الأحد، يونيو 07، 2009

مصطفى الحمدني ـ المعلم الأول كان بمفرده حزبا وطنيا كبيرا

عبـد الكـريم عليـان

عضو صالون القلم الفلسطيني

Elkarim76@hotmail.com

كان يكبرني بعشرة سنين.. في أوائل الثمانينات من القرن الماضي زارني الرفيق مصطفى الحمدني "أبو عبد الله" في بيتي، كانت علاقتي به حديثة العهد.. لم أكن أعرف توجهاته أو انتماؤه السياسي، وحين لاحظ بعض الكتب الفلسفية والتاريخية التي كنت أقتنيها اكتشف أنني سأكون جاهزا لانضمامي للحزب الذي ينتمي إليه.. وأنا شعرت أنني أعرفه منذ وقت طويل، لم يكن الحديث بيننا متناقضا أو حادا بقدر ما كانت وجهات نظرنا متقاربة في معظم القضايا التي كنا نناقشها.. بعد أيام دعاني للمشاركة في رحلة عائلية نقوم فيها بزيارة عدد من قرانا المحتلة عام 1948 القريبة من حدود غزة.. لم أكن أعرف أن الرحلة ستكون جزء من تصوير لمشاهد من فيلم " جيتو غزة.. " حينها لم يبال الساسة الإسرائيليون لمثل هذه الأعمال إذ أن العمل الثوري في قطاع غزة كان شبه متوقف، ومع ذلك عندما دخلنا قرية (دمرا) اعترضنا رئيس الكيبوتس الذي استوطن القرية بعد أن شرد أهلها، وقال: " ممنوع التجول هنا.." في حين كان المشاركون يتحسسون بيوتهم وأراضيهم وأشياؤهم التي مازال منها قائما شامخا بعد أربعين سنة من الاحتلال، يبدو أن رئيس الكيبوتس فهم هدفنا من الزيارة خاصة أنه لاحظ المصور والمخرج السويديين الأصل الذي كان يلازمهما أبو عبد الله كأنه هو المخرج والمنتج للفيلم.. الوعي الوطني والفكري للرفيق أبو عبد الله كان يتقدم الجميع..

طبقتنا العاملة في الورش والمزارع الإسرائيلية كانت تتزايد سنة بعد سنة، إلا أنها لم تكن تدرك حقوقها ولم تشكل ما يمكن أن نسميه وعيا عماليا يؤسس لتنظيم ما أو نقابة تستطيع أن تحميهم في أي ظرف، وكانت طبقة عمالنا منقسمة إلى فئتين، الأولى منظمة بشكل رسمي يخصم من رواتبهم للمنظمات والنقابات الإسرائيلية مثل الإسرائيليين، لكنهم لا يتمتعون بنفس الامتيازات، وجلهم كان لا يعرف ذلك.. والفئة الثانية غير منظمة أو غير رسمية لا يحميها أي قانون.. الرفيق أبو عبد الله لم يعمل في إسرائيل إلا فترة قليلة جدا إذ من المعروف أنه كان يعمل مخدرا في غرفة العمليات الجراحية بالمستشفى الأهلي بغزة معظم حياته، لكن وعيه وإدراكه لقضيتنا الفلسطينية كان جد متقدما، وطبقتنا العاملة وقضاياها كانت تأخذ من اهتمامه الكثير، وكان يتابعها بشغف إذ بوعيه المتقدم مع بعض رفاقه ساهم في إعادة تنشيط نقابات غزة المغلقة منذ احتلال غزة عام 67 تمهيدا لضم وإلحاق آلاف العمال إلى هذه النقابات إلى أن أجريت أول انتخابات لها في عهد الاحتلال عام 1987، وقد فاز حزبه (الحزب الشيوعي الفلسطيني ـ حزب الشعب حاليا) بنقابة البناء والنجارة النقابة الوحيدة التي أجرت انتخابات في ذلك الوقت.. وتنبه الحاكم العسكري لغزة في حينها لمستقبل صعب للاحتلال إذ لم يدم طويلا حتى نهاية العام من نفس السنة بدأت الانتفاضة الشعبية في غزة ومن ثم انتقلت إلى الضفة الغربية.. كان لأبي عبد الله إدراكه المتميز في دور هذه الطبقة.. ما زلت أذكر الاحتفال المتواضع الذي نظمه الرفيق بمناسبة الأول من أيار لعام 1984 في حديقة مقبرة الإنجليز بغزة إذ حضره عدد كبير من رفاق الحزب وأصدقاؤه مع عائلاتهم في وقت لم يكن فيه العمال هنا.. يعرفون شيء عن هذا العيد أو رمزيته.. إذ أن جلهم كان يعمل في إسرائيل التي ما زالت حتى يومنا هذا لا تعترف بهذا العيد ولا تحتفل به.. وليس غريبا أنه كان دائما يحدثني عن عمله، وكيف يكون الوعي النقابي متدنيا حتى عند المتعلمين إذ أنه استغرق وقتا طويلا في تشكيل أول لجنة (نقابة) للعاملين في المستشفى الذي كان يعمل فيه، ويشهد جميع من عمل معه بأنه أسس لنقابة نموذجية، بالمثابرة حقق انجازات نقابية لهم كان آخرها حسب ما حدثني قبل وفاته بسنتين أنه يجوز لأي عامل في المستشفى بعد تقاعده القانوني أن يبقى في عمله إذا كانت صحته تسمح بذلك بأجر يومي إن هو أراد ذلك بعد أن يكون قد أخذ مستحقاته التقاعدية، وبالفعل استمر هو في العمل بعد ذلك لأكثر من سنة حتى أصابه المرض الذي لم يمهله طويلا..

الرفيق أبو عبد الله كان مثقفا كبيرا يهتم ويقرأ كل شيء ولا يفوته مقالة، أو كتابا حديثا، أو قصيدة شعر، أو قصة قصيرة، أو رواية، أو مسرحية.. ولم يقف عند قراءتها فقط ! بل كان يعمل دائما على تدويلها بين الرفاق والأصدقاء الذين يقرؤون، أو يحكيها ويتناول الفائدة منها لمن لا يستطيع إمداده بها.. ليس ذلك فحسب، بل اصطحبني أكثر من مرة للسفر من غزة إلى القدس أو الضفة الغربية لحضور مسرحية أو نشاط ثقافي.. ومما أذكره أننا سافرنا مرة مع زوجاتنا أيضا لحضور مسرحية ( جليلي يا علي ) التي عرضت على مسرح الحكواتي في القدس في سنة 1984 ولا أعتقد أنه يوجد مثقفا كبيرا يسافر من غزة إلى القدس لحضور مسرحية! لكن قلّ من كان يسافر من غزة إلى الناصرة أو حيفا لشراء الكتب وإحضار عددا من جريدة الاتحاد والنشرات التقدمية.. الرفيق أبو عبد الله كان متمردا على التقاليد الضارة، والموروث العائلي والقبلي المتخلف إذ تحدى كل الأعراف السائدة في المجتمع عندما أرسل ابنته الكبيرة لدراسة الطب في روسيا سنة 1988 وهي الآن طبيبة مرموقة تعمل في وزارة الصحة بغزة، في وقت كان يخاف فيه الناس بإرسال أبناءهم الذكور للتعليم في دول غير عربية، وندرة منهم أرسلوا بناتهم للتعليم في دول عربية! بمن فيهم قيادات الحزب، ولم يتجرؤوا أن يقوموا ما كان يقوم به أبو عبد الله.. كان دائما يسعى إلى تغيير الناس إلى الأفضل، وكان متميزا فريدا يتقدم الجميع، يفعل ما يؤمن به كما قال أحد الفلاسفة: " إن عظمة الإنسان تكمن في إقامة علاقة جدلية بين جانبه العملي والقول.. " وقد يكون هذا ما سبب له كثيرا من المتاعب حتى من رفاقه، لكنه كان دائما سعيدا صابرا ودودا واثقا من أنه سيجني ثماره..

أبو عبد الله يسكن مع عائلته الكبيرة المكونة من ستة أبناء من الذكور جميعهم أنهى التعليم الجامعي، وكذلك خمسة من الإناث تزوجن جميعا وأنهين تعليمهن الجامعي أيضا.. في بيت صغير بمخيم جباليا الذي يعتبر أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين من حيث عدد السكان، لكنه قليل المساحة ومحدود الخدمات إذ كانت معظم شوارعه وأزقته الضيقة غير مرصوفة، وبدون بنية تحتية، ويصعب تنظيفها.. أبو عبد الله كان يهتم بالمكان الذي يأويه مع اللاجئين الذين يقاسموه نفس الهم، ومحافظا على البيئة التي تحيط به؛ فكان مبادرا جريئا لتنفيذ أفكاره المنظمة.. إذ بدأ مع عدد قليل من رفاقه بتنفيذ أول عمل تطوعي بتنظيف عدد من شوارع المخيم، وكان يهدف من خلال هذا العمل توسيع القاعدة الجماهيرية للحزب أيضا.. ثم تطور هذا العمل ليقوموا بتنفيذ قناة للمياه العادمة بالتعاون مع مكتب الصحة التابع لوكالة الغوث. ويبدو أن هذه التجربة دفعته مع الرفاق للانتقال إلى مدينة غزة لتوسيع قاعدة الحزب هناك أيضا.. لم يخلو مكان في أنحاء غزة إلا وخلق فيه قاعدة للحزب، كان يبحث دائما عن الأماكن التي لا يوجد فيها منظمة حزبية ليزورها ويعمل على تنظيمها وخلق أصدقاء وجماهيرا للحزب فيها، كأنه كان يعرف أن دورها في العمل الوطني سيأتي حينا لا محالة..

في اليوم الثاني للانتفاضة المجيدة عام 1987 حيث أصيب ابنه البكر (عبد الله) في أثناء المظاهرة الأولى لطلبة الثانوية والتي استشهد فيها الطالب حاتم السيسي وأصيب أكثر من سبعة عشر طالبا أيضا، جاءني مساء ذلك اليوم حاملا البيان الأول للانتفاضة الموقع باسم (القوى الوطنية) وكان عبارة عن نصف ورقة نسخت على عجل بطريقة يدوية، وحمل البيان كثيرا من عبارات التحريض ضد الاحتلال مطالبا الجماهير بمزيد من التنظيم واستمرار الاحتجاجات الشعبية... كل منا حمل رزمة من البيان وأخذ له حارة من حارات المخيم لنوزع البيان من منافذ وأبواب البيوت في حلكة الليل، كنا ليلتها ستة من الرفاق جميعهم يكبرونني كثيرا في العمر.. بعد يومين أرسل لي الرفيق أبو عبد الله اثنين من الرفاق، وطلبوا مني أن نقوم بصناعة الأعلام الفلسطينية حيث كان يعرف أنني أعمل في مجال الخياطة والأزياء في حينها، ذهبت مع الرسولان وقمنا بشراء أقمشة كثيرة بألوان العلم وعدنا إلى بيتي، بمساعدة الرفيقين أنجزت خياطة أكثر من ستين علما فلسطينيا أشرعت في صباح اليوم التالي فوق أعمدة الكهرباء في المخيم وخارجه.. ويبدو أن الرفيق أبو عبد الله قد شارك في تعليق الأعلام، كما أشار بذلك الأديب القاص عمر حمش في "اللؤلؤة المغادرة.." حيث كتب :" في تلك الليلة كنا قد قررنا تعليقه على أعالي أسلاك كهرباء الضغط العالي، في شارع (الترنس) الذي كان شارعا رئيسا في مخيم جباليا، والعلم كان غريبا يومها، ممنوعا، ورؤيته كانت تعني لهم - إن ارتفع - نهاية دولتهم المدججة بالسلاح! وأصرّ مصطفى الحمدني أن يكون العلم قبالة ثكنتهم في أعالي شارع (الترنس)! كان يقذفه؛ فيترنح إلينا العلمُ عائدا، ومع كلّ محاولة كانت أضواء العربات العسكرية تفاجئنا بالمجيء! كنا نلتقط العلم، ونختفي في زاوية هي اليوم مطعمٌ يرتاده سكان المخيم، ويعود الراحلُ مُصرّا بالعلم، وأعودُ معه للمحاولة، كانت الأسلاك بعيدة تناطحُ الفضاء، وكان علينا أن نعاجل، وأن نحاول مراتٍ ومرات قبل أن تكتشفنا الأضواء، ولن أنسى – بعد عودتنا - بهجة محياه وهو يبتسم لانسدال العلم، الذي تركناه يغيظهم، ويرفرف فوق المخيم، قبالة ثكنتهم للمرة الأولى! كان ليلتها علم فلسطين كبيرا، جميلا، بهيّا،علقته أياد نظيفة بلا أوامر من ضابطٍ، ولا برغبةٍ في راتبٍ، ولا بوعدٍ في وظيفة!!"

البيان الثاني للانتفاضة الموقع أيضا باسم (القوى الوطنية) شارك الرفيق أبو عبد الله الرفيق الأمين العام لحزب الشعب حاليا (بسام الصالحي) الذي كان حينها عضوا في اللجنة المركزية، وحلقة الوصل للحزب بين غزة والضفة.. أعتقد أن ذاك البيان صيغ في بيت أحد الرفاق بمخيم البريج، وقمنا بتوزيعه في مخيم جباليا بنفس الطريقة السابقة، وهكذا بدأ عصب الانتفاضة يشتد ويزداد قوة وينتقل إلى كافة المناطق، وتوالت تلك البيانات التي كان يصاحبها فعاليات مختلفة ضد جيش الاحتلال إلى أن لحقت الجبهة الشعبية ومن ثم حركة فتح والجبهة الديمقراطية في الشهر الثاني للانتفاضة، إلى أن تم تشكيل القيادة الوطنية الموحدة (قاوم).. اعتقل الرفيق أبو عبد الله مع العديد من قيادة الحزب وكوادر القوى الأخرى في الأشهر الأولى للانتفاضة، وزجوا جميعا في سجن أقيم خصيصا حينها في صحراء النقب سمي بسجن (كيتصعوت) ..

أبو عبد الله ـ كان يدرك حجم الانتفاضة وأثرها على الناس مقابل الرد العنيف من قبل الاحتلال وتعنته ومحاربته لكل مقومات الصمود، فمنذ البدايات بادر الرفيق بتشكيل اللجان الشعبية في حارات المخيم ليزيد من وعيها وإدراكها وتحميلها المسئولية عن تعزيز قوة الجماهير ورفع معنوياتها، ومازال أهالي المخيم يذكرون دور هذه اللجان في تعزيز صمودهم ومواجهتهم لكل أشكال العقاب الجماعي الذي كان يفرضه جيش الاحتلال المتغطرس من قتل وتدمير إلى فرض منع التجول لفترات طويلة إلى حصار..إلخ، في بدايات عمل (القوى الضاربة) للانتفاضة رفض أبو عبد الله ما قامت به حين سحبت البطاقات الممغنطة وتصاريح العمال في إسرائيل، ودافع بشدة عن العمال وعدم المساس بهم؛ لأنه يدرك بوعيه الطبقي أن لا فرار من ذلك في ظل ارتباطنا الاقتصادي كاملا بإسرائيل إن لم تتوفر بدائل أخرى للعمال حتى وقتنا هذا بعد عشرين سنة من ذلك..

مشروع أوسلو كان بالنسبة له يمثل انطلاقة جديدة لشعبنا الفلسطيني وامتحانا عصيبا إذا ما استطاع إدارة نفسه بنفسه، وإدارة الصراع لصالح الشعب الفلسطيني الذي عمل من أجله معظم حياته إذ لم يلتقي بي مرة واحدة إلا وكان يناقشني بالقضايا العامة، ونادرا ما كان يحدثني عن ظروفه الخاصة..! مع بدايات تكوين السلطة الوطنية في غزة، وتكوين المؤسسات والوزارات راح الرفيق أبو عبد الله لتأسيس مؤسسة جديدة وفريدة من نوعها هي: المركز الفلسطيني ضد العنف ـ كأنه كان يعرف أن الانتفاضة تركت آثارا سلبية على المجتمع، فبدأت مؤسسته بالمساهمة في الحد من ظاهرة العنف ضد المرأة والطفل سواء في الأسرة أو المدرسة، وبالطبع جند معه العديد من أخصائيين في علم النفس والقانون، عقدوا ورشات عديدة وزاروا مؤسسات وبيوت كثيرة.. وكذلك عمل الرفيق أبو عبد الله على تأسيس فرقة مسرحية ساهمت إلى حد كبير في علاج ظاهرة العنف من خلال عرضها اسكتشات ومسرحيات عديدة في المدارس والنوادي والمؤسسات الاجتماعية.. كنت أراه سعيدا عندما كان يصاحب فرقة المسرح، وهو يوزع منشورات وملصقات المركز الإرشادية والتوعوية إذا ما زارت الفرقة مدرسة ما..

كثيرا ما كان أبو عبد الله يعبر عن خوفه من عسكرة مجتمعنا الغزي، خاصة عندما تضخمت الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وكان يؤكد لي دائما أننا لسنا بحاجة إلى كل هذه الأجهزة وكل هذا العدد الذي اعتبره البعض حلا لمشكلة البطالة التي يعاني منها مجتمعنا خاصة عندما بدأت الانتفاضة الثانية ولم تستطع تلك الأجهزة وعددها من حماية الناس، ولا حماية أنفسهم أيضا.. وهذا ما دفع المجتمع فيما بعد بإيجاد خيارات أخرى لمقاومة الاحتلال الذي رسم مخططا لتدمير منجزات السلطة الفتية وتجلى ذلك في حركة حماس فيما بعد.. حالة الفلتان الأمني التي اجتاحت غزة قبل انقلاب حماس كانت مقلقة جدا للرفيق أبو عبد الله الذي كان سباقا في المطالبة بتطبيق القانون واحترام استقلال القضاء، فبعد شجار بين عائلتين في المخيم حدث في نيسان من عام 2003 راح ضحيته مقتل شاب لإحدى العائلتين نتيجة استخدام السلاح، اتصل بي الرفيق مصطفى، وقمنا بصياغة بيان للرأي العام طالبنا فيه التوقف عن استخدام السلاح بشكل خاطئ واحترام سيادة القانون واستقلاليته، وترسيخ مبدأ المحاسبة بدون تمييز، ودعونا فيه إلى عدم الانجرار وراء النزعات الفردية والاحتكام لصوت العقل والحكمة والمصلحة العامة والتجاوب مع كل الجهود الخيرة والطيبة.. ووقع على البيان في حينها عشرات من الشخصيات العامة، كالمثقفين والفنانين، والمؤسسات الرسمية والأهلية في المخيم، نشرت حينها في صحيفتي الأيام والحياة الجديدة.

عندما استعرت الهجمة الإسرائيلية على شعبنا في غزة في انتفاضة الأقصى باجتياحات متتالية طالت معظم خطوط التماس، وأحيانا كانت تتوغل لأطراف المخيم مما أثارت الرعب والفزع في نفوس أهلنا العزل.. سارع الرفيق ـ أبو عبد الله بالمبادرة ؛ فصغت معه بيانا بعنوان: " كيف نتصرف في حالة الاجتياح؟" وممهورا باسم (لجان الحماية الشعبية ـ مخيم جباليا بتاريخ 3/4/2002 ) وجاء في البيان : يا شعبنا المكافح/ إن مواجهة هذا الوحش المنفلت تقتضي واجبات على كل فرد وأسرة داخل أزقة مخيمنا البطل، فكيف يمكن تحويل مخيمنا إلى صرخة واحدة تجلجل الأرض تحت أقدام الغزاة المعتدين ومجنزراتهم؟ وتشكل تجربة فريدة في التصدي الشعبي الجماعي بدلا من الخلاص الفردي.. يا شعبنا البطل/ هل ننتظر حتى نذبح في بيوتنا؟! هل نهرب ونترك أطفالنا ونسائنا تحت رحمة إرهاب المحتلين؟! هل ننصاع لإرادة الاحتلال ونتعرض للاعتقال والإذلال؟! أتذكرون كيف كان أطفالنا يطاردون جنود الاحتلال وآلياته في الانتفاضة الأولى ويجبرونهم على الهرب والتقهقر من أزقة مخيمنا؟! لذا تدعوكم الحماية الشعبية إلى: الإسراع بتشكيل لجان أحياء في كل أرجاء المخيم لمواجهة هذه الهجمة والتصدي للإشاعات المغرضة، وتقديم المساعدات المختلفة. في حالة الاجتياح ضرورة الالتزام بالبقاء في المخيم وعدم مغادرته، والتكبير بصوت واحد: الله أكبر الله أكبر فوق قيد المعتدي، لكي نكسر إرادة الاحتلال ونربك جنوده وخططه، ولنستخدم كل مكبرات الصوت بما فيها مكبرات المساجد لتعزيز قوة وحدتنا. عصيان أوامر جيش الاحتلال وعدم الخروج من البيوت، وفي حالة استخدام القوة فليخرج الجميع شيوخا، أطفالا، نساء "كحماية بشرية ونفسية لشبابنا" والاعتصام في الشوارع الرئيسية كي تتحول المعركة بين شعبنا البطل المسلح بالإرادة مع جنود الاحتلال ودباباته التي ستهزم حتما أمام هذه الإرادة الجماعية القوية.. الله أكبر والعزة لله ، الله أكبر والعزة للوطن...

أبو عبد الله منظرا سياسيا من الطراز الأول، لم ألتق شخصا حتى الآن..! أقوى منه في تحليل المواقف السياسية سواء على المستوى الفلسطيني العربي بكل تعقيداته، أو على المستوى الدولي بكل مشاكله وأقطابه.. ويعتمد في تحليله على معطيات دقيقة ليربطها بمصالح الأطراف المتعددة، ومن ثم يستشرف المستقبل بطريقة مقنعة وأقرب إلى الصواب دائما... قبل انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة في العام 2006 حيث اهتم الرفيق مصطفى بما آلت إليه أمور شعبنا.. وكأنه كان يعرف نتيجة الانتخابات مسبقا؛ فقبل عملية الانتخابات بثلاثة شهور ناقشني الرفيق بموضوع الانتخابات فوصلت معه إلى نتيجة، أن حركة حماس ستكتسح الدائرة في شمال غزة لسبب رئيسي هو: أن حماس أكبر قوة منظمة في شمال غزة، وقدر عدد عناصرها العاملة بـ13 ألف عنصرا، ولا أعرف من أين حصل على الرقم، فضرب العدد في 3 فكان الناتج 39 ألف صوت، والحقيقة أن أكبر مرشح حصل على أكثر الأصوات كان حمساويا، حيث حصد 37 ألفا من الأصوات.. في الوقت الذي كانت فيه حركة فتح منقسمة على نفسها وتشرذمت عناصرها بين مستقلين ومنقسمين... اتفقت معه على وضع خطة يمكننا من خلالها اكتساب عضوا أو أكثر من أعضاء الدائرة الخمس المتنافس عليها، وتتركز الخطة بكيفية توحيد كل الأطراف الأخرى بما فيها المستقلين، بحيث نقدم خمسة مرشحين يتفق عليهم الجميع ويكونوا مقنعين جماهيريا، ونعمل جميعا كقوة موحدة أمام حركة حماس، فقمنا معا بعمل اجتماعات كثيرة مع المستقلين وباقي الأطر باستثناء القائمين على حركة فتح التي كانت منهمكة في مشاكلها وواهمة في قوتها.. وصاغ الرفيق أبو عبد الله بيانا بعنوان: "لدعم ومساندة أوسع تحالف وطني وديمقراطي" جاء في البيان: يا شعبنا العظيم / في 25 يناير القادم يأتي يوم الحساب الكبير الذي انتظرناه طويلا، يوم الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، يأتي هذا اليوم في ظل ظروف الخنق والسجن الكبير والاحتلال البغيض والفقر الذي يجثم على صدورنا.. وتفتح الأسواق على مصراعيها لمن يملك المال والسلطان كي يوزع الرشاوى والكوبونات والشعارات النارية حتى تستمر عملية تزوير إرادة الناس، وشراء الذمم.. كل ذلك من أجل إعادة إنتاج نفس النظام الذي ألحق ضررا كبيرا وفادحا بأصحابه أولا وبمشروعنا الوطني الاجتماعي والاقتصادي.. لقد أثبتت التجربة الإنسانية انهيار وفشل أنظمة الحزب الواحد مهما كان لونه وشكله، مما سهل على القوى المعادية للشعوب بإعادة احتلالها تحت يافطة الديمقراطية المزعومة كما حدث في العراق الشقيق وما سيحدث لباقي نفس الأنظمة. إن حاجتنا لانتخاب نظام سياسي جديد هي حاجة وطنية ملحة لترسيخ مبدأ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات وسيادة القانون تأتي فقط من خلال صناديق الاقتراع وتعزز أوسع مشاركة ومحاسبة مستمرة، وتعمل على تقوية جبهتنا الداخلية وتخليصها من كل الفاسدين والمزايدين، وتفرز ممثلين للشعب صادقين نظيفي اليد ومدافعين عن مشروعنا الوطني حاملين هموم الفقراء والعمال والمهمشين. يا جماهير شعبنا/ ماذا سنقول لآلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين إذا عادوا..؟ هل قاتلتم من أجل هذه النتائج الهزيلة!؟ لقد عزلت غزة وتحولت إلى سجن كبير بكاميرات على معبر رفح، وقيود جديدة بدون سيادة..؟ هل نكتفي بدعاء أنكم أحياء في وجداننا وأنكم الأكرمين؟ ماذا نقول للفقراء والعمال الذين تحولوا إلى متسولين؟ هل نكتفي بأنكم قوم الجبارين والمرابطين؟ كيف يمكن أن نصدق من يجيدون ركوب كل المراحل بما فيها مرحلة الانتخابات الحالية وهم نتاج لعشر سنوات عجاف؟! إننا نتوجه بكم ومعكم في دعم أوسع تحالف ديمقراطي وطني إنساني يحافظ على كرامة كل مواطن وحقه في المشاركة بصناعة مستقبله بحرية، ويراعي مصالح أوسع الفئات الاجتماعية تضررا من عمال وفقراء ومهمشين، ويكافح من أجل الاستقلال والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإبراز الوجه الحضاري لشعبنا.. إن دعمنا لهذا التوجه والتحالف سيؤدي حتما إلى إفراز نظام سياسي عصري يصمد أمام العواصف الخارجية والداخلية، ويمنع إعادة إنتاج نظام حكم الحزب الواحد مهما كان لونه وشعاراته لعشر سنوات أخرى.. لقد آن الأوان بدون تردد كي يحمل كل منا ضميره ويذهب لتقرير مصيره ومستقبله في يوم الحساب العسير (يوم الانتخابات).. ـ لجان دعم ومساندة التحالف الديمقراطي 19تشرين الثاني 2005 .

أبو عبد الله اكتشف مبكرا حالة الاستقطاب الحادة للجماهير بين حركتي فتح وحماس، وأدرك بأن ذلك ألحق ضررا فادحا بمشروعنا الوطني، وأن استمرار ذلك سوف يزيد من معاناة شعبنا ويعيق من تحقيق أهدافه.. أبو عبد الله لديه الحل والخروج من هذه الحالة، وسارع إلى خلق تجمع جديد من الشرفاء طمح بأن يكبر هذا التجمع بحيث يشكل وسيلة ضغط لتغيير النظام السياسي الفلسطيني بما يتلاءم وحاجات شعبنا، وصرخ عاليا في مقدمة البيان التأسيسي لهذا التجمع الذي أسماه ( كفـا )،وجاءت صرخته ومناداته مدوية: كفا للفقر، كفا للظلم والقهر، كفا للفساد، كفا للفوضى، كفا للفئوية والعشائرية، كفا للتطرف والتجهيل... وتلى في مقدمة البيان : استمرار لنضال شعبنا الطويل في الوصول إلى الحرية والاستقلال والعودة، كي نعيش في وطن حر خال من الفساد والإكراه يمارس فيه كل فلسطيني حقه في الحياة الكريمة ويأخذ دوره الطبيعي بين الشعوب، ويساهم بشكل كبير في الحضارة الإنسانية. رغم أن الاحتلال هو المسئول عن كل ما لحق بمجتمعنا من دمار وتشويه في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وإن تجربتنا المريرة تستحق منا إعادة النظر في أدائنا ومكونات نظامنا السياسي والاجتماعي، وضرورة تطويره. إن التجربة الإنسانية أثبتت فشل نظام سيطرة الحزب الحاكم وتفرده، وألحقت ضررا فادحا بمصالح الشعوب وتطورها. إن التجمع الفلسطيني (كفــا) يسعى لتطوير نظامنا السياسي بما يتلاءم مع حاجتنا إلى تقوية جبهتنا الداخلية وتحصينها للوقوف أمام المخاطر المحدقة بشعبنا. كفـا هو تجمع طوعي من الفلسطينيين الطامحين في وطن حر مستقل يمارس فيه كل مواطن حقه في العيش بكرامة وشرف، وينحاز لقضايا الناس وهمومهم خاصة الفقراء والعمال والشرائح المتوسطة، ويشكل حالة جديدة لعلاقات مبنية على الاحترام المتبادل، ويتبنى الحوار مع المواطنين والقوى السياسية والشخصيات المستقلة على قاعدة الاستقلالية والمصلحة العامة لشعبنا ومستقبله، ويعمل أعضاؤه بعقلية منفتحة على الجميع رافضين ثقافة الإقصاء والفئوية الضيقة والعشائرية المتعصبة واليأس والإحباط. ويهدف إلى: التمسك بالمشروع الوطني من خلال تعزيز ثقافة الحوار والديمقراطية وقبول الآخر وتحسين النظام السياسي الفلسطيني والوصول إلى حل سياسي عادل وشامل يستجيب للحقوق الشرعية لشعبنا. إحداث حراك سياسي شامل باتجاه رفض القطبية، وتعزيز التعددية لبلورة اتجاه ديمقراطي ثالث. تحسين فرص اختيار ممثلين صادقين أقوياء يواجهون الفساد وقوى التطرف والمغالاة والتجهيل. الاستمرار في الدفاع عن قضايا الناس المعيشية وحقهم في مجانية التعليم والصحة، والحق في العمل والسكن الملائم. العمل على تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون وسيادته. تكثيف الجهود لخلق فرص عمل للجميع واجتثاث البطالة المتفشية. العمل على إيجاد آليات وأدوات للمراقبة والمحاسبة في أداء السلطة التنفيذية من خلال ربط نواب المجلس التشريعي بالمواطن بشكل مستمر. العمل على إعادة النظر بالقوانين المشرعة والتي ألحقت ضررا فادحا بالمواطن خاصة القوانين الاقتصادية، والتوزيع الغير عادل للدخل، ومحاسبة من اعتدوا على الأموال والأملاك العامة..

لم يتسن للراحل أبو عبد الله مواصلة الدرب الذي آمن به، وحالة الانقسام أعاقت كثيرا من ممارسة فكرته، إضافة إلى حالة المرض التي لم تمهله كثيرا إلى أن فارق الحياة في الأول من أيار الفارط، لكنه ترك لنا تراثا غنيا من الفكر والممارسة الكفاحية عسى أن تكون نبراسا لنا لتحقيق أهدافنا الوطنية..

بكل الإباء والشمم غادرنا الرفيق مصطفى..

اطمئن يا رفيق فسنة التاريخ أن لا يصح إلا الصحيح..

سنواصل دربك الكفاحي ، وستظل ذكراك عطرة في نفوسنا..

لك المجد أبدا والخلود دوما، وطبت حيا وميتا.. وسلام لك...

ليست هناك تعليقات: