الخميس، مارس 05، 2009

واشنطن وطهران: دقّت ساعة التفاوض

صبحي غندور

قد تكون أسابيع أو أشهر محدودة قبل أن تباشر واشنطن وطهران اللقاءات الثنائية العلنية لبحث أزمة العلاقات بينهما، القائمة تاريخياً على مدى ثلاثين عاماً، والممتدة جغرافياً لقضايا وساحات هامّة هي الآن عصب السياسة الخارجية الأميركية. فالمجال الحيوي الجغرافي الذي تتحرّك فيه إيران يشمل الآن حدودها المباشرة مع العراق وأفغانستان، وهما الآن ساحة المعارك العسكرية للولايات المتحدة خصوصاً ولحلف الناتو عموماً. ثمّ إنّ الساحل الإيراني في منطقة الخليج العربي يشرف على كل الأساطيل الأميركية في المنطقة وعلى مراكز التواجد العسكري الأميركي هناك، وعلى ما في هذه المنطقة من مصادر هامّة للطاقة، وبالتالي فإنّ لطهران أيضاً دوراً مؤثّراً وهامّاً في الاقتصاد العالمي من خلال إنتاجها للطاقة ومن خلال موقعها الاستراتيجي المجاور لمنابع النفط والغاز.

أمّا المجال الحيوي السياسي والأمني لإيران فقد أضحى في العقدين الأخيرين شاملاً للصراع العربي/الإسرائيلي بجبهاته السورية واللبنانية والفلسطينية، وأصبحت طهران معنيّةً مباشرةً بتفاعلات وتعقيدات العلاقات العربية/العربية، وبالصراعات المحليّة في عدد من بلدان المنطقة.

وجاء الملف النووي الإيراني ليزيد ليس فقط من تأزّم علاقات طهران مع الغرب بل أيضاً من تعاظم دورها كقوّة إقليمية كبرى قادرة مستقبلاً على امتلاك السلاح النووي.



لكن تعاظم تأثير الدور الإيراني في السنوات الماضية لم يكن فقط محصّلة السياسة الإيرانية وحدها، بل ساهمت الإدارة الأميركية السابقة بطريق غير مباشر على مدى ثمانية أعوام بتوفير الفرص المناسبة للقيادة الإيرانية لاستغلال هذه الفرص وتوظيفها لصالح تعزيز الموقف الإيراني. فإسقاط إدارة بوش لنظاميْ طالبان في أفغانستان وصدام حسن في العراق، أزاح لطهران خصمين لدودين من جوارها الجغرافي. ثمّ كانت خطايا الخطط والممارسات الأميركية في العراق هي المدخل لتأثير إيراني كبير في التطورات الأمنية والسياسية بالعراق.

أيضاً، فإنّ تجاهل إدارة بوش للصراع العربي/الإسرائيلي وتهميشها للقضية الفلسطينية، ودعمها المطلق لإسرائيل ولعدوانها على الشعبين الفلسطيني واللبناني في أكثر من زمان ومكان، عناصر زادت كلّها من دعم إيران للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ومن تفعيل العلاقة الإيرانية مع سوريا ولبنان ومع المنظمات الفلسطينية المقاومة لإسرائيل.

أمّا على المستوى الدولي، فإنّ سياسة إدارة بوش التي قامت على "الانفرادية" الأميركية وعلى تجاهل القوى الكبرى الأخرى الفاعلة بالعالم، وعلى محاولة عزل روسيا ومحاصرتها أوروبياً بتوسيع حلف الناتو، وآسيوياً بالوجود العسكري الأميركي المباشر في العراق وأفغانستان وباكستان واليابان وكوريا الجنوبية إضافةً إلى جمهوريات سابقة بالاتحاد السوفييتي، كل ذلك جعل موسكو تتحرّك في الاتجاه المضاد لإدارة بوش، وعزّز من العلاقات الروسية/الإيرانية ومن وقوف موسكو مع طهران في قضية الملف النووي ورفض العقوبات الدولية عليها، بل والاستمرار في مساعدة إيران بالطاقة النووية.



إذن، هناك الآن متغيّرات تدركها القيادة الإيرانية بعد وصول باراك أوباما للحكم، وهو الذي دعا إلى سياسة خارجية أميركية مختلفة عن سياسة سلفه بوش. فإدارة أوباما قد لا تختلف من حيث الغايات الكبرى والمصالح الأميركية المطلوب تحقيقها عن الإدارات الأميركية السابقة، لكنّها ستختلف حتماً عن إدارة بوش من حيث المنطلقات والأساليب. إذ أنّ منطلقات إدارة أوباما ستكون قائمة على النتائج السلبية التي أفرزتها حروب إدارة بوش وسياسة "محاور الخير والشر" والانفرادية في القرارات الدولية الهامّة. فالمنهج "البراغماتي" في السياسة الأميركية عموماً يدرس النتائج ويستخلص منها العبر ويقبل بالواقع ويتعامل معه لتغييره لاحقاً بعد إعادة النظر بالأساليب والخطط العملية، لكن دون تراجع عن الغايات البعيدة أو المصالح الأميركية الكبرى.

وهذا يعني مراجعة إدارة أوباما لكل حقبة التأزّم في العلاقات مع إيران وغيرها، ووضع خطط وأساليب جديدة لما هو منشود أميركياً من استمرار الدور الأميركي القيادي للعالم.



إنّ ساعة التفاوض بين واشنطن وإيران قد دقّت بلا شك، فكلٌّ منهما يحتاج الآن للآخر. واشنطن تحتاج أولاً لطهران في توفير الظروف الأمنية والسياسية المناسبة لخروج القوات الأميركية من العراق، كما تحتاجها في احتمالات تداعيات الحرب في أفغانستان، وهنا تكمن مصلحة مشتركة بين الطرفين في عدم عودة "طالبان" مستقبلاً للحكم.

واشنطن تدرك فشل إدارة بوش في مواجهتها مع إيران وفي سلبيات سياسة العزل والعقوبات التي مارستها كل الإدارات السابقة منذ قيام الثورة الإيرانية، ممّا يجعل إدارة أوباما تطمح إلى فتح صفحة جديدة مع طهران بغضّ النظر عن نظام الحكم فيها وبشكل مشابه لعلاقات واشنطن مع الصين وفيتنام.

واشنطن تحتاج أيضاً إلى تعاون طهران في صراعات منطقة الشرق الأوسط عموماً وفي التسوية المنشودة تحديداً للصراع العربي/الإسرائيلي، كما تطمح واشنطن إلى تعاون أميركي/إيراني في توفير أمن استخراج وتصدير النفط والغاز في منطقة الخليج وجوارها.

في المقابل، تدرك القيادة الإيرانية أنّ التوقيت الآن هو الأفضل للمفاوضات المباشرة مع واشنطن، لأنّ عامل الزمن الذي كان يعمل بظلّ إدارة بوش لصالح إيران، سيكون الآن لغير صالح القيادة الإيرانية بسبب توجّهات إدارة أوباما الإيجابية تجاه العام ككل، ونحو موسكو بالتخصيص. فكلّما زادت الآن خطى التقارب بين واشنطن وموسكو، زاد الضغط على إيران من حليف دولي شديد الأهمية لها. كذلك الأمر بالنسبة للصين ولدول أخرى في العالم كانت ترفض رؤية إدارة بوش للصراعات كلّها وتتفاعل الآن إيجابياً مع الإدارة الأميركية الجديدة.

أيضاً، فإنّ جهود إدارة أوباما حالياً لتحقيق تسوية شاملة للصراع العربي/الإسرائيلي، ولتحسين العلاقات مع دمشق، من شأنها أن تخفّف من التأثير الإيراني المباشر في الشرق الأوسط وصراعاته الإقليمية والمحلية.

فإذا مرّت الأشهر القادمة دون حدوث تطوّر إيجابي حاسم في العلاقات الأميركية/الإيرانية، فإنّ ذلك سيضعف من أوراق التفاوض التي تملكها طهران، لكنّه أيضاً يضعف من خطوات السير نحو الاستقرار في العراق، ونحو التسوية السياسية لصراعات الشرق الأوسط.

هناك حتماً ضغوط كثيرة ستمارسها واشنطن على طهران لدفعها إلى القبول بالشروط الأميركية للحوار معها، لكن بإمكان إيران أيضاً تحصين وتحسين وضعها التفاوضي من خلال عمقها الاستراتيجي المهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموماً.

وإذا كان الرئيس أوباما قد أكّد في خطاب القسم الدستوري على حرصه على مدّ اليد لخصوم أميركا والتحاور معهم ومع العالم وفق قاعدة "الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة"، فأولى بدول المنطقة أن تفعل ذلك تجاه بعضها البعض. وهذا يتطلّب من طهران (الدولة الإقليمية الكبيرة) نزع كل الألغام التي زُرعت في السنوات الماضية من قِبَل إدارة بوش وأوجدت حالة من الحذر والخوف لدى الدول الصغيرة المجاورة لإيران، خاصة في ظل تصريحات غير مسؤولة أحياناً، أو إصرار على عدم حل قضايا عالقة منذ حكم الشاه، كقضية الجزر الإماراتية، أو الامتناع عن استخدام التسمية التي أطلقها الإمام الخميني لمنطقة الخليج بأنّها منطقة "الخليج الإسلامي" كحلٍّ لإشكالية تسمية "الخليج الفارسي".

إنّ إيران ساهمت بلا أيّ شك في تعزيز عناصر الصمود العربي المقاوم للاحتلال خلال السنوات الماضية وفي إسقاط مشاريع "شرق أوسطي جديد"، وهي مطالبة الآن بالمساهمة في تعزيز علاقاتها الإيجابية مع جوارها العربي، ففي ذلك مصلحة عربية وإيرانية مشتركة، وتعزيز للموقف الإيراني المفاوض مع العالم كله.

ليست هناك تعليقات: