صبحي غندور
صحيح أنّ هناك ضغوطاً أميركية شديدة مورست في السابق على أكثر من طرف عربي للانضمام إلى معركة واشنطن ضدَّ إيران، وصحيح أنّ حكومة طهران نفسها حاولت تحسين موقعها السياسي، وتحصين وضعها الأمني، من خلال تحالفات وعلاقات مع أطراف عربية (هي فعلت ذلك أيضاً مع حكومات يسارية ذات جذور ماركسية في أميركا اللاتينية)، وصحيح أنّ هناك أخطاءً متبادلة حصلت في المواقف أو التصريحات من طرف وآخر، وصحيح أنّ هناك الآن مخاوف عربية (خاصةً في منطقة الخليج العربي) من صِدام واشنطن مع طهران.. أو من تفاهمهما على أوضاع المنطقة. صحيحٌ كلّ ذلك، لكن الأصح، وهو وضع رؤية عربية مشتركة، لم يحصل بعد. فحجم التحدّيات والمخاطر القادمة لا تميّز بين وطن عربي وآخر، ولا بين فئة وأخرى من المواطنين. فالأمّة العربية كلّها عانت من الخلافات والصراعات داخلها في ظلّ نموّ أطماع دولية وإقليمية تستهدف الأرض والثروات ووحدة الشعوب.
إنّ المنطقة العربية تعيش مزيجاً من التحديات الإقليمية والدولية. فإضافةً لمخاطر السياسة الأميركية التي سادت في ظل الإدارة السابقة، والاحتلال الأميركي للعراق، ولما قام به العدوّ الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، هناك أيضاً تزايد لدور قوى إقليمية في قضايا المنطقة، كما هو حال إيران وتركيا. لكن التعامل مع هذا "النفوذ الإقليمي" بمنظار مذهبي أو عرقي سيدفع بأوضاع المنطقة إلى مزيد من الانهيار على الجبهتين العربية والإسلامية، وإلى تحقيق مكاسب ضخمة للقوى الساعية إلى فرض هيمنتها على كلّ أرض وثروات البلاد العربية والإسلامية.
إنّ ضعف المناعة في الجسد العربي هو الذي جعله قابلاً لاستقبال حالات الأوبئة التي تعشّش الآن في خلاياه، وأخطرها وباء الانقسام الطائفي والمذهبي.
ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها!!.
إنّ "النفوذ الإيراني" مثلاً يستفيد طبعاً من استمرار الصراع العربي/الإسرائيلي الذي لم ينتهِ رغم ما حصل حتى الآن من معاهدات تسوية جزئية، فإيران تقف إلى جانب من لم تشملهم بعدُ التسوية ولم تتحرّر أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي.
"النفوذ الإيراني" يستفيد أيضاً من أنّ إيران وقفت بمواجهة الإدارة الأميركية التي دعمت الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسورية، فضلاً عمّا قدمته من دعم لحرب إسرائيل التدميرية على لبنان في صيف العام 2006.
إنّ موقف حكومة طهران لا يتحدّد طبعاً على أساس مصالح فلسطينية أو سورية أو لبنانية أو عربية بشكل عام، هو موقف إيراني تفرضه المصلحة الإيرانية في التعامل مع تهديدات أميركية وإسرائيلية بالحرب على إيران نفسها، وفي مواجهة الضغوط الدولية لمحاصرتها سياسياً واقتصادياً إلى جانب الانتشار العسكري الأميركي المتزايد على معظم حدودها البرّية والبحرية.
إذن، ف"النفوذ الإيراني" المتّهم من جهة بالاستفادة من الواقع السلبي للحال العربي، هو من جهة أخرى يتعامل مع ضغط أميركي وإسرائيلي تحاول حكومة طهران أن تصدّه بكل الوسائل المتاحة.
وربّما يكون حاضر البلاد العربية اليوم هو أكثر الدلالات على مخاطر ما حدث في الربع الأخير من القرن الماضي، إن لجهة إخراج مصر من موقعها الريادي التاريخي في المنطقة ومن الصراع مع إسرائيل، أو لجهة آثار ما حدث من حروب ما كان يجب أن تحصل (الحرب العراقية/الإيرانية ثمّ غزو الكويت)، ومن معاهدات تسوية جزئية ناقصة مع إسرائيل لم تحقّق سلاماً ولا عدلاً ولا حرّية.
العرب يدفعون الآن ثمن هذه الخطايا الكبيرة التي حدثت في المنطقة، مما جعلهم بلا مرجعية واحدة وبلا بوصلة مرشدة لحركتهم السياسية أو لمعاركهم العسكرية.
وقد جاءت الحرب الأميركية على العراق لتجعل من منطقة الخليج العربي ساحة توتّر دائم وخط اشتباك محتمل بين أميركا وإيران. كذلك هي نتائج الاحتلال للعراق من حيث الفرز المناطقي والمذهبي وتدمير مقوّمات الدولة العراقية، وما أدّى إليه هذا الواقع الدموي العراقي من مخاوف لدى كل دول الجوار بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي.
وهكذا عاشت دول الخليج العربي وما تزال جملةً من المخاوف أقلّها تصاعد النفوذ الإيراني في العراق والخليج وبلدان أخرى، وأخطرها المواجهة العسكرية مع إيران وتداعياتها على كل دول المنطقة.
لكن التعامل مع تزايد "النفوذ الإيراني" لا يجب أن يحجب المخاطر المتمثّلة بالاحتلال الأجنبي والإسرائيلي الجاثم على أكثر من أرض عربية، بل تستدعي هذه التحدّيات كلها تصحيح التوازنات في المنطقة من خلال قيام تضامن عربي شامل وسليم يضع الأسس المتينة للعلاقات بين الدول العربية، وبينها وبين سائر دول الجوار الآسيوي والأفريقي.
إنّ ما يتطلّبه الحدَّ الأدنى من التضامن العربي الآن، هو تعزيز المبادرة التي أطلقها العاهل السعودي خلال قمّة الكويت والتي أنتجت القمّة العربية المصغّرة في الرياض، وأعادت الحيوية النسبية للتنسيق الثلاثي بين القاهرة ودمشق والرياض.
إنّ الحديث يتكرّر الآن عن استراتيجيات دولية وإقليمية تجاه المنطقة، بينما الغائب الأكبر هو الإستراتيجية العربية المشتركة. إنّ البديل عن هذا التضامن العربي المنشود هو صراعات تشمل سلبياتها كلّ بقاع المنطقة، إذ ليس البديل "محور سلام" ضدّ "محور مقاومة" أو العكس، كما ليس البديل الآن "اعتدالاً" ضدّ "ممانعة"، إنّه بكلِّ وضوح: أوطان اليوم الموحّدة أو دويلات الغد المتصارعة.
ولن يتحقّق هذا التضامن العربي الفعّال ما لم تحصل رؤية عربية مشتركة بين مصر والسعودية وسوريا، تحديداً لقضايا فلسطين والعراق ولبنان.
ففي ظلّ التباعد الذي حصل بين دمشق والرياض والقاهرة، تمدّد النفوذ الأجنبي والإقليمي في المنطقة، وتواصل الاحتلال، وتعزّزت فرص الحروب الأهلية في معظم أرجاء المنطقة.
هي مسؤولية عربية مشتركة الآن خلال القمّة المرتقبة في الدوحة، أن تقف القمّة العربية على أرضية واحدة من المواقف تجاه العدوّ والصديق والخصم، والاتفاق بالتالي على تصنيف "الأعداء" و"الخصوم" و"الأصدقاء". ومن المهمّ اعتماد المصلحة العربية المشتركة معياراً للتصنيف لا المصالح الفئوية. فقد ثبت حتى الآن من تجارب السنوات الثلاثين الماضية، أنّ المصلحة الفئوية تتحقّق آنياً ولفترة محدودة، ثم ترتدّ إلى الوراء بحكم تداخل قضايا المنطقة وتداعياتها المتلاحقة وتأثيراتها الشاملة.
هذا الدرس قد انطبق على التسويات السياسية الانفرادية وعلى الحروب العسكرية الفئوية. وسيتكرّر الدرس نفسه في مسألة الموقف من إيران، ومن القضايا العراقية والفلسطينية واللبنانية.
وحينما يخرج موقف عربي موحّد من رؤية عربية مشتركة، فإنّ "النفوذ الإقليمي" سيتقلّص لصالح دعم هذا الموقف العربي لا أن يكون بديلاً عنه كما واقع الحال اليوم.
التضامن العربي الفعّال على المستوى الرسمي بحاجة أيضاً لتدعيم الوحدة الوطنية الشعبية في كلّ بلد عربي، فبذلك التضامن الرسمي والوحدة الشعبية يمكن مواجهة التحديات الإقليمية والدولية وما هو قائم من "هلال احتلال" يمتدّ من القدس إلى بغداد، مروراً بأراضٍ سورية ولبنانية محتلة!
إنّ قوى الاحتلال في المنطقة، القديمة منها والحديثة، لها مصلحة كبيرة في المقولتين "الطائفية" و"الشرق أوسطية"، وهي تعمل على إسقاط "الهويّة العربية" التي تفرض التضامن بين العرب، وطنياً وقومياً، في مواجهة أيّ احتلال، وضدّ أي تفكيك لوحدة الدول أو الأمّة.
واقع الحال العربي الآن هو أشبه بلوحة "موناليزا" أو "الجيوكاندا" الشهيرة التي رسمها الفنان الإيطالي دافنشي، حيث "الابتسامة الجميلة" في جانب من الوجه و"ملامح الحزن" في الجانب الآخر!.
القمّة العربية القادمة في الدوحة تعِد ب"الابتسامة الجميلة"، لكن "ملامح الحزن" هي الطاغية الآن على صورة الواقع العربي ككل، ولا يقلّل أيٌّ من الأمرين من أهمّية اعتبار الأمر الآخر.
وستبقى التطورات مرهونة بمقدار استقلالية القرار العربي، وبمدى الجدّية في تنفيذ القرارات، وبكيفيّة رؤية حقيقة الصراعات في المنطقة.
الخميس، مارس 26، 2009
مصالحات عربية.. أم رؤية عربية مشتركة؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق