستوى هذا التعاون إلى علاقة شراكة وأطلق الحلف لهذا الغرض "مبادرة استانبول للتعاون" (آي سي آي) التي انبثقت عنها "برامج التعاون الفردي" لكل دولة على حدة مع الناتو ، وقد منحت مبادرة استانبول أولوية الانضمام إليها إلى دول مجلس التعاون الخليجي العربية .
وكان قادة الحلف قد تخلوا عن فكرة لدعوة دول الحوار المتوسطي السبع لحضور قمتهم في استانبول بسبب الشكوك التي تراود العرب حول أهداف واشنطن والناتو من خططهما المغلفة بشعارات "الإصلاح" و"الديموقراطية" لبناء "شرق أوسط جديد" أو "شرق أوسط كبير" وبسبب العداء العربي الشعبي الواسع لأميركا نتيجة احتلالها للعراق ودعمها غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان ، لكنهم قرروا دعوتهم إلى بروكسل لاحقا .
إن الزيارة غير المسبوقة التي قام بها أمين عام الناتو ، جاب دي هوب شيفر ، للجزائر وزياراته اللاحقة للدول الست الأخرى ، والزيارة التي قام بها نائبه للبحرين والإمارات والكويت قبل أن يتوجه إلى العربية السعودية وقطر وسلطنة عمان تؤشر إلى المستوى الرفيع الذي تتطور فيه الشراكة بسرعة وتسلط الأضواء على النشاطات المشتركة بين الحلف وبين "شركائه" العرب مثل "مكافحة الإرهاب" و"الإصلاحات العسكرية" و"التدريب العسكري" و"مراقبة الحدود" و"تبادل الاستخبارات" والمناورات الحربية .
ومن الجدير بالذكر أنه في إطار "الشراكة" مع الناتو شاركت الأردن ومصر والمغرب في عمليات الناتو في البوسنة كما شاركت قوات أردنية ومغربية في عمليات الناتو في كوسوفو ، أي أن الناتو نجح حتى في إشراك دول المنطقة خارج إقليمها في عملياته .
إن "الخيار الاستراتيجي" لمعظم الدول العربية كما يبدو هو التحالف مع الناتو أو التعاون معه أو تحييد استعدائه بما ينسجم تماما مع خيارها الاستراتيجي بعلاقات مماثلة مع الولايات المتحدة الأميركية ، القوة المهيمنة على الناتو والعمود الفقري للحلف . كما تسعى إسرائيل إلى الانضمام إلى عضوية الناتو لكن بحث عضويتها في الحلف ، كما قال الناطق بلسان الناتو ، جيمس أياثوراي: "ليس مطروحا اليوم ولا مطروحا غدا" لأن توسيع الناتو طبقا لنظامه الأساسي يقتصر على بلدان أوروبا وشمال الأطلسي .
كبديل قرر الناتو في قمته التي عقدها في استانبول بتركيا قبل ثلاثة أعوام أن يعرض على البلدان الشريكة في "الحوار المتوسطي" مع الأوروبيين ، ومعظم هؤلاء الأوروبيين أعضاء مؤسسون للناتو ، إمكانية الاتفاق مع الناتو على "برامج التعاون كلا على حدة" مع الحلف وفي هذا السياق وقع الناتو معاهدتيه مع إسرائيل ومصر .
طوق للناتو حول فلسطين
وقد أصبحت مصر في الأسبوع الماضي ثاني دولة في "الشرق الأوسط" توقع معاهدة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" بعد دولة الاحتلال الإسرائيلي التي وقعت معاهدتها عام 2006 ، "في تحرك يفتح الباب" أمام الحلف الغربي الأميركي الأوروبي الذي أنشأ إسرائيل في قلب الوطن العربي "للانخراط في مسائل أمنية على امتداد حدود مصر مع غزة" كما قالت الجروزالم بوست يوم العاشر من تشرين الأول / أكتوبر الجاري .
ويأتي توقيع المعاهدة المصرية مع الناتو في سياق استمرار أزمة ازدواجية "الشرعية" الفلسطينية وفي سياق إقليمي تكشف التصريحات العلنية الرسمية عن توجه فيه لحسم هذه الازدواجية عسكريا ، فوسائل الإعلام الإسرائيلية كررت نشر أنباء عن "عملية عسكرية" كبرى يُعدٌ لها وزير "الدفاع" إيهود باراك لإعادة احتلال قطاع غزة أو لاجتياح قطاعات منه تضمن التخلص من حماس أولا كمدخل "لتفكيك البنية التحتية" لما تصفه البروباغندا الإسرائيلية والأميركية ب"الإرهاب" الفلسطيني -- تطبيقا للمرحلة الأولى ل"خريطة الطريق" التي اعتمدتها اللجنة الرباعية الدولية عام 2003 – ثم تسليم القطاع عسكريا ل"قوات متعددة الجنسيات" وسياسيا وأمنيا للسلطة الفلسطينية التي اكتشف الاحتلال الإسرائيلي منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 أنها أصبحت مؤهلة ك"شريك" للتفاوض على السلام مع إسرائيل .
والمعاهدة التي وقعها الناتو ومصر يوم التاسع من الشهر الجاري في بروكسل سوف تسمح لمصر ببحث إمكانية قيام الناتو بتأمين حدودها المشتركة مع قطاع غزة ، خصوصا على امتداد ممر صلاح الدين (فيلادلفي) كما قالت يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يوم الثلاثاء الماضي .
ونقلت الجروزالم بوست عن مصادر في الناتو نفيها لإبرام أي اتفاق بين الناتو وبين مصر خاص بالحدود المصرية مع غزة لكن هذه المصادر لم تستبعد أن يعاون الحلف في إغلاق هذه الحدود مع مرور الوقت . غير أن جيمس أباثوراي قال للصحفيين في بروكسل بعد توقيع المعاهدة مع مصر إن هذه المعاهدة تتحدث عن "شراكة أعمق" بين الطرفين وأنها "لن تكون سيئة لإسرائيل" لأنها سوف تعزز الأمن الإقليمي . ومن المعروف أن وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي المتطرف أفيجدور ليبرمان يسعى لدى الناتو لكي يوافق على إرسال قواته إلى المنطقة وبخاصة إلى قطاع غزة ، لكن أياثوراي قال إنه "لا يوجد بحث رسمي أو غير رسمي" في الحلف "للانخراط في غزة" وليس لديه أي نية لإرسال قواته إلى الشرق الأوسط كما أنه لم يتلق أي طلب لدخول لبنان أو سوريا أو غزة .
وإذا لم يكن هناك حتى الآن اتفاق مصري- فلسطيني – إسرائيلي على إرسال قوات الناتو إلى قطاع غزة فإن هناك موافقة من الأطراف الثلاثة ، في الأقل من حيث المبدأ ، على دور على الحدود المصرية الفلسطينية في قطاع غزة لقوات متعددة الجنسيات حلف الناتو هو الوحيد المؤهل لتوفيرها .
والمفارقة أن هناك تقاطعا فلسطينيا – إسرائيليا معلنا إعلانا لا لبس فيه على المطالبة بإرسال قوات متعددة الجنسيات إلى القطاع المحاصر ، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس أعلن مثل هذه المطالبة ويتفق معه فيها ليبرمان الذي كان أكثر تحديدا في مطالبته بأن تكون هذه القوات من الناتو ، وليس من المتوقع أن يختلف عباس معه إلا إذا كان لديه بديل "عربي إسلامي" وهذا احتمال مستبعد تماما لأن من المستحيل أن توافق إسرائيل على بديل كهذا إذا افترضنا جدلا أن هناك دولا عربية أو إسلامية مستعدة لذلك .
والموضوعية تقتضي وضع المعاهدة مع مصر في سياقها العربي وهو سياق ينفي أن تكون مصر هي السباقة عربيا في الانفراد بالتعاون مع الناتو الذي له قبل معاهدته الجديدة مع القاهرة شبكة واسعة من التعاون متفاوت الدرجات مع معظم الدول العربية ، تعاونا يشمل المناورات المشتركة في المياه الإقليمية التي تعج الآن بقطع الناتو البحرية من مضيق جبل طارق غربا إلى شواطئ الصومال شرقا واستضافة مراكز التصنت برا وكذلك خدمة القطع البحرية لأساطيل الناتو في الموانئ العربية ومهمات تدريبية مثل قيام الناتو بتدريب "الجيش العراقي الجديد" .
إن معاهدتي الناتو مع مصر وإسرائيل وتعاون الأردن مع الناتو وكون لبنان يقع ضمن تفويض الحلف وفي نطاق عملياته ، كل ذلك يضع حلف شمال الأطلسي عمليا على حدود فلسطين من الجهات الأربع ويخلق بيئة موضوعية لانخراط الناتو في أي ترتيبات يمكن أن تتمخض عن عملية السلام في حال نجاحها أو أي ترتيبات تتمخض عن استمرار الوضع الفلسطيني الإسرائيلي الراهن المتفجر .
وبغض النظر عن نوايا كل الأطراف المعنية فإن الناتو يتحول عمليا أمام أعيننا إلى جدار خارجي جديد في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني يعزز الأسوار الداخلية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي .
في سنة 2005 عكست دراسة للمعهد الدنماركي للدراسات الدولية (دي آي آي أس) الشكوك العربية في دور الناتو الإقليمي .
فبعد أن لاحظ المعهد أن "الناتو يعيد الآن تدريجيا توجيه إستراتيجيته من أوروبا الشرقية والوسطى إلى الشرق الأوسط ، حيث الإرهاب الدولي وانتشار أسلحة الدار الشامل وعدم استقرار الدول الضعيفة قد خلق بيئة أمنية جديدة وبدأ عملية تحول ثانية للناتو" قالت الدراسة إن هذا التوجه للناتو سوف يكون "صعبا للغاية" بسبب وجود عقبات عميقة الجذور تحول دون بناء شراكة أصيلة أهمها:-
أولا أن الدول العربية بعامة تنظر إلى الناتو والحوار المتوسطي بشك وعدم ثقة في الحلف الذي ترى فيه خطرا أمنيا أكثر منه شريكا ومصدرا للأمن ، وثانيا أن لهذه الدول اهتمامات ومفاهيم أمنية مختلفة في بيئة أمنية مختلفة ، وثالثا أنه خلافا لما هو عليه الحال مع دول أوروبا الشرقية فإن الناتو لا يملك إلا القليل من "الجزر" الذي يقدمه للدول المتوسطية ، ورابعا أن القوات المسلحة لهذه الدول معنية بصيانة الوضع الراهن لا بتغييره .
وخلصت دراسة المعهد الدنماركي إلى التوصية مع ذلك بتقوية دور الناتو في المنطقة عبر التركيز على إنشاء ممثليات رسمية لدول المنطقة في مقر قيادة الحلف ، وتطوير التعاون معها في مكافحة الإرهاب ، ورفع مستوى المساعدة لها في الإصلاحات الدفاعية ، وزيادة التعاون والتدريب في مجال حفظ السلام ، ثم ... "ايلاء اهتمام وحرص للمخاطر الكامنة في تعزيز السياسات والقدرات القمعية للدول العربية" .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق