د. صلاح عودة الله
"باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته..الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مُباركا". ودعت مدينة القدس قبل أيام خلت الدكتورعبد الله انطون خوري"أبو نديم"..غيبه الموت عن عمر يناهز 81 عاما كرسها في خدمة القدس وفلسطين..حتى اخر أيام حياته ورغم المرض بقي قمة في العطاء..رحل عنا أقدم الجراحين البارزين في القدس خاصة وفلسطين عامة..رحل عنا من لم تفارق الابتسامة شفتيه ولو للحظة واحدة..تلك الابتسامة التي كانت تعادل نصف العلاج بالنسبة لمرضاه..لقد كان انسانا بكل ما تعنيه الكلمة قبل أن يكون طبيبا..لقد كان عميد الجراحين على مدار نصف قرن. رحل عنا نطاسي قلما تنجب الأرحام مثله..رحل عنا والألم يغص قلوبنا والدموع تملأ ماقينا..لقد كان مثالا للحكمة وأخا وأبا للفقراء والمحتاجين..لم يتخذ من الطب وسيلة للغنى, ولطالما عالج المرضى وبدون مقابل..رجل لم تعرف كلمة لا الى فمه طريقا..هب وعلى الدوام لمساعدة المحتاجين. كان مديرا طبيا لمستشفى مار يوسف في الشيخ جراح في القدس على مدار قرابة العشرين عاما..أحب واحترم الجميع ممن عملوا في هذا المستشفى ولم يكن يفرق بين موظف واخر وبغض النظرعن وظيفته فأحبه الجميع..كان متواضعا الى أبعد الحدود بل انه أوجد مفهوما جديدا للتواضع.
لقد عمل دائما من أجل توحيد المستشفيات العربية في القدس لتكمل بعضها بعضا وذلك من أجل تقديم أعلى مستويات الخدمات الصحية لأهل القدس وباقي أرجاء فلسطين المحتلة.
اذا تحدثنا عن الانتماء فهو الانتماء بعينه..انتماء الى المهنة وانتماء الى القدس والوطن..كان يطمح دائما في ايجاد مرجعية طبية تضاهي المستشفيات الاسرائيلية..كان دائما يقول:عندنا الكفاءات والطاقات وينقصنا توحيدها وجمعها.
كان رحمه الله اجتماعيا الى أبعد الحدود..فلم يترك مناسبة الا وكان من أول الحاضرين فيها.
قبل سنوات خضع الى عملية قلب مفتوح وكنت الذي قام بتخديره فيها وأشرفت عليه ايضا في وحدة العناية المركزة..ثلاثة أسابيع مرت والا بالدكتور عبدالله خوري يأتي الى بيتي حاملا هدية نفيسة وكعادته..تأثرت كثيرا قائلا له نحن زملاء ولا داعي لذلك..قال لي: صلاح هذا أقل شيء ممكن أن أقدمه لك تقديرا لعملك..كانت زيارته لي في شهر رمضان وعرضت عليه فنجانا من القهوة أو الشاي ولكنه رفض وحتى كأسا من الماء رفضه رغم اصراري..قال لي يا صلاح أعرف أنك لا تصوم ولكنني أحترم البيت المسلم, وغادر البيت دون أن يشرب أي شيء..انها قمة الانسانية واحترام الاخرين.
من السهل أن تكون طبيبا ولكن من الصعب أن تكون انسانا ولكن الدكتور عبدالله خوري جمع بين صفتين:لقد كان طبيبا قمة في النجاح وقمة في الانسانية.
انه صباح يوم الأحد المشؤوم الثامن من الشهر الحالي والذي جاء لينبئنا برحيله، ولم تشفع محبتنا ودعاؤنا له كي يبقي معنا بعد أن أدخل الى المستشفى في وضع حرج، فعجزت عن الحركة والكلام، كأنني كنت أعرف أنه ابن موت بكل معنى الكلمة، ودع الدكتور عبدالله الدنيا إنسانا شامخا وطبيبا رائعا وصل بأعماله الطبية ومساعداته الانسانية إلي درجة عالية, بل قمة في العلو، دون أن يدرك أنه حكم علينا بالألم وأنه سيمر وقت طويل حتي نعرف إنسانا وطبيبا وجراحا مثله.
لقد صدق من قال: ولم أرَ أمثالَ الرجالِِِ تَفاوتوا لدى الفَضْلِِِ حتّى عُدَّ ألفٌ بواحد..نعم يا حكيمنا لقد كنت بألف طبيب أو أكثر.
لقد ودعته القدس بموكب جنائزي يليق به وبكاه الكبير والصغير..عندما وضع الجثمان في كنيسة مستشفى مار يوسف لالقاء النظرة الأخيرة عليه..نظرة الوداع, انهمرت الدموع وبغزارة من عيون المودعين, كيف لا وهو الذي كان الأب والأخ والصديق لجميع من عملوا في هذا المستشفى..رأيت الجثمان مودعا زميلا وصديقا وكانت ابتسامته هي نفسها التي رافقته طيلة حياته.
برحيل الدكتور عبدالله خوري تخسر الحركة الطبية المقدسية والفلسطينية علما من أبرز أعلامها..ولكنه القدرالذي لا بد منه, ورحم الله من قال:ان الطبيب له في الطب معرفة**ما دام في أجل الانسان تأخير...اما إذا انقضت أيام مدته**حار الطبيب وخانته العقاقير.
زميلي وصديقي وأخي ووالدي,لن أبكيك, فما مات من زرع العقيدة وارتحل..لقد وهبت حياتك من أجل الاخرين وهذه الحياة هي فعلا التي تستحق أن تعاش..نعم, على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
رحل عنا دكتورنا ولسان حالنا يقول:سيذكرني قومي اذا جد جدهم**وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..نعم, لقد كنت بمثابة البدر الذي أضاء القدس وحركتها الطبية.
للفقيد الغالي الرحمة ولأهله وذويه الصبر والسلوان.
-القدس المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق