يا لخزوتهم أمام التاريخ

منير أبو رزق

في غزة؛ أشباه بشر يهيمون على وجوههم، يبحثون عن خلاص طال انتظاره، يتفرسون في وجوه تطل عليهم عبر الفضائيات بعد اجتماعات وصولات وجولات، لتبشرهم تارة بفرج قريب، وتقذف بهم تارة أخرى إلى واد سحيق، دون أمل مُرتجى.

قتلة أحيانا؛ وملثمون غالبا؛ ومتاجرون مرارا؛ ومهربون تكرارا؛ ومغامرون دائما، حولوا الوطن إلى حقل فئران لتجاربهم السلطوية، وجعلوا من أهلنا موضعا، لاختبار كل البالونات، وصندوقا بريديا، ينقل الرسائل، من كل أنواع المشتغلين بأمرنا الفلسطيني. حتى بات العيش في غزة من مكرهات الحال، ما جعل الكثيرين يولون وجوههم شطر الخلاص، ولا خلاص يبدو في الأفق من هؤلاء إلا بالهجرة، ما لم يلتئم الصف، ويُضمَد الجرح، وينتهي الانقسام.

لا أسوأ من أن تعيش مهاجرا في وطنك، تلتفت إلى اليمين فلا تجد يمينك، و تنظر إلى اليسار فلا ترى يسارك، فتعيش مبتورا وأنت صاحي الضمير والإحساس، لتبكي وطنا رسمته في خيالك فلم تجده، وتنتحب على أناس ظننتهم أهلا، فأتوك بألف طعنة من ألف خلف.

نرى البعض يهاجرون بأجسادهم، وتبقى أرواحهم معلقة في أوطانهم، ونرى البعض من الذين استزلموا على ما ترى عيونهم، فتعاموا عن الحقيقة، وأصروا على البقاء في أوطانهم، رباطا وجهادا، فوجدوا أنفسهم بعد حين، يعيشون اغترابا قاسيا، تشهده الروح ويعانيه الوجدان، فصارت مآقيهم تبكي الوطن والحياة معا.

الهجرة من غزة، صارت تمثل ـ وحسب كل استطلاعات الرأي ـ حلما يراود نسبة عالية من الشباب الفلسطيني، وهذا ليس غريبا أو مفاجئا، بعد أن تحول القطاع في العامين الأخيرين، بفعل الانقسام والحرب، والقتل على الهوية و الاشتباه، إلى "مقبرة أحياء" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى !

تلكم حقيقة، يحاول قراصنة الخطابة تجميلها أو إخفاءها، بعبارات ثورجية، فقدت مصداقيتها على الأرض، منذ أن أضاعت البنادق المتشدقة بالمقاومة بوصلتها، وكأن مسا من الجان قد أصابها، فباتت ترى قتل المسلم لأخيه المسلم، والتنكيل به وملاحقته تقربا إلى الله.

يبدو أن "القادة" الجدد، لا يعلمون إن كينونة الوطن، كأرض الأجداد والآباء، لم تعد كافية وحدها لتسويق مفهوم الانتماء للوطن، عند جيل تربى ويترعرع في عالم إنساني حضاري، يقدس روح المواطن، ويقدس حريته وكرامته، ليمنحه حق مقاضاة حكومته، إذا ما أتت على مس أبسط بحقوقه.

لست أدري، ماذا يعنى الوطن، عندما يعيش الإنسان فيه مهدور الدم والكرامة، يبحث بالمِجهر عن مجرد أمل، لمستقبل أطفاله، فيجده رهينة حسابات ضيقة، لعاشقي السلطة ومدعى تمثيل الله عز وجل على الأرض، فيا لخزوتهم أمام التاريخ ... !؟

ليقل لنا نجوم الفضائيات، ووزراء الصدفة ونواب الزور، منذ متى يا هؤلاء يصنع الجوع والفقر والمرض، والجهل والانقسام، جيلا من الصامدين المرابطين على أرضهم..؟ وهل مصادرة حريات الناس، وزج الناس في السجون وأقبية التحقيق وقتلهم وسحلهم وتخوينهم وإرهابهم، يعزز من رباطهم على هذه الأرض، ويعبد الطريق أمام تحرير فلسطين..؟ فيا لخزوتكم يا هؤلاء أمام التاريخ، مرة أخرى ..!؟

يتفهم أي مواطن على وجه هذه الأرض، أن يُقتل ويُعذب ويُسجن من قبل الغرباء، الذين يحتلون وطنه، ويمتلك كل إنسان بالفطرة، جُل الاستعداد لتقديم روحه على كفه، رخيصةً مقابل حريته وحرية شعبه. ولكن بأي منطق نطلب منه ـ أي ما يسمى بالإنسان ـ أن يتقبل برحابة صدر، القتل والاعتقال و التعذيب والملاحقة، من قبل أناس وعدوه كذبا بالخلاص والإصلاح؟

لعلنا لم نستغرب ما خرجت به استطلاعات الرأي، من أرقام مخيفة، عن رغبة أغلبية أهلنا في غزة في الهجرة، بقدر ما استغربنا مرورها على منظري ومدعى الرباط، مرور الكرام، وكأن الشعب لا يعنيهم، بقدر ما تعنيهم كراسي الحكم. فلماذا لا نحمل وطننا في أفئدتنا ونهاجر، بحثا عن حياة كريمة على أرض، وفي أكناف مجتمع نجد فيه، ما افتقدناه في وطن أحببناه، وعمدنا انتماءنا له بالدم فصحونا يوما، لنجد أنفسنا فيه غرباء بلا وطن ..!!؟


كل شيء في قطاع غزة المدمر بات عادياً،فلم يعد الحال على حاله،فالحرب التي شنت علي القطاع خلفت الكثير الكثير من المشاكل والكوارث الاجتماعية، لنجد ما يتصدرها هي الخلافات الحادة بين زوجات الشهداء وعوائله،فزوجة الشهيد لم تعد تأهب لرحيل زوجها وتركها أرملة وهي في مقتبل العمر،ولم تدرك أيضا بالا لهؤلاء الأطفال الذين ُيتموا وُحرموا من عطف الأب وحنانه ابد الدهر.

ما يحدث في قطاع غزة قصصُ غريبة عجيبة نسمع عنها وبشكل شبه يومي ،بعد عودة الحياة إلي طبيعتها بشكل تدريجي إلي القطاع،بدأت تفاصيل الحكاية تتشعب مع كل زوجة شهيد سقط خلال الحرب،ليبدأ التناحر علي الأموال التي قدمت مساعدة وتبني لأطفال الشهداء الأيتام كذلك لوالدي الشهيد.

لتشاهد تلك الزوجة تزج والد زوجها وإخوته في السجن،وتارة أخري تجد زوجة لشهيد أخر تقوم ببيع منزلها وأثاثه وكأنها تنتظر أن يستشهد زوجها لتحصد الأخضر واليابس من بعده،لتبقي الحسرة والقهر في قلب تلك الأم التي احترق قلبها علي فراق فلذة كبدها عندما شاهدته مسجي علي ظهره،فهي لم تتوقع في يوم من الأيام أن تقوم 'كنتها' بمعاقبة أهل زوجها بهذا الشكل.

'أمد'استمع إلي أكثر من حالة تعرضت للاهانة من قبل زوجات أبنائها الشهداء،لتقول الحاجة' أم حاتم' 65 عاماَ ' لأمد'، دمر البيت الذي اسكن فيه علي رؤؤسنا،فانا الناجية الوحيدة من عائلتي،فقدت كل عائلتي الزوج والأبناء والمنزل ولم يتبقي شيء لي علي هذه الحياة،فلا اعرف لمن تركوني وحيدة،تركوني في هذه الدنيا كي تعصف بي يمينا ويسارا،فلم يرحمني احد،حتى اقرب الناس لي ولم يراعوا كبري في السن والحزن الذي يكاد يقتلني علي ما حل بعائلتي،استشهد أبنائي الثلاثة الكبار وجميعهم متزوجين،قبل الحرب قاموا بإرسال زوجاتهم إلي بيوت عائلاتهن خوفا علي حياتهن أو يصيبهن مكروه نظرا لأننا نسكن بالقرب من الشريط الحدودي في شمال قطاع غزة،كنا نتوقع أن يحدث شيء لنا،لان القصف المتواصل علي تلك المنطقة التى نعيش فيها لم تبقي علي شي إلا وقضت عليه،لم نستطع الخروج من المنزل،فالمنزل كان محاصر بالدبابات الإسرائيلية وكان مرمي للقذائف.

وتتابع ' لأمد' قبل أن تدمر الطائرات المنزل خرجت أنا وثلاثة من الأطفال الصغار كحماية لي كي اجلب الماء للمنزل،فعدت إلي المنزل وياليتني لم أعود وجدت المنزل قد دمر بالكامل،والدبابات تتمركز فوق ركامه.

توقفت الحاجة 'أم حاتم' عن الحديث،مصيبتي هذه لم تتوقف عند هذا الحد،بل وبعد استشهاد عائلتي بكاملها،لم اسلم حتى من زوجات أبنائي الذين استشهدوا مع والدهم في المنزل،فظهر لهن وجه أخر،الطمع والجشع وحب المال،تفاجأت ان كل ' كنه' تطالبني بالميراث وبكل فقرش كان ابني يصرفه علي المنزل،وتلك تطلب كل الكوبونات الغذائية والتموينية التي تقدمها لنا المؤسسات الإغاثية الاخري تقوم بتقديم شكوى ضدي في مراكز الشرطة،وأنا لا اعلم ما الذي حدث لأتعرض لتلك للاهانة من اعز ما لدي،هل يعقل أن تنسي زوجة الشهيد حب زوجها واحترامه لها بتعذيب عائلته بهذا الشكل' سلامُ قولاً من ربٍ رحيم،الحمد لله علي عطائه ورضاه،أولادي استشهدوا وارتاحوا وتركوا الهم عليّ'.

تفاصيل الحكاية لم تنتهي عند الحاجة' أم حاتم' وستستمر معاناتها إلي أن يتوفاها الله،لتنبع قصة أخري وفي شمال القطاع أيضا،ويروي 'لأمد' والد الشهيد' محمود 29 عاما'والذي استشهد ابنه البكر في القصف الذي استهدف مدرسة الفاخورة،محمود استشهد الله يرحمه وارتاح وترك لي الهم،فمنذ أن توقفت الحرب جاءت زوجته إلي المنزل لتجمع الأخضر واليابس،وهذا ليس من حقها لأنها لم يمضي علي زواجها ثلاثة أشهر،أي لا يحق لها أن تأخذ شيء من المنزل،فرفضت أن تصادر كل شيء،فلم تملك إلا وان تحضر لي أفراد من الشرطة لاقتيادي إلي المقر،بتهمة تعرضها للضرب الشديد وسرقة ذهبها والكثير الكثير من التفاصيل لا استطيع الإفصاح عنها عبر وسائل الإعلام،شيء لم أكن أتوقعه،فهي لم تحضر عزاء ابني الشهيد فبمجرد أن أعلن عن استشهاده ذهبت إلي بيت والدها،ولم أري وجهها إلا في مركز الشرطة لتتهمني باتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة،جعلتني اصدم حقيقة،وجعلتني ابكي دما علي ابني الشهيد لان زوجته لم تصونه بعد رحيله بالحفاظ على أهله،وكل ما يملك حسبنا الله ونعمة الوكيل.

"راح الجمل بدي ابكي علي الرصن' بتلك الكلمات اكتفى والد الشهيد' محمد ' والذي لم يستطع التحدث ' لأمد' عن الذي حدث له ومعاناته التى لا تزال متواصلة من أم أحفاده،متمنياً في ذات الوقت أن يعينه الله علي حمل الأمانة التى تركها ولده بتربية أحفاده علي الرغم من الاهانة التي تسببت به زوجة ابنه الشهيد،فلسانه لا يكاد يتوقف عن الحمد والشكر لله علي حال ومصاب أصيب به.

الطمع وحب المال لم يتوقف علي معاملة زوجات الشهداء لعوائل أزواجهن بهذا الشكل،بل تتهم عائلة زوجها بأنهم يضربونها وقاموا بأخذ أطفالها منها بالقوة وإنها استردتهم عن طريق الشرطة وغير ذلك ' أم الشهيد أكرم' تتحدث "لأمد" وعلامات التعجب والاستغراب تكاد تفقدها حياتها من هول الصدمة والحديث الذي سمعته والذي يقضي ' بان كنتها تذهب إلي المؤسسات الخيرية والإغاثية تبكي وتتوسل لهم لتقديم مساعدات لها،عبر الكذب والافتراء فهي لم تستطع حتى الرد علي ما سمعته واكتفت فقط بالرد والدموع تغرق عينيها' والله عمري ما قصرت فيها ولا في ولادها طول ما كان ابني عايش،شو عملتها أنا... حسبي الله ونعمة الوكيل!'

--
حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح
اللجنة القيادية العليا
المحافظات الجنوبية