نقولا ناصر
(الموقف الأميركي الذي يمكن أن يمثل اختراقا نوعيا في قضية المستوطنات هو الدعوة الصريحة إلى تفكيكها لأنها غير شرعية)
ما أعلن من نتائج عن قمتي الرئيس الأميركي باراك أوباما مع نظيره الفلسطيني محمود عباس في الثامن والعشرين من أيار / مايو الماضي ومع رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي في الثامن عشر من الشهر نفسه لا يشير إلى أي اختراق لحل الصراع العربي – الإسرائيلي ، وفي قلبه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، فجديده ليس إلا قديم الإدارة السابقة في حلة جديدة تغيرت فيها أسماء الأشخاص فقط ، وارتقى لون البشرة الإفريقي من منصب وزيرة الخارجية إلى مستوى الرئاسة الأميركية ، بينما بقيت أسماء مشاريع الحل وعناوينه كما هي دون أي تغيير ، وكذلك المصطلحات واللغة ، لتكون الخلاصة أن أوباما يبدو حتى الآن كمن قرر أن يستمر في الدوران في الحلقة المفرغة التي كان سلفه جورج بوش قد زج المنطقة فيها برؤية "حل الدولتين" لتظل المنطقة مشلولة الحركة ، وفاقدة الإرادة ، ومنشدة إلى وعد كالوهم في انتظار "غودو" الأميركي .
صحيح أن تركيز أوباما على أهمية وقف الاستيطان الإسرائيلي لاستئناف مفاوضات السلام ينسجم مع شرط فلسطيني مسبق تكرر إعلانه مؤخرا لاستئنافها ، وصحيح كذلك أن هذا التركيز يمثل فارقا عن كل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ إدارة جورج بوش الأب أوائل عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي ، وصحيح أنه تركيز بدأ يظهر كنقطة خلاف علنية بين إدارة أوباما وبين حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية ، إذ "لأول مرة منذ عقود من الزمن ... يبدو أن رئيسا أميركيا قد نجح في عزل قضية المستوطنات وفصلها عن العناصر الأخرى من عناصر التأييد لإسرائيل ، وهذا فك ارتباط أكثر ما يبدو واضحا في الكونغرس" كما ظهر عندما ذهب نتنياهو إلى الكونغرس بعد قمته مع أوباما حيث "صعق" ، كما قال معاونوه ، وهو "يستمع إلى ما بدا أنه هجوم منسق ضد موقفه من المستوطنات ... من زعماء الكونغرس ومشرعين رئيسيين يتعاملون مع العلاقات الخارجية وحتى من جماعة من الأعضاء اليهود" في الكونغرس ، كما جاء في تقرير لأسبوعية "فوروورد" اليهودية الإلكترونية في السابع والعشرين من الشهر الماضي .
لكنه تركيز ما زال قاصرا عن التحول إلى فارق نوعي في الموقف الأميركي من قضية المستوطنات الإسرائيلية لعدة أسباب ، أولها أن لم يرق بعد إلى وصف المستعمرات الاستيطانية اليهودية بأنها "غير شرعية" طبقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وميثاقها ، وهو الموقف الأصلي لواشنطن بعد احتلال إسرائيل للأراضي العربية والفلسطينية في عدوان عام 1967 الذي ظل يتآكل ويتراجع تدريجيا حتى باتت هذه المستعمرات لا تمثل بالنسبة للبيت الأبيض أكثر من "عقبة" في طريق "عملية السلام" ينبغي التغلب عليها بالتفاوض الثنائي الفلسطيني – الإسرائيلي دون أي تدخل من الولايات المتحدة أو من غيرها . أما السبب الثاني لقصور هذا التركيز فإنه يتمثل في استمرار إدارة أوباما في السير على خطى الإدارات السابقة التي ترفض فكرة الضغط على دولة الاحتلال من أجل التوقف عن توسعها الاستيطاني وارتهان ذلك لاتفاق الطرفين بالتفاوض الثنائي .
إن الموقف الأميركي الذي يمكن أن يمثل اختراقا نوعيا في قضية المستوطنات هو الدعوة الصريحة إلى تفكيكها لأنها غير شرعية من حيث المبدأ ثم تبني موقف سياسي حازم يضغط على دولة الاحتلال مبني على هذا الموقف المبدئي .
غير أنه من الظلم لأي إدارة أميركية مطالبتها عربيا وفلسطينيا بموقف كهذا بينما أصحاب القضية أنفسهم لم يعودوا يطالبون به كشرط مسبق لا محيد عنه لاستئناف المفاوضات مع حكومة الاحتلال ، أو في الأقل لانتزاع موافقة إسرائيلية من حيث المبدأ على تفكيكها كشرط أولي لاستئناف التفاوض . إن الاسطوانة المشروخة التي تطالب بوقف التوسع الاستيطاني "بما في ذلك النمو الطبيعي" من المفاوض الفلسطيني مسوغ كافي لكي لا يطالب المجتمع الدولي وقيادته الأميركية بأكثر مما يطالب الفلسطينيون أنفسهم به .
لا بل إن المفاوض الفلسطيني في تنازله المجاني ، في الأقل سياسيا إن لم يكن مبدئيا ، عن حق له بموجب القانون والشرعية الدوليين قد زاد من تشدد قوة الاحتلال الإسرائيلية طمعا منها في انتزاع المزيد من التنازلات الفلسطينية .
وقد بدأت التنازلات الفلسطينية مبدئية أولا قبل أن تتجسد مسلسلا من التنازلات السياسية المتواصلة . فالمشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين بدأ واستمر وما زال كمشروع استعمار استيطاني . وقد بدا التنازل المبدئي الفلسطيني الأول عندما أسقط المفاوض الفلسطيني صفة "المستوطن" عن المستعمر الذي غزا فلسطين عام 1948 وحوله إلى "شريك في السلام" ، بينما تحول مستوطن الأرض المحتلة عام 1967 إلى مواطن "إسرائيلي" يعرض المفاوض الفلسطيني عليه اليوم جنسية دولته المأمولة .
ففي تطويع للمرجعية الفلسطينية التفاوضية المعلنة لكي تعترف بالحقائق المادية التي خلقها الاحتلال فوق الضفة الغربية المحتلة عام 1967 والتي تعتبر مكاسب إقليمية غير شرعية حازها الاحتلال بالقوة المسلحة خلافا لميثاق الأمم المتحدة ، صدم رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض على قضايا الوضع النهائي ، أحمد قريع ، الرأي العام الوطني الفلسطيني عندما عرض ضم هذه المكاسب إلى "السيادة" الفلسطينية المأمولة على أن يتمتع مستوطنوها بازدواجية الجنسية الفلسطينية والإسرائيلية ، في مقابلته مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية في السادس والعشرين من أيار / مايو ، ل"يرحب" بالعنصري المعادي للعرب الذي يشغل حاليا منصب وزير خارجية دولة الاحتلال ، أفيغدور ليبرمان ، لكي يظل في "بيته" في أحدى مستعمرات الضفة ، ومثله "المقيمون في معاليه أدوميم وآرييل" ، الذين عقد قريع مقارنة ظالمة لشعبه وقضيته عندما شبههم بأنهم "تماما مثل العرب الإسرائيليين الذين يعيشون بين ظهرانيكم" ، في سابقة ليس من المتوقع أن تغري المحتلين بالجنوح أكثر نحو السلام لكنها بالتأكيد قمينة بإثارة سخط وطني فلسطيني ينبغي أن يكون كافيا لإحالة الفريق التفاوضي المسؤول عن توفير غطاء فلسطيني للوضع الذي آلت إليه القضية الوطنية حاليا إلى التقاعد .
والمفاوض الفلسطيني بدعوته إلى "تجنيس" المستعمرات اليهودية ومستوطنيها بالجنسية الفلسطينية إنما يهدم أساس القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة التي يبني عليها قضيته العادلة في عملية السلام ، ليتحول رئيس التفاوض الفلسطيني إلى ثاني مسؤول فلسطيني بعد صاحب مبادرة جنيف ، ياسر عبد ربه ، يعترف بالمكاسب الإقليمية التي حققها الاحتلال على الأرض منذ عام 1967 ، والفارق بين الرجلين أن الأول يوافق الآن على ضمها إلى الدولة الفلسطينية الموعودة بينما وافق الثاني على ضمها إلى دولة الاحتلال ، وإذا كان كلاهما متفقين على مبدأ تبادل الأراضي مع دولة الاحتلال فإن اليوم الذي قد يوافقان فيه على مبدأ التبادل الديموغرافي قد لا يكون بعيدا ، كما تشير تصريحات قريع ، ليجد المفاوض الفلسطيني نفسه عمليا ، بحكم الأمر الواقع، يقف على أرضية مشتركة مع أفيغدور ليبرمان الذي يدعو علنا إلى كلا المبدأين !
ويبدو المفاوض الفلسطيني في موافقته على ضم المستعمرات اليهودية في كلا الاتجاهين كمن يحاول إبداء أكبر قدر من المرونة لاسترضاء الوسيط الأميركي غير النزيه الذي سبق له أن قدم الجائزة نفسها لدولة الاحتلال في الرسالة الشهيرة التي بعثها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق آرييل شارون في الرابع عشر من الشهر الرابع عام 2004 ، وهي الرسالة التي أدانها الشعب الفلسطيني في حينه باعتبارها "وعد بلفور الثاني" . ويبدو المفاوض الفلسطيني اليوم على وشك التعاطي بواقعيته المعهودة مع وعد بلفور الثاني كما تعاطى مع وعد بلفور الأول لكي يدشن اليوم مرحلة تقاسم الضفة الغربية مع مستوطنيها مثلما وافق على تقاسم الأرض المحتلة عام 1948 مع مستوطنيها ، مما يعني الاستعداد لتقديم تنازلات جديدة ، عنوانها دولة فلسطينية بمستوطنات إسرائيلية ومستوطنين إسرائيليين ، أي منح عنوان فلسطيني للمكاسب الإقليمية التي حققها الاحتلال تحت مظلة "عملية السلام" الجارية منذ عشرين عاما ، وهذا أمر متوقع ممن بات يعتبر مقاومة المستوطن القديم والجديد معا "إرهابا" ينبغي اجتثاثه .
ولكي تضع واشنطن ما سماه رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية ، صائب عريقات ، "آلية لإجبار الحكومة الإسرائيلية" ، فإن الموقف التفاوضي الفلسطيني ينبغي له أولا أن يلتزم بآلية تضبط إيقاع عملية التفاوض ضمن الثوابت الوطنية وضمن المؤسسات التمثيلية بحيث تمنع الفريق المفاوض جماعة أو أفرادا من الانزلاق إلى اجتهادات تتجاوز الخطوط الوطنية الحمر باقتراحات مثل مقترحات قريع لهآرتس ومثل مبادرة جنيف ، وطالما ظلت مثل هذه الآلية الفلسطينية مفقودة فإن أي آلية أميركية كالتي "يأمل" عريقات فيها لن ترى النور أبدا .
إن تملص أوباما من الالتزام بأي آلية كهذه وتهربه من الالتزام بأي جدول زمني للحل ، بحجة انه لن يضع جدولا زمنيا "مصطنعا" لإقامة الدولة الفلسطينية المأمولة ، يحول إعلان التزامه بحل الدولتين إلى مجرد كلمات جوفاء ، ويحول أي عملية سلام مستأنفة إلى حلقة مفرغة جديدة يعود الفضل في عنوان "حل الدولتين" الذي تحمله لسلفه بوش بينما لا يوجد لأوباما أي فضل بأي جديد فيها ينسب إليه حتى الآن ، ليظل الانجاز المادي الوحيد في أي عملية سلام مستأنفة وفق هذه المعطيات هو استمرار خلق مكاسب مادية استيطانية للاحتلال الإسرائيلي على الأرض وبناء قوة أمنية فلسطينية يجري تأهليها لمنع أي مقاومة وطنية لهذه المكاسب الإسرائيلية ، ولن تكفي مناشدة أوباما للمفاوضين كي يتفاوضوا ب"حسن نية" لإنجاح أي مفاوضات مستأنفة .
كما أن حديث أوباما عن ضرورة أن "تحصل إسرائيل على بعض الثقة في الأمن بالضفة الغربية كي يتسنى لنا إحراز تقدم" ، وحثه للرئيس عباس "بصراحة" على وقف "التحريض والمشاعر المعادية لإسرائيل" لأنها "عقبات في طريق السلام" ، ودعمه "للرئيس عباس في إصراره الصامد على وجوب أن تعترف أي حكومة وحدة (فلسطينية) بمبادئ اللجنة الرباعية الدولية" لأنه "سيكون من الصعب جدا رؤية أي أمكانية للسلام في المدى الطويل" ، إلخ من شروط الاحتلال الإسرائيلي التي أعلنها بلغة إنكليزية ونسبها إلى مرجعية دولية ، فإنه حديث مكرر لا يتغير فيه سوى أسماء من يتحدثون به من الرؤساء الأميركيين الذين عجزوا جميعا حتى الآن ، وكان آخرهم أوباما ، عن التقاط كلمتين فقط هما "إنهاء الاحتلال" ، ليقرر الشعب الخاضع للاحتلال بعد ذلك مصيره بنفسه ، فهذا هو الهدف ، وليس الهدف السلام بلا عدل ، ولا دولة فلسطينية بشروط الاحتلال وموافقته .
إن تجديد أوباما الالتزام الأميركي بشروط الرباعية كبرنامج عمل لأي حكومة وحدة وطنية فلسطينية كان دعما صريحا لاستمرار الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي ، يخلق بيئة موضوعية تسوغ استمرار حصار قطاع غزة وتمهد لعدوان جديد عليه . وبمراجعة الشروط الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كما أوردها أحمد قريع في مقابلته مع صحيفة هآرتس يوم الثلاثاء الماضي وملاحظة أن رفع الحصار عن القطاع لم يكن أحدها ، فإنه يمكن الاستنتاج دون تجن بأن عباس قد أسقط بدوره هذا الشرط من شروطه لاستئناف المفاوضات عندما التقى أوباما يوم الخميس الماضي . والرسالة من كل ذلك غنية عن البيان .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
(الموقف الأميركي الذي يمكن أن يمثل اختراقا نوعيا في قضية المستوطنات هو الدعوة الصريحة إلى تفكيكها لأنها غير شرعية)
ما أعلن من نتائج عن قمتي الرئيس الأميركي باراك أوباما مع نظيره الفلسطيني محمود عباس في الثامن والعشرين من أيار / مايو الماضي ومع رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي في الثامن عشر من الشهر نفسه لا يشير إلى أي اختراق لحل الصراع العربي – الإسرائيلي ، وفي قلبه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، فجديده ليس إلا قديم الإدارة السابقة في حلة جديدة تغيرت فيها أسماء الأشخاص فقط ، وارتقى لون البشرة الإفريقي من منصب وزيرة الخارجية إلى مستوى الرئاسة الأميركية ، بينما بقيت أسماء مشاريع الحل وعناوينه كما هي دون أي تغيير ، وكذلك المصطلحات واللغة ، لتكون الخلاصة أن أوباما يبدو حتى الآن كمن قرر أن يستمر في الدوران في الحلقة المفرغة التي كان سلفه جورج بوش قد زج المنطقة فيها برؤية "حل الدولتين" لتظل المنطقة مشلولة الحركة ، وفاقدة الإرادة ، ومنشدة إلى وعد كالوهم في انتظار "غودو" الأميركي .
صحيح أن تركيز أوباما على أهمية وقف الاستيطان الإسرائيلي لاستئناف مفاوضات السلام ينسجم مع شرط فلسطيني مسبق تكرر إعلانه مؤخرا لاستئنافها ، وصحيح كذلك أن هذا التركيز يمثل فارقا عن كل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ إدارة جورج بوش الأب أوائل عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي ، وصحيح أنه تركيز بدأ يظهر كنقطة خلاف علنية بين إدارة أوباما وبين حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية ، إذ "لأول مرة منذ عقود من الزمن ... يبدو أن رئيسا أميركيا قد نجح في عزل قضية المستوطنات وفصلها عن العناصر الأخرى من عناصر التأييد لإسرائيل ، وهذا فك ارتباط أكثر ما يبدو واضحا في الكونغرس" كما ظهر عندما ذهب نتنياهو إلى الكونغرس بعد قمته مع أوباما حيث "صعق" ، كما قال معاونوه ، وهو "يستمع إلى ما بدا أنه هجوم منسق ضد موقفه من المستوطنات ... من زعماء الكونغرس ومشرعين رئيسيين يتعاملون مع العلاقات الخارجية وحتى من جماعة من الأعضاء اليهود" في الكونغرس ، كما جاء في تقرير لأسبوعية "فوروورد" اليهودية الإلكترونية في السابع والعشرين من الشهر الماضي .
لكنه تركيز ما زال قاصرا عن التحول إلى فارق نوعي في الموقف الأميركي من قضية المستوطنات الإسرائيلية لعدة أسباب ، أولها أن لم يرق بعد إلى وصف المستعمرات الاستيطانية اليهودية بأنها "غير شرعية" طبقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وميثاقها ، وهو الموقف الأصلي لواشنطن بعد احتلال إسرائيل للأراضي العربية والفلسطينية في عدوان عام 1967 الذي ظل يتآكل ويتراجع تدريجيا حتى باتت هذه المستعمرات لا تمثل بالنسبة للبيت الأبيض أكثر من "عقبة" في طريق "عملية السلام" ينبغي التغلب عليها بالتفاوض الثنائي الفلسطيني – الإسرائيلي دون أي تدخل من الولايات المتحدة أو من غيرها . أما السبب الثاني لقصور هذا التركيز فإنه يتمثل في استمرار إدارة أوباما في السير على خطى الإدارات السابقة التي ترفض فكرة الضغط على دولة الاحتلال من أجل التوقف عن توسعها الاستيطاني وارتهان ذلك لاتفاق الطرفين بالتفاوض الثنائي .
إن الموقف الأميركي الذي يمكن أن يمثل اختراقا نوعيا في قضية المستوطنات هو الدعوة الصريحة إلى تفكيكها لأنها غير شرعية من حيث المبدأ ثم تبني موقف سياسي حازم يضغط على دولة الاحتلال مبني على هذا الموقف المبدئي .
غير أنه من الظلم لأي إدارة أميركية مطالبتها عربيا وفلسطينيا بموقف كهذا بينما أصحاب القضية أنفسهم لم يعودوا يطالبون به كشرط مسبق لا محيد عنه لاستئناف المفاوضات مع حكومة الاحتلال ، أو في الأقل لانتزاع موافقة إسرائيلية من حيث المبدأ على تفكيكها كشرط أولي لاستئناف التفاوض . إن الاسطوانة المشروخة التي تطالب بوقف التوسع الاستيطاني "بما في ذلك النمو الطبيعي" من المفاوض الفلسطيني مسوغ كافي لكي لا يطالب المجتمع الدولي وقيادته الأميركية بأكثر مما يطالب الفلسطينيون أنفسهم به .
لا بل إن المفاوض الفلسطيني في تنازله المجاني ، في الأقل سياسيا إن لم يكن مبدئيا ، عن حق له بموجب القانون والشرعية الدوليين قد زاد من تشدد قوة الاحتلال الإسرائيلية طمعا منها في انتزاع المزيد من التنازلات الفلسطينية .
وقد بدأت التنازلات الفلسطينية مبدئية أولا قبل أن تتجسد مسلسلا من التنازلات السياسية المتواصلة . فالمشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين بدأ واستمر وما زال كمشروع استعمار استيطاني . وقد بدا التنازل المبدئي الفلسطيني الأول عندما أسقط المفاوض الفلسطيني صفة "المستوطن" عن المستعمر الذي غزا فلسطين عام 1948 وحوله إلى "شريك في السلام" ، بينما تحول مستوطن الأرض المحتلة عام 1967 إلى مواطن "إسرائيلي" يعرض المفاوض الفلسطيني عليه اليوم جنسية دولته المأمولة .
ففي تطويع للمرجعية الفلسطينية التفاوضية المعلنة لكي تعترف بالحقائق المادية التي خلقها الاحتلال فوق الضفة الغربية المحتلة عام 1967 والتي تعتبر مكاسب إقليمية غير شرعية حازها الاحتلال بالقوة المسلحة خلافا لميثاق الأمم المتحدة ، صدم رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض على قضايا الوضع النهائي ، أحمد قريع ، الرأي العام الوطني الفلسطيني عندما عرض ضم هذه المكاسب إلى "السيادة" الفلسطينية المأمولة على أن يتمتع مستوطنوها بازدواجية الجنسية الفلسطينية والإسرائيلية ، في مقابلته مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية في السادس والعشرين من أيار / مايو ، ل"يرحب" بالعنصري المعادي للعرب الذي يشغل حاليا منصب وزير خارجية دولة الاحتلال ، أفيغدور ليبرمان ، لكي يظل في "بيته" في أحدى مستعمرات الضفة ، ومثله "المقيمون في معاليه أدوميم وآرييل" ، الذين عقد قريع مقارنة ظالمة لشعبه وقضيته عندما شبههم بأنهم "تماما مثل العرب الإسرائيليين الذين يعيشون بين ظهرانيكم" ، في سابقة ليس من المتوقع أن تغري المحتلين بالجنوح أكثر نحو السلام لكنها بالتأكيد قمينة بإثارة سخط وطني فلسطيني ينبغي أن يكون كافيا لإحالة الفريق التفاوضي المسؤول عن توفير غطاء فلسطيني للوضع الذي آلت إليه القضية الوطنية حاليا إلى التقاعد .
والمفاوض الفلسطيني بدعوته إلى "تجنيس" المستعمرات اليهودية ومستوطنيها بالجنسية الفلسطينية إنما يهدم أساس القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة التي يبني عليها قضيته العادلة في عملية السلام ، ليتحول رئيس التفاوض الفلسطيني إلى ثاني مسؤول فلسطيني بعد صاحب مبادرة جنيف ، ياسر عبد ربه ، يعترف بالمكاسب الإقليمية التي حققها الاحتلال على الأرض منذ عام 1967 ، والفارق بين الرجلين أن الأول يوافق الآن على ضمها إلى الدولة الفلسطينية الموعودة بينما وافق الثاني على ضمها إلى دولة الاحتلال ، وإذا كان كلاهما متفقين على مبدأ تبادل الأراضي مع دولة الاحتلال فإن اليوم الذي قد يوافقان فيه على مبدأ التبادل الديموغرافي قد لا يكون بعيدا ، كما تشير تصريحات قريع ، ليجد المفاوض الفلسطيني نفسه عمليا ، بحكم الأمر الواقع، يقف على أرضية مشتركة مع أفيغدور ليبرمان الذي يدعو علنا إلى كلا المبدأين !
ويبدو المفاوض الفلسطيني في موافقته على ضم المستعمرات اليهودية في كلا الاتجاهين كمن يحاول إبداء أكبر قدر من المرونة لاسترضاء الوسيط الأميركي غير النزيه الذي سبق له أن قدم الجائزة نفسها لدولة الاحتلال في الرسالة الشهيرة التي بعثها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق آرييل شارون في الرابع عشر من الشهر الرابع عام 2004 ، وهي الرسالة التي أدانها الشعب الفلسطيني في حينه باعتبارها "وعد بلفور الثاني" . ويبدو المفاوض الفلسطيني اليوم على وشك التعاطي بواقعيته المعهودة مع وعد بلفور الثاني كما تعاطى مع وعد بلفور الأول لكي يدشن اليوم مرحلة تقاسم الضفة الغربية مع مستوطنيها مثلما وافق على تقاسم الأرض المحتلة عام 1948 مع مستوطنيها ، مما يعني الاستعداد لتقديم تنازلات جديدة ، عنوانها دولة فلسطينية بمستوطنات إسرائيلية ومستوطنين إسرائيليين ، أي منح عنوان فلسطيني للمكاسب الإقليمية التي حققها الاحتلال تحت مظلة "عملية السلام" الجارية منذ عشرين عاما ، وهذا أمر متوقع ممن بات يعتبر مقاومة المستوطن القديم والجديد معا "إرهابا" ينبغي اجتثاثه .
ولكي تضع واشنطن ما سماه رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية ، صائب عريقات ، "آلية لإجبار الحكومة الإسرائيلية" ، فإن الموقف التفاوضي الفلسطيني ينبغي له أولا أن يلتزم بآلية تضبط إيقاع عملية التفاوض ضمن الثوابت الوطنية وضمن المؤسسات التمثيلية بحيث تمنع الفريق المفاوض جماعة أو أفرادا من الانزلاق إلى اجتهادات تتجاوز الخطوط الوطنية الحمر باقتراحات مثل مقترحات قريع لهآرتس ومثل مبادرة جنيف ، وطالما ظلت مثل هذه الآلية الفلسطينية مفقودة فإن أي آلية أميركية كالتي "يأمل" عريقات فيها لن ترى النور أبدا .
إن تملص أوباما من الالتزام بأي آلية كهذه وتهربه من الالتزام بأي جدول زمني للحل ، بحجة انه لن يضع جدولا زمنيا "مصطنعا" لإقامة الدولة الفلسطينية المأمولة ، يحول إعلان التزامه بحل الدولتين إلى مجرد كلمات جوفاء ، ويحول أي عملية سلام مستأنفة إلى حلقة مفرغة جديدة يعود الفضل في عنوان "حل الدولتين" الذي تحمله لسلفه بوش بينما لا يوجد لأوباما أي فضل بأي جديد فيها ينسب إليه حتى الآن ، ليظل الانجاز المادي الوحيد في أي عملية سلام مستأنفة وفق هذه المعطيات هو استمرار خلق مكاسب مادية استيطانية للاحتلال الإسرائيلي على الأرض وبناء قوة أمنية فلسطينية يجري تأهليها لمنع أي مقاومة وطنية لهذه المكاسب الإسرائيلية ، ولن تكفي مناشدة أوباما للمفاوضين كي يتفاوضوا ب"حسن نية" لإنجاح أي مفاوضات مستأنفة .
كما أن حديث أوباما عن ضرورة أن "تحصل إسرائيل على بعض الثقة في الأمن بالضفة الغربية كي يتسنى لنا إحراز تقدم" ، وحثه للرئيس عباس "بصراحة" على وقف "التحريض والمشاعر المعادية لإسرائيل" لأنها "عقبات في طريق السلام" ، ودعمه "للرئيس عباس في إصراره الصامد على وجوب أن تعترف أي حكومة وحدة (فلسطينية) بمبادئ اللجنة الرباعية الدولية" لأنه "سيكون من الصعب جدا رؤية أي أمكانية للسلام في المدى الطويل" ، إلخ من شروط الاحتلال الإسرائيلي التي أعلنها بلغة إنكليزية ونسبها إلى مرجعية دولية ، فإنه حديث مكرر لا يتغير فيه سوى أسماء من يتحدثون به من الرؤساء الأميركيين الذين عجزوا جميعا حتى الآن ، وكان آخرهم أوباما ، عن التقاط كلمتين فقط هما "إنهاء الاحتلال" ، ليقرر الشعب الخاضع للاحتلال بعد ذلك مصيره بنفسه ، فهذا هو الهدف ، وليس الهدف السلام بلا عدل ، ولا دولة فلسطينية بشروط الاحتلال وموافقته .
إن تجديد أوباما الالتزام الأميركي بشروط الرباعية كبرنامج عمل لأي حكومة وحدة وطنية فلسطينية كان دعما صريحا لاستمرار الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي ، يخلق بيئة موضوعية تسوغ استمرار حصار قطاع غزة وتمهد لعدوان جديد عليه . وبمراجعة الشروط الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كما أوردها أحمد قريع في مقابلته مع صحيفة هآرتس يوم الثلاثاء الماضي وملاحظة أن رفع الحصار عن القطاع لم يكن أحدها ، فإنه يمكن الاستنتاج دون تجن بأن عباس قد أسقط بدوره هذا الشرط من شروطه لاستئناف المفاوضات عندما التقى أوباما يوم الخميس الماضي . والرسالة من كل ذلك غنية عن البيان .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق