نبيل عودة
بات واضحا إن القيود المتعالية بعنصريتها الاثنية ، التي تحيط حكومات إسرائيل نفسها بها ، بتعاملها مع الشعب الفلسطيني ، وليس مع حماس فقط .. هي التي قادت ، إلى فشل الوصول إلى اتفاق حول صفقة تبادل الأسرى ، تحرير الجندي شاليط مقابل بضع مئات من الأسرى الفلسطينيين .
بتنا نعرف من خبرتنا في السياسات الإسرائيلية أنها دائما تميل إلى التشاطر والتحاذق ، والسير المحسوب على حافة الهاوية ، للحصول على إضافات ، حتى لو كانت هذه الإضافة لا تسوى أكثر من "حذاء طنبوري" جديد.
لم أتردد في مقالاتي في قول الحقيقة التي كنت أراها صحيحة ، حتى لو رأى فيها البعض تماثلا مع مواقف سياسية "غير مقبولة وطنيا " ، ولي مواقفي الواضحة من العديد من القضايا التي جرّت علي انتقادات عنيفة ، ولكني منذ حملت القلم لم أحاول إن أكتب ما يرضي الربع ، ولم أكتب إلا ما أراه صحيحا ، أو ممكن ... في زمنه وظروفه.
إن فشل الوصول إلى اتفاق حول تبادل الأسرى يقع بشكل مطلق على عاتق السلطات الإسرائيلية بكل أذرعها ، وما أراه إن وراء العناد الإسرائيلي قد تكون خطوات يجري إعدادها ...قد تبدأ باعتقالات وتتصاعد الى عنف محسوب اسرائيليا ، تماما كما كانت مغامرة جنوب لبنان "محسوبة" ، والعدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني في غزة "محسوبا" .
الشرق الأوسط بات مشبعا بعنف السياسات الاسرائيلية المحسوبة !!
إن صفقة تبادل الأسرى كان يجب إن تفتح الأبواب ليس للتصعيد في المواجهة مع الشعب الفلسطيني أو مع حماس تحديدا، إنما بداية جديدة للوصول إلى خلق أجواء جديدة من التعامل ، ولا أقول من التفاهم ، أو الاتفاق على حلول ...
واضح إن المفتاح بيد إسرائيل.. وليس بيد المحاصرين .
مهما قيل عن تراجع حماس عن التفاهمات السابقة ، يبقى يلح سؤال هام ، لماذا لم تنهوا الاتفاق في وقت التفاهمات السابقة ، ما دامت تروق لكم الأن ؟
إني أكتب كمواطن في إسرائيل . هذه الجملة قد لا تعجب بعض القراء ، ولكنها حقيقة واقع الأقلية العربية الفلسطينية الباقية في وطنها . ونكون دجالين وكذبة إذا نفينا هذه الحقيقة في نصوصنا ومن تفكيرنا السياسي. وكل اتفاق يحل إحدى القضايا العالقة ، نرى فيه خطوة في الطريق الصحيح من أجلنا نحن أيضا . حماس طلبت عددا من الأسرى مقابل أسيرها ولم تطلب كل الأسرى .. رغم إن هذا الأمر حق فلسطيني وشرط فلسطيني وانساني لأي تقدم في الاتجاه المركزي من حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وبغض النظر عن الواقع المؤسف ( المؤقت كما نأمل ) للإنقسام الفلسطيني.
إذا كانت إسرائيل لا ترى هذه الحقيقة ( تحرير الأسرى ) بقيمتها ودورها في الخروج من الصراع الدموي ، فهذا يعني إننا مقبلون على مستقبل يتجدد فيه العنف ويتصاعد ، وتنشأ أشكال جديدة من الصراع الدموي لا عهد لنا بها ، ولا نريد إن نصل ليوم نندم فيه على كل ساعة أضعناها من عمرنا في بلاد يصير القتل والدم والنار قانونها ونهجها.
الكرة في الملعب الإسرائيلي . هكذا كانت دائما .. ولا أظن إن إعلان فشل المفاوضات حول الأسرى ، يعني إن إسرائيل رفعت أيديها. وأتوقع حماقات تؤجج النيران ، وتملأ القلوب رعبا وكراهية ..
لا يوجد ما يمكن إضافته ، إلا إني أشعر بقلق المواطنين اليهود أيضا ، بالضبط كما أتألم لقلق أبناء شعبي لهذا الغياب الطويل لأبنائهم في الأسر ، وللثمن الرهيب الذي يدفعه شعبنا نتيجة العناد الاسرائيل . . ولغياب فرصة تحريرهم إلا بالطرق العسكرية .
القلق هو صفة إنسانية لا يمكن نفيها . لم يولد أي إنسان ليحرم من الحق بالحياة والحرية والتقدم والتطور وبناء ذاته ومجتمعه . كلنا أبناء آدم .. والظن إن التشاطر سيقود إلى انجازات أفضل ، وربما بطريقة مغامرة دموية تعتمد على التفوق العسكري والتفوق بوسائل الدمار والقتل .. هو ظن آثم سيقود إلى جولات أخرى من الاحتكام للقتل والعنف مع مختلف المنظمات الفلسطينية أو العربية الأخرى ، ومن يعلم .. ربما تقوم منظمات دولية تجد في موضوع الخطف والأسر تجارة رابحة.
تشدني ذاكرتي إلى عام 1970 حين كنت في موسكو ( أيام الاتحاد السوفييتي ) وشاهدت سلسلة أفلام جديدة ، أنتجت وقتها .. عن الحرب العالمية الثانية حملت أسم "التحرير".
في أحد هذه الأفلام ، يلتقي السفير السويسري في موسكو ، مع القائد الأعلى للجيش الأحمر وزعيم الاتحاد السوفييتي الرفيق يوسف ستالين ، حيث جاء السفير بمهمة وساطة حاملا اقتراحا ألمانيا "مغريا" للرفيق ستالين .
كانت ألمانيا قد تلقت أكبر هزيمة في الحرب العالمية الثانية ، بنجاح الجيش الأحمر بتحرير ستالينغراد ، وتدمير الجيوش الألمانية في جبهة ستالينغراد تدميرا كاملا وقتل مئات الألوف وأسر مئات الألوف ، وعلى رأسهم الفيلدمارشال فريدريك باولس قائد الجيوش الألمانية في جبهة ستالينغراد.
في نفس الفترة وقع ابن ستالين ، يعقوب يوسف ستالين .. أسيرا بيد الجيش الألماني في جبهة أخرى ، وحمل السفير السويسري اقتراحا ألمانيا بتحرير المارشال باولس مقابل الجندي يعقوب ستالين.
وكان رد الرفيق ستالين ، بعد ان دار دورتين وهو ينفث في فضاء غرفة مكتبه دخان البايب عابسا: " الجندي لا يبدل بمارشال" !!
موقف ستالين جعل المشاهدين يصفقون بحماس ودموع لموقف أصيل !!
واعدم الألمان الجندي يعقوب ستالين .
فهل تعتبر حكومات إسرائيل الأسرى الفلسطينيين مارشالات .. حتى تقف هذه المواقف المنغلقة عن أي حس إنساني، ليس للفلسطينيين ، أنما لليهود أيضا ؟
ألم تكن دموع والد الجندي نوعم شاليط ومئات المتضامنين معه كافية ليفهم ساسة اسرائيل أن الدنيا تغيرت ، وان عنادهم يعني بشاره سوداء لمستقبل أكثر سوادا للآباء والامهات اليهود ، ولكل مواطن في اسرائيل ؟
نبيل عودة – كاتب ، ناقد وإعلامي – الناصرة
nabiloudeh@hmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق