جمانة حدّاد
عندما تقرر سلطة ماذا يُسمَح لمواطنيها أن يقرأوا وأن يسمعوا ويشاهدوا، لن نملك حينها سوى أن نصرخ: النجدة النجدة. وعندما تقرر سلطة ماذا يُسمَح به للمواطنين الذين يُفترَض أن يكونوا راشدين ولكن يُعامَلون كقاصرين، ويرضى هؤلاء بهذا "المصير" فلا بدّ أن نقول: "يا للأسف". ولا بدّ أن نصرخ: النجدة، النجدة. وعندما تقرر هذه السلطة (كيف؟ لماذا؟ وبأيّ حق؟) الراسخة جذورها وقيمها والمتشبثة بالأخلاق القديمة منذ دهور أن تواصل بدأب "لصون" أخلاق المواطنين وتنشئتهم تنشئة "صالحة" ليكونوا مواطنين صالحين في وطن صالح فتمنع عرض فيلم لبناني في الصالات المحلية عنوانه Help ومن إخراج مارك أبي راشد ذلك لأن فيه مشاهد "فاضحة تخدش الحياء" فلا نملك سوى أن نصرخ: النجدة النجدة النجدة. وكأن العهر السياسي الدائر من حولنا ليس فاضحاً ولا يخدش الحياء، أو وكأن العهر الاعلامي الدائر على صفحات بعض الجرائد وشاشات التلفزة ليس فاضحا ولا يخدش الحياء، أو وكأن تحكّم الأجهزة العسكريّة واللاهوتية بمصائرنا وتعاملها معنا كقطعان ينبغي أن تؤدي واجب الطاعة ليس فاضحاً ولا يخدش الحياء، أو وكأن الصفقات والسمسرات والسرقات وعمليات النهب الفرديّة والجماعية وكل "فنون" البيع والشراء تحت الطاولة وفوق الطاولة أي سرّاً وعلانية ليست فاضحة ولا تخدش الحياء، أو وكأن نظام التكاذب والتخابث وهو النظام الذي يسيّر حياة المجتمع اللبناني ليس فاضحاً ولا يخدش الحياء.
طبعاً كل ذلك ليس فاضحاً ولا يخدش الحياء، لكنْ وحده مشهد رجل وامرأة يمارسان الحبّ، أو وحده مشهد نهدين عاريين (خصوصاً إذا كانا لامرأة لبنانية) في فيلم هو لجمهور من الراشدين كفيل بتمزيق غشاء البكارة لهذا النظام الأخلاقي المتخابث، بل كفيل بهدم أعمدة الهيكل اللبناني، فنِعم الأخلاق. كل شيء في هذا البلد بألف خير أيّتها السيدات أيّها السادة، كل شيء عال العال باستثناء واحدة.هي عادة ينبغي اجتثاثها، وهي بالتحديد "لوثة" بعض الخلاّقين اللبنانيين كتّابا وفنانين وسينمائيين حين يتوهّمون أو يحلمون بأننا نعيش في بلد خلاّق، حرّ، ديموقراطي، يتمع فيه الفرد باختراع مضحك اسمه "حرية التعبير". عادة سيئة إسمها النزوع الى هذه الحرية واعتبارها حقّا مطلقا، لا هبةً من أحد. لكنْ ما لنا وللّغة المرّة، إذ ينبغي أن نقول ما نريد أن نقول بوضوح لا يتحمّل أيّ مواربة: دائرة الرقابة التي تشرف على الأعمال الفنية والثقافية وتجيز ما تجيز وتمنع ما تمنع إهانة لحياتنا ولكرامتنا، إهانة مذلّة، خسيسة. فمتى ننزل الى الأرض، لا من أجل هذه الطائفة أو تلك، ولا من أجل هذا الصندوق أو تلك الجمعية، ولا أيضاً من أجل هذا الزعيم أو ذاك، بل من أجل أنفسنا، من أجل كرامتنا وحقوقنا كبشر.
النجدة النجدة النجدة. ولكنْ مَن ينجد مَن؟ وبأيّ أعجوبة؟. لا يحكّ جلدكَ مثل ظفركَ، يقول المثل. لذا لا ينجدنا سوى الإصرار كتّاباً وفنّانين ومثقّفين على مطالبة الحكومة وخصوصاً الوزراء المعنيين ليضعوا حداً لهذا الانتقاص المتمادي المتخلف المفجع، هذا الإنتقاص من الحق الطبيعي للفنون والآداب في التعبير عن ذاتها وبالحرية التامة. وسبق لوزيري الإعلام والداخلية في الحكومة طارق متري وزياد بارود أن قاما بخطوات لافتة في مجال احترام الحقوق المشروعة لأهل الرأي والثقافة، فنأمل أن يعملا على رفع اليد عن الفيلم وبل على رفع الرقابة ككل عن الأعمال الخلاّقة، خصوصاً ونحن في بدء سنة بيروت عاصمة عالمية للكتاب. فعسى تكون هذه المناسبة فرصة لنبرهن للعالم أن بيروت جديرة بالحياة الكريمة الحرّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق