نقولا ناصر
(الحروب الأميركية الغربية المعاصرة في فلسطين ومحيطها العربي والعراق وأفغانستان لم تكن ، وليست الآن ، حروبا بين الإسلام وبين مسيحية الغرب أو علمانيته بل هي حروب بين الأطماع الغربية وبين أهل المنطقة)
أراد الرئيس الأميركي من خطابه بالقاهرة يوم الخميس الماضي ، الذي استغرق إلقاء ستة آلاف كلمة فيه خمسة وخمسين دقيقة ، أن يكون بيانا للأسس التي تقوم عليها سياسات إدارته تجاه القضايا الساخنة بين الولايات المتحدة وبين العرب والمسلمين ، ويمكن تلخيص الجديد في هذا الخطاب – البيان ، أو ما سماه أحد المعلقين ب"إعلان نوايا" ، في كونه حملة "علاقات عامة" تتميز في لغتها ب"دمغة" خاصة بأوباما لتسويق سياسات سلفه في الاستمرار في "إدارة الصراع" العربي الإسرائيلي ، والاستمرار في ما سماه بحرب "الاختيار" الأميركية على العراق ، والاستمرار في ما وصفه بحرب "الضرورة" الأميركية على أفغانستان بإضافة جديدة تتمثل في توسيع ميدان القتال فيها ليشمل باكستان ، وكل ذلك في إطار مقاربة استراتيجية خاطئة تعتمد على مدخل استراتيجي يضع كل قضايا الصراع الأميركي الساخنة مع العرب والمسلمين في إطار الصراع الديني بين الإسلام والغرب .
ففي تركيا كما في القاهره أعلن أوباما أن بلاده "ليست في حرب مع الإسلام" لكنه أعلن في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة تسعى إلى "شراكة" مع العرب والمسلمين في حروبها على العراق وأفغانستان ، وفي مواجهتها مع البرنامج النووي الإيراني ، وفي تثبيت المكاسب السياسية للحروب الإسرائيلية التوسعية المدعومة أميركيا على الدول العربية ، وفي الحرب العالمية التي تقودها واشنطن على المقاومات الوطنية للحروب الأميركية الثلاث في بلاد العرب والمسلمين تحت عنوان الحرب على "الإرهاب والتطرف" ، اللذين عرضهما أوباما باعتبارهما ظاهرتين معزولتين ، بذل جهده في الفصل التعسفي بينهما وبين عمليات الغزو والاحتلال الإسرائيلي والأميركي والعقوبات الاقتصادية والسياسية المكملة أو الممهدة لها والحاضنة الشعبية الموضوعية الواسعة التي تخلقها هذه العمليات لنمو ظاهرة الإرهاب والتطرف ، في تناقض واضح ، اتضح أكثر في إعلانه أن "الإسلام ليس جزءا من المشكلة" قبل أن يشيد بالتسامح الإسلامي التاريخي ليستدرك مناقضا إعلانه هذا بأنه حتى في "العصر الذهبي" للدين الحنيف كان اليهود يعاملون باعتبارهم من "أهل الذمة" ، ملمحا إلى وضع دوني سلبي دون أن يشفعه بتوضيح الأمان والحماية الممنوحين في أي نظام إسلامي لمن دخلوا في ذمة المسامين ، ليتابع التلميح نفسه بالإشارة إلى "نصارى" مصر و "موارنة" لبنان في العصر الراهن !
إن وضعه الحروب الأميركية – الإسرائيلية المعاصرة على العرب والمسلمين عمليا في إطار الصراع بين الإسلام والغرب هي مقاربة استراتيجية مغلوطة فيها الكثير من التجني على العرب والمسلمين بقدر ما فيها من الخلط الذي يستهدف التغطية على الأطماع الاستعمارية الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية للحروب الغربية على العرب والمسلمين في التاريخ وفي الوقت الراهن على حد سواء ، والتي لا علاقة لها البتة بأي صراع ديني إلا بقدر ما استخدمت الدين غطاء لها . فحروب "الفرنجة" – كما سماهم المؤرخون العرب والمسلمون -- على بلاد العرب والمسلمين ، والتي سماها الفرنجة أنفسهم "الحروب الصليبية" لتوفير الغطاء الديني لها ، مثلها مثل الحروب الأميركية الغربية المعاصرة عليهم في فلسطين ومحيطها العربي والعراق وأفغانستان لم تكن ، وليست الآن ، حروبا بين الإسلام وبين مسيحية الغرب أو علمانيته بل هي حروب بين الأطماع الغربية وبين أهل المنطقة الذين كان قدرهم التاريخي أن يكونوا من العرب والمسلمين ، ولو كانوا غير ذلك لما اختلف الأمر إلا في المسميات فقط .
وتتضح هذه الحقيقة أكثر ما تتضح في فلسطين اليوم ، حيث يحرص أصحاب المشروع الصهيوني فيها على تسويغه دينيا ب"وعد إلهي" يحاولون استثمار قول المسيح عليه السلام إنه جاء "ليتمم لا لينقض" لكي يفتعلوا قاسما مشتركا بين اليهودية وبين المسيحية يجند المسيحية الغربية إلى جانب مشروعهم ، كما حدث فعلا ، وقد نجحوا في خلق تيار "المسيحية الصهيونية" نتيجة لذلك ، ليحولوا غزوهم واحتلالهم إلى معركة مفتعلة بين الديانتين وبين الإسلام ، وهم في مسعاهم هذا يحاولون بكل الوسائل تصفية الوجود المسيحي في فلسطين بسبب المخاطر الاستراتيجية الكامنة في استمرار هذا الوجود على الدعم المسيحي الغربي لمشروعهم ، ويحاولون تصوير النضال الوطني الإسلامي المسيحي الفلسطيني ضد مشروعهم واحتلالهم باعتباره مجرد تطرف وإرهاب إسلاميين ، للتغطية على حقائق التاريخ التي قاوم فيها أهل فلسطين غزو الفرنجة واحتلالهم بالقوة نفسها التي قاوموا فيها المسلمين الأتراك عندما حولوا خلافة اسلامية إلى غطاء لاحتلال قومي . لكن "ربما يكون الأكثر أهمية" في خطاب أوباما هو أنه "وضع الدين في قلب عملية صنع السلام" كما كتب فيصل عبد الرؤوف في الواشنطن بوست في الخامس من الشهر الجاري .
ففي خطابه الذي لم يتمخض عن أي جديد هام سياسيا بالرغم من أهميته اللغوية تاريخيا بنى أوباما على هذه المغالطة التاريخية والسياسية ، بينما يعتمد أي حل عادل يقود إلى سلام دائم للصراع العربي الإسرائيلي على الافتراق عنها ، فخلاصة مقاربته لهذا الصراع تقوم على أساس انتزاع موافقة عربية وإسلامية على الاعتراف بشرعية حل "المسألة اليهودية" في الغرب على حساب العرب والمسلمين باعترافهم بشرعية "دولة يهودية" في دار العروبة والإسلام .
وبالرغم من النجاح النسبي لأوباما في الخطاب – البيان الذي توج به حملة علاقاته العامة الموجهة للرأي العام العربي والإسلامي في انتزاع رد فعل عربي ورسمي مرحب ومتفائل ب"لغة" هذه الحملة ، فإن بناء استراتيجيته على أساس أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي "القضية السياسية المركزية" في المنطقة ، كما كتب المعلق الإسرائيلي باري روبين في "الصوت المعتدل" ، أو كما جاء في عنوان للأسوشيتدبرس بأن "نجاح إسلام أوباما يعتمد على إسرائيل" ، وتأكيده بأن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية راسخة وغير قابلة للتفاوض عليها من أجل الاسترضاء الأميركي للرأي العام العربي والإسلامي ، ثم تكرار تأكيده في مصر وفي المانيا بعد ذلك ب"اننا لا نستطيع فرض السلام" ، إن كل ذلك وغيره قد نسف التفاؤل الذي نجحت "لغته" في خلقه ، لأنه نسف الأساس العملي الذي يقوم عليه الإجماع العربي على "مبادرة السلام العربية" في الرهان على قدرة الولايات المتحدة تحديدا على "فرض" حل ينهي الصراع .
ولا يستطيع لا الموقف العربي الرسمي ولا الشعبي تفسير العجز الذي أعلنه أوباما عن "فرض" حل كهذا إلا بكونه عجزا سببه الأول والأخير أنه سيكون فرضا للقدرة الأميركية على الفعل في مواجهة إسرائيل ، وإلا المقارنة بين هذا العجز وبين الإصرار الأميركي حد الغزو فالاحتلال على"فرض" تغيير الأنظمة في العراق وفي أفغانستان من أجل تغيير الوضع فيهما وحولهما وادعاء واشنطن العجز عن تغيير الوضع في الأراضي العربية المحتلة الفلسطينية والسورية واللبنانية بالقوة المسلحة أو حتى بالتلويح بقوتها الاقتصادية والدبلوماسية .
لقد لخص رئيس تحرير صحيفة القدس العربي اللندنية عبد الباري عطوان القاسم المشترك في رد الفعل العربي بعامة والفلسطيني بخاصة على خطاب أوباما من القاهرة الخميس الماضي باقتباسه من المثل العربي الذي يقول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا" ، وهنا يكمن السبب الأول في التناقض بين الكلمة وبين الفعل في سياسة "اللاسياسة" التي أعلنها في خطابه ، الذي ربما لم يقرأ العرب والفلسطينيون فيه سوى إعلانه ب: "إننا لا نستطيع فرض السلام" ، ف"فرض" الولايات المتحدة للسلام بالرؤية التي تعلن إدارة أوباما التزامها بها مثل الإدارة السابقة والتي تحولت إلى رؤية عربية وفلسطينية رسمية تنتظر ممارسة واشنطن لامكانيات القوة العظمى التي تمكلها من أجل فرضها هو المصدر الوحيد للتفاؤل الرسمي العربي والفلسطيني الذي بدده أوباما يوم الخميس بالكلمات الخمس التي أعلن فيها عجزه عن فرضها .
وما لم يقله أوباما في خطابه يعزز الاستنتاج بأنه يواصل سياسة أميركية تقليدية لكن بأسلوب جديد يعزز فقط بيع أوهام السلام إلى العرب والمسلمين ويعزز الأوهام العربية في صدقية الرهان على الوسيط الأميركي الذي عجز طوال ستة عقود من الزمن عن إثبات صدقيته لهم ، مثل تجاهله لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية والقانون الدولي كمرجعية للسلم والأمن والاستقرار الدولي ولحل الصراع العربي الإسرائيلي بخاصة ، وحديثه عن المأساة الإنسانية في قطاع غزة وتجاهله للحصار الإسرائيلي الناجمة عنه ، وإعلان التزامه بحل الدولتين دون إي إشارة إلى المخاطر -- على مليون ونصف المليون فلسطيني في إسرائيل وعلى خمسة ملايين من إخوانهم اللاجئين في المنافي والمهاجر والشتات – الكامنة في مقولة "الدولة اليهودية" التي اضافتها حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة إلى الشروط الإسرائيلية المسبقة لصنع السلام ، وعدم إشارته إلى الأراضي العربية السورية المحتلة في الجولان بالرغم من أهميتها الحاسمة في صنع السلام الإقليمي ، إلخ.
وما قاله لا يقل أهمية عما لم يقله ، وخصوصا في إعادة تأكيده على سياسة سلفه كمدخل لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وفق رؤية حل الدولتين على أساس خريطة الطريق التي تعتمد الأمن الإسرائيلي قاعدة لها ، واجتثاث أي مقاومة للاحتلال حتى لو كان في شكل تعبئة وطنية لفظية ضده بحجة أنها "تحريض" ، وكان تكرار تأكيد أوباما في خطابه لما كان أكده أثناء اجتماع قمته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في البيت الأبيض أواخر الشهر الماضي عن ضرورة الالتزام بالشروط الإسرائيلية التي تحولت إلى "شروط اللجنة الرباعية الدولية" هو تأكيد على الاستمرار في تغذية الانقسام الفلسطيني الذي انفجر عنيفا أولا في قطاع غزة في منتصف عام 2007 بينما تهدد مأساة قلقيلية في شمال الضفة الغربية الأسبوع الماضي بانفجار مماثل هناك اليوم .
وعشية الزيارة التي قام بها أوباما للقاهرة حيث ألقى خطابه الذي أراده أن يكون تاريخا فاصلا في تغيير صورة بلاده من السواد إلى البياض بين العرب والمسلمين ، نشر معهد غالوب المعروف أحدث استطلاعاته للرأي في إحدى عشرة دولة عربية ليكشف بأن التأييد للسياسات الأميركية في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد انخفض من (13%) في عهد سلفه جورج دبليو. بوش إلى سبعة في المئة في عهده .
وهذه نتيجة ينبغي أن يتوقف عندها أوباما وكل مسؤول أميركي ، لأنها نتيجة عكسية غير متوقعة بعد أن كان سلفه بوش أول رئيس أميركي يتبنى رسميا "رؤية" لإقامة دولة فلسطينية ، وبعد أن أصبح أوباما نفسه أول رئيس أميركي يستخدم تعبير "المقاومة" بدل "الإرهاب" الذي كان سلفه يستخدمه لوصف المقاتلين الفلسطينيين من أجل الحرية والحق في تقرير المصير ، ولا بد لأوباما وإدارته من البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا التناقض بين هذه "الأوائل" الأميركية وبين النتائج غير الإيجابية المعاكسة لها في الاستجابة الفلسطينية السلبية لها كما تظهر في استطلاعات الرأي العام الفلسطيني .
فتزامن خطابه مع انفجار الاقتتال الفلسطيني في قلقيلية الأسبوع الماضي الذي يهدد بالتحول إلى ما يشبه كرة الثلج إذا لم يتدارك أوباما وإدارته الأمر بسرعة لكبح جماح عوامل التصعيد في هذا الانفجار ، وهي عوامل في جوهرها وفي أدواتها وفي تمويلها وفي قيادتها وفي الدعم الدبلوماسي والسياسي لها بدأت وما زالت وسوف تستمر أميركية ، بالرغم من واجهتها الفلسطينية .
ففي خضم الاتهامات "الفلسطينية" المتبادلة عمن يتحمل المسؤولية عن استشهاد عشرة فلسطينيين خلال أقل من أسبوع في قلقيلية المطوقة بقوات الاحتلال والمحاصرة بجدار الضم والتوسع الذي بنته حولها ، يكاد المسؤول الأميركي الحقيقي يفلت من مسؤوليته عن سياسته التي خلقت البيئة الموضوعية للاقتتال ثم الانقسام الفلسطيني الراهن الذي إن لم تتغير السياسة الأميركية التي تغذيه فإنه يعد بتكرار مأساة قلقيلية في المدينة نفسها أو في غيرها من المدن الفلسطينية الأخرى المحاصرة تحت الاحتلال منذ عام 1967 . لكن أوباما بدلا من ذلك يضغط على الرئاسة الفلسطينية في الاتجاه المعاكس ، ليكرر في القاهرة وفي ألمانيا بأنها ما زالت لا تفعل "ما فيه الكفاية" !
وعندما تتحول مطاردة المقاومين الفلسطينيين بهدف اعتقالهم أو اغتيالهم إلى قاسم مشترك بين أي طرف فلسطيني وبين قوات الاحتلال ، بغض النظر عن النوايا والأهداف المعلنة ، بدل أن تكون حمايتهم ودعمهم قاسما وطنيا فلسطينيا مشتركا بين كل الاجتهادات الوطنية ، يكون هناك بالتأكيد خلل في معادلة الصراع بين القوة القائمة بالاحتلال وبين الشعب الخاضع للاحتلال ، وبالتأكيد أيضا لا يمكن إعفاء السياسة الأميركية القديمة – الجديدة من المسؤولية الأولى عن هذا الخلل ، وعن تفاقم الانقسام الفلسطيني ، وانسداد طريق الحوار الوطني للتغلب عليه ، وتفاقمه ليهدد باقتتال فلسطيني جديد .
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
(الحروب الأميركية الغربية المعاصرة في فلسطين ومحيطها العربي والعراق وأفغانستان لم تكن ، وليست الآن ، حروبا بين الإسلام وبين مسيحية الغرب أو علمانيته بل هي حروب بين الأطماع الغربية وبين أهل المنطقة)
أراد الرئيس الأميركي من خطابه بالقاهرة يوم الخميس الماضي ، الذي استغرق إلقاء ستة آلاف كلمة فيه خمسة وخمسين دقيقة ، أن يكون بيانا للأسس التي تقوم عليها سياسات إدارته تجاه القضايا الساخنة بين الولايات المتحدة وبين العرب والمسلمين ، ويمكن تلخيص الجديد في هذا الخطاب – البيان ، أو ما سماه أحد المعلقين ب"إعلان نوايا" ، في كونه حملة "علاقات عامة" تتميز في لغتها ب"دمغة" خاصة بأوباما لتسويق سياسات سلفه في الاستمرار في "إدارة الصراع" العربي الإسرائيلي ، والاستمرار في ما سماه بحرب "الاختيار" الأميركية على العراق ، والاستمرار في ما وصفه بحرب "الضرورة" الأميركية على أفغانستان بإضافة جديدة تتمثل في توسيع ميدان القتال فيها ليشمل باكستان ، وكل ذلك في إطار مقاربة استراتيجية خاطئة تعتمد على مدخل استراتيجي يضع كل قضايا الصراع الأميركي الساخنة مع العرب والمسلمين في إطار الصراع الديني بين الإسلام والغرب .
ففي تركيا كما في القاهره أعلن أوباما أن بلاده "ليست في حرب مع الإسلام" لكنه أعلن في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة تسعى إلى "شراكة" مع العرب والمسلمين في حروبها على العراق وأفغانستان ، وفي مواجهتها مع البرنامج النووي الإيراني ، وفي تثبيت المكاسب السياسية للحروب الإسرائيلية التوسعية المدعومة أميركيا على الدول العربية ، وفي الحرب العالمية التي تقودها واشنطن على المقاومات الوطنية للحروب الأميركية الثلاث في بلاد العرب والمسلمين تحت عنوان الحرب على "الإرهاب والتطرف" ، اللذين عرضهما أوباما باعتبارهما ظاهرتين معزولتين ، بذل جهده في الفصل التعسفي بينهما وبين عمليات الغزو والاحتلال الإسرائيلي والأميركي والعقوبات الاقتصادية والسياسية المكملة أو الممهدة لها والحاضنة الشعبية الموضوعية الواسعة التي تخلقها هذه العمليات لنمو ظاهرة الإرهاب والتطرف ، في تناقض واضح ، اتضح أكثر في إعلانه أن "الإسلام ليس جزءا من المشكلة" قبل أن يشيد بالتسامح الإسلامي التاريخي ليستدرك مناقضا إعلانه هذا بأنه حتى في "العصر الذهبي" للدين الحنيف كان اليهود يعاملون باعتبارهم من "أهل الذمة" ، ملمحا إلى وضع دوني سلبي دون أن يشفعه بتوضيح الأمان والحماية الممنوحين في أي نظام إسلامي لمن دخلوا في ذمة المسامين ، ليتابع التلميح نفسه بالإشارة إلى "نصارى" مصر و "موارنة" لبنان في العصر الراهن !
إن وضعه الحروب الأميركية – الإسرائيلية المعاصرة على العرب والمسلمين عمليا في إطار الصراع بين الإسلام والغرب هي مقاربة استراتيجية مغلوطة فيها الكثير من التجني على العرب والمسلمين بقدر ما فيها من الخلط الذي يستهدف التغطية على الأطماع الاستعمارية الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية للحروب الغربية على العرب والمسلمين في التاريخ وفي الوقت الراهن على حد سواء ، والتي لا علاقة لها البتة بأي صراع ديني إلا بقدر ما استخدمت الدين غطاء لها . فحروب "الفرنجة" – كما سماهم المؤرخون العرب والمسلمون -- على بلاد العرب والمسلمين ، والتي سماها الفرنجة أنفسهم "الحروب الصليبية" لتوفير الغطاء الديني لها ، مثلها مثل الحروب الأميركية الغربية المعاصرة عليهم في فلسطين ومحيطها العربي والعراق وأفغانستان لم تكن ، وليست الآن ، حروبا بين الإسلام وبين مسيحية الغرب أو علمانيته بل هي حروب بين الأطماع الغربية وبين أهل المنطقة الذين كان قدرهم التاريخي أن يكونوا من العرب والمسلمين ، ولو كانوا غير ذلك لما اختلف الأمر إلا في المسميات فقط .
وتتضح هذه الحقيقة أكثر ما تتضح في فلسطين اليوم ، حيث يحرص أصحاب المشروع الصهيوني فيها على تسويغه دينيا ب"وعد إلهي" يحاولون استثمار قول المسيح عليه السلام إنه جاء "ليتمم لا لينقض" لكي يفتعلوا قاسما مشتركا بين اليهودية وبين المسيحية يجند المسيحية الغربية إلى جانب مشروعهم ، كما حدث فعلا ، وقد نجحوا في خلق تيار "المسيحية الصهيونية" نتيجة لذلك ، ليحولوا غزوهم واحتلالهم إلى معركة مفتعلة بين الديانتين وبين الإسلام ، وهم في مسعاهم هذا يحاولون بكل الوسائل تصفية الوجود المسيحي في فلسطين بسبب المخاطر الاستراتيجية الكامنة في استمرار هذا الوجود على الدعم المسيحي الغربي لمشروعهم ، ويحاولون تصوير النضال الوطني الإسلامي المسيحي الفلسطيني ضد مشروعهم واحتلالهم باعتباره مجرد تطرف وإرهاب إسلاميين ، للتغطية على حقائق التاريخ التي قاوم فيها أهل فلسطين غزو الفرنجة واحتلالهم بالقوة نفسها التي قاوموا فيها المسلمين الأتراك عندما حولوا خلافة اسلامية إلى غطاء لاحتلال قومي . لكن "ربما يكون الأكثر أهمية" في خطاب أوباما هو أنه "وضع الدين في قلب عملية صنع السلام" كما كتب فيصل عبد الرؤوف في الواشنطن بوست في الخامس من الشهر الجاري .
ففي خطابه الذي لم يتمخض عن أي جديد هام سياسيا بالرغم من أهميته اللغوية تاريخيا بنى أوباما على هذه المغالطة التاريخية والسياسية ، بينما يعتمد أي حل عادل يقود إلى سلام دائم للصراع العربي الإسرائيلي على الافتراق عنها ، فخلاصة مقاربته لهذا الصراع تقوم على أساس انتزاع موافقة عربية وإسلامية على الاعتراف بشرعية حل "المسألة اليهودية" في الغرب على حساب العرب والمسلمين باعترافهم بشرعية "دولة يهودية" في دار العروبة والإسلام .
وبالرغم من النجاح النسبي لأوباما في الخطاب – البيان الذي توج به حملة علاقاته العامة الموجهة للرأي العام العربي والإسلامي في انتزاع رد فعل عربي ورسمي مرحب ومتفائل ب"لغة" هذه الحملة ، فإن بناء استراتيجيته على أساس أن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي "القضية السياسية المركزية" في المنطقة ، كما كتب المعلق الإسرائيلي باري روبين في "الصوت المعتدل" ، أو كما جاء في عنوان للأسوشيتدبرس بأن "نجاح إسلام أوباما يعتمد على إسرائيل" ، وتأكيده بأن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية راسخة وغير قابلة للتفاوض عليها من أجل الاسترضاء الأميركي للرأي العام العربي والإسلامي ، ثم تكرار تأكيده في مصر وفي المانيا بعد ذلك ب"اننا لا نستطيع فرض السلام" ، إن كل ذلك وغيره قد نسف التفاؤل الذي نجحت "لغته" في خلقه ، لأنه نسف الأساس العملي الذي يقوم عليه الإجماع العربي على "مبادرة السلام العربية" في الرهان على قدرة الولايات المتحدة تحديدا على "فرض" حل ينهي الصراع .
ولا يستطيع لا الموقف العربي الرسمي ولا الشعبي تفسير العجز الذي أعلنه أوباما عن "فرض" حل كهذا إلا بكونه عجزا سببه الأول والأخير أنه سيكون فرضا للقدرة الأميركية على الفعل في مواجهة إسرائيل ، وإلا المقارنة بين هذا العجز وبين الإصرار الأميركي حد الغزو فالاحتلال على"فرض" تغيير الأنظمة في العراق وفي أفغانستان من أجل تغيير الوضع فيهما وحولهما وادعاء واشنطن العجز عن تغيير الوضع في الأراضي العربية المحتلة الفلسطينية والسورية واللبنانية بالقوة المسلحة أو حتى بالتلويح بقوتها الاقتصادية والدبلوماسية .
لقد لخص رئيس تحرير صحيفة القدس العربي اللندنية عبد الباري عطوان القاسم المشترك في رد الفعل العربي بعامة والفلسطيني بخاصة على خطاب أوباما من القاهرة الخميس الماضي باقتباسه من المثل العربي الذي يقول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا" ، وهنا يكمن السبب الأول في التناقض بين الكلمة وبين الفعل في سياسة "اللاسياسة" التي أعلنها في خطابه ، الذي ربما لم يقرأ العرب والفلسطينيون فيه سوى إعلانه ب: "إننا لا نستطيع فرض السلام" ، ف"فرض" الولايات المتحدة للسلام بالرؤية التي تعلن إدارة أوباما التزامها بها مثل الإدارة السابقة والتي تحولت إلى رؤية عربية وفلسطينية رسمية تنتظر ممارسة واشنطن لامكانيات القوة العظمى التي تمكلها من أجل فرضها هو المصدر الوحيد للتفاؤل الرسمي العربي والفلسطيني الذي بدده أوباما يوم الخميس بالكلمات الخمس التي أعلن فيها عجزه عن فرضها .
وما لم يقله أوباما في خطابه يعزز الاستنتاج بأنه يواصل سياسة أميركية تقليدية لكن بأسلوب جديد يعزز فقط بيع أوهام السلام إلى العرب والمسلمين ويعزز الأوهام العربية في صدقية الرهان على الوسيط الأميركي الذي عجز طوال ستة عقود من الزمن عن إثبات صدقيته لهم ، مثل تجاهله لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية والقانون الدولي كمرجعية للسلم والأمن والاستقرار الدولي ولحل الصراع العربي الإسرائيلي بخاصة ، وحديثه عن المأساة الإنسانية في قطاع غزة وتجاهله للحصار الإسرائيلي الناجمة عنه ، وإعلان التزامه بحل الدولتين دون إي إشارة إلى المخاطر -- على مليون ونصف المليون فلسطيني في إسرائيل وعلى خمسة ملايين من إخوانهم اللاجئين في المنافي والمهاجر والشتات – الكامنة في مقولة "الدولة اليهودية" التي اضافتها حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة إلى الشروط الإسرائيلية المسبقة لصنع السلام ، وعدم إشارته إلى الأراضي العربية السورية المحتلة في الجولان بالرغم من أهميتها الحاسمة في صنع السلام الإقليمي ، إلخ.
وما قاله لا يقل أهمية عما لم يقله ، وخصوصا في إعادة تأكيده على سياسة سلفه كمدخل لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وفق رؤية حل الدولتين على أساس خريطة الطريق التي تعتمد الأمن الإسرائيلي قاعدة لها ، واجتثاث أي مقاومة للاحتلال حتى لو كان في شكل تعبئة وطنية لفظية ضده بحجة أنها "تحريض" ، وكان تكرار تأكيد أوباما في خطابه لما كان أكده أثناء اجتماع قمته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في البيت الأبيض أواخر الشهر الماضي عن ضرورة الالتزام بالشروط الإسرائيلية التي تحولت إلى "شروط اللجنة الرباعية الدولية" هو تأكيد على الاستمرار في تغذية الانقسام الفلسطيني الذي انفجر عنيفا أولا في قطاع غزة في منتصف عام 2007 بينما تهدد مأساة قلقيلية في شمال الضفة الغربية الأسبوع الماضي بانفجار مماثل هناك اليوم .
وعشية الزيارة التي قام بها أوباما للقاهرة حيث ألقى خطابه الذي أراده أن يكون تاريخا فاصلا في تغيير صورة بلاده من السواد إلى البياض بين العرب والمسلمين ، نشر معهد غالوب المعروف أحدث استطلاعاته للرأي في إحدى عشرة دولة عربية ليكشف بأن التأييد للسياسات الأميركية في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد انخفض من (13%) في عهد سلفه جورج دبليو. بوش إلى سبعة في المئة في عهده .
وهذه نتيجة ينبغي أن يتوقف عندها أوباما وكل مسؤول أميركي ، لأنها نتيجة عكسية غير متوقعة بعد أن كان سلفه بوش أول رئيس أميركي يتبنى رسميا "رؤية" لإقامة دولة فلسطينية ، وبعد أن أصبح أوباما نفسه أول رئيس أميركي يستخدم تعبير "المقاومة" بدل "الإرهاب" الذي كان سلفه يستخدمه لوصف المقاتلين الفلسطينيين من أجل الحرية والحق في تقرير المصير ، ولا بد لأوباما وإدارته من البحث عن الأسباب الحقيقية لهذا التناقض بين هذه "الأوائل" الأميركية وبين النتائج غير الإيجابية المعاكسة لها في الاستجابة الفلسطينية السلبية لها كما تظهر في استطلاعات الرأي العام الفلسطيني .
فتزامن خطابه مع انفجار الاقتتال الفلسطيني في قلقيلية الأسبوع الماضي الذي يهدد بالتحول إلى ما يشبه كرة الثلج إذا لم يتدارك أوباما وإدارته الأمر بسرعة لكبح جماح عوامل التصعيد في هذا الانفجار ، وهي عوامل في جوهرها وفي أدواتها وفي تمويلها وفي قيادتها وفي الدعم الدبلوماسي والسياسي لها بدأت وما زالت وسوف تستمر أميركية ، بالرغم من واجهتها الفلسطينية .
ففي خضم الاتهامات "الفلسطينية" المتبادلة عمن يتحمل المسؤولية عن استشهاد عشرة فلسطينيين خلال أقل من أسبوع في قلقيلية المطوقة بقوات الاحتلال والمحاصرة بجدار الضم والتوسع الذي بنته حولها ، يكاد المسؤول الأميركي الحقيقي يفلت من مسؤوليته عن سياسته التي خلقت البيئة الموضوعية للاقتتال ثم الانقسام الفلسطيني الراهن الذي إن لم تتغير السياسة الأميركية التي تغذيه فإنه يعد بتكرار مأساة قلقيلية في المدينة نفسها أو في غيرها من المدن الفلسطينية الأخرى المحاصرة تحت الاحتلال منذ عام 1967 . لكن أوباما بدلا من ذلك يضغط على الرئاسة الفلسطينية في الاتجاه المعاكس ، ليكرر في القاهرة وفي ألمانيا بأنها ما زالت لا تفعل "ما فيه الكفاية" !
وعندما تتحول مطاردة المقاومين الفلسطينيين بهدف اعتقالهم أو اغتيالهم إلى قاسم مشترك بين أي طرف فلسطيني وبين قوات الاحتلال ، بغض النظر عن النوايا والأهداف المعلنة ، بدل أن تكون حمايتهم ودعمهم قاسما وطنيا فلسطينيا مشتركا بين كل الاجتهادات الوطنية ، يكون هناك بالتأكيد خلل في معادلة الصراع بين القوة القائمة بالاحتلال وبين الشعب الخاضع للاحتلال ، وبالتأكيد أيضا لا يمكن إعفاء السياسة الأميركية القديمة – الجديدة من المسؤولية الأولى عن هذا الخلل ، وعن تفاقم الانقسام الفلسطيني ، وانسداد طريق الحوار الوطني للتغلب عليه ، وتفاقمه ليهدد باقتتال فلسطيني جديد .
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق