نقولا ناصر
عندما تمنح الجائزة الفرنسية الشهيرة "أجوردوي" لهذا العام لكتاب ألفه الأكاديمي الإسرائيلي شلومو ساند بعنوان "اختراع الشعب اليهودي" الذي يخلص فيه إلى أن صلة هذا الشعب الذي "اخترعته" الحركة الصهيونية حديثا بفلسطين هي علاقة "خيالية"، وعندما تحول حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي مقولة "الدولة اليهودية" التي ينقضها ساند من أجندة سرية للتطهير العرقي ضد عرب فلسطين إلى سياسة دولة رسمية معلنة تطلب اعترافا عالميا بها ثم تحول انتزاع اعتراف عربي وفلسطيني بها إلى شرط سياسي مسبق للتفاوض على اعترافها بدولة فلسطينية، عندما يحدث ذلك ويخلو خطاب فلسطيني أريد له أن يكون ردا على هذا الخطاب الإسرائيلي الخطير من أي رد على هذه المقولة – الشرط المسبق، مثل خطاب د. سلام فياض رئيس حكومة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في رام الله الذي ألقاه بجامعة القدس في أبو ديس يوم الاثنين الماضي، فإن الأمر لا ينبغي أن يمر مرور الكرام. ولأن الله وحده هو العالم بالنوايا، فإن افتراض حسن النية هو أفضل ما يمكن التعليق به على خطاب فياض، لكن الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة كما يقول مثل غربي.
ومن الواضح أن فياض أراد لخطابه أن يكون "تاريخيا"، بمستوى رد فلسطيني على خطابي الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة في الرابع من حزيران / يونيو ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في الرابع عشر من الشهر نفسه، ومثلما عرض الرجلان في خطابيهما استراتيجية حكومتيهما تجاه الصراع العربي والفلسطيني - الإسرائيلي، أراد فياض أن يعرض استراتيجية فلسطينية أيضا .
وهنا يفرض سؤالان نفسيهما وهما أولا: إذا كان المقصود فعلا من خطاب فياض أن يكون ردا وطنيا فلسطينيا على خطابي أوباما ونتنياهو، لماذا نأت الرئاسة الفلسطينية بنفسها عن تحمل مثل هذه المسؤولية بنقلها إلى المستوى المؤسساتي الأرفع، وثانيا: لماذا أوكلت الرئاسة هذه المهمة السياسية الاستراتيجية إلى حكومة طالما أصرت الرئاسة على الصفة "التنفيذية" غير السياسية لها عندما كانت رئاستها لحركة حماس المنتخبة سواء عندما انفردت الحركة برئاستها مباشرة بعد الانتخابات التشريعية عام 2006 أم عندما تحولت إلى حكومة وحدة وطنية برئاسة الحركة بعد اتفاق مكة المكرمة في العام التالي؟
وسؤال ثالث يفرض نفسه أيضا هو: هل حكومة فياض "التنفيذية" ورئيسها مؤهلان من الناحيتين التمثيلية والشرعية لصياغة استراتيجية وطنية بمستوى الرد على رؤية استراتيجية لدولة الاحتلال الإسرائيلي ولضامن أمنها الأميركي، حد المغامرة بتقديم "وعد" غير واقعي للشعب الفلسطيني بالحصول على دولته المأمولة "بحلول نهاية العام القادم، وكحد أقصى خلال عامين"، والإفراط في هذا الوهم حد البناء عليه باعتباره حقيقة واقعة لا محالة لعرض ما وصفته وكالة أنباء "وفا" بأنه "أجندة وطنية" لأن "هناك فرصة لإنجاز برنامج الدولة كعنوان مركزي للتحرك الفلسطيني"؟
إن المراقب لا يسعه إلا التساؤل عن المعلومات التي يملكها فياض ولا يملكها غيره وعن مصادر القوة المتوفرة له ولا تتوفر لسواه لكي يملك الجرأة على تحديد سقف زمني لوعده بأن تكون الدولة الفلسطينية "حقيقة قائمة وراسخة" خلا ل عامين، وهي جرأة نأى رئيس القوة الأميركية الأعظم في التاريخ أوباما بنفسه عنها عندما رفض الالتزام بجدول زمني وصفه ب"المصطنع" لإقامتها، ولكي يملك الجرأة على انتزاع صلاحيات مرجعيات مؤسساتية مثل منظمة التحرير ومؤسساتها وفصائلها، ناهيك عن مرجعيات الفصائل الوطنية غير الأعضاء فيها، ليرسم استراتيجية فلسطينية ويضع أجندة وطنية لتنفيذها بينما ما زالت الرئاسة الفلسطينية نفسها التي يستمد شرعية حكومته منها حريصة على التذكير ليل نهار بالتزامها بهذه المرجعيات لرد النقد الواسع لها بأنها منفردة بصنع القرار الوطني!
ولم تستطع إشارة فياض إلى أن حكومته هي "حكومة الرئيس"، ولا اقتراحه بدعوة المجلس المركزي لمنظمة التحرير إلى الانعقاد لمنح الشرعية لبرنامجه، ولا الحرص الذي أبداه على "التواصل" مع "مختلف فعاليات المجتمع ومؤسساته" كمرجعية هلامية عائمة تكون بديلا للمرجعيات المؤسسية المغيبة أو المهمشة، لم تستطع هذه وغيرها إخفاء حقيقة أن فياض كان يحاول إخفاء نقطة الضعف الأساسية لحكومته، وأن حكومته التي سعى إلى "التفاف" الشعب حول برنامجها باعتباره "أجندة وطنية" هي حكومة "مؤقتة" ، بدأت وسوف تنتهي دون أن تحظى لا بشرعية مؤسسات سلطة الحكم الذاتي ولا بشرعية منظمة التحرير كحكومة طوارئ مؤقتة استقالت وهي منتهية وأعيد تكليفها ثم أعيد تشكيلها ل"تسيير الأعمال" بولاية مؤقتة مرتهنة لنجاح حوار القاهرة في التوصل إلى وفاق وطني.
إن الجهة أو الجهات الوحيدة التي يمكن أن تتمتع بها أي حكومة كهذه بالمصداقية لديها هي فقط تلك التي تفرض على الرئاسة الفلسطينية الاختيار بين اعتماد حكومة فياض ك"شريك" في التفاوض يحظى بثقة المانحين وبين إعادة فرض الحصار الشامل على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ليمتد من قطاع غزة إلى الضفة الغربية.
وهذا ينتقل بنا من الشكل في خطاب فياض إلى مضمونه الذي قلب هرم البرنامج الوطني الفلسطيني المعلن على رأسه بدل قاعدته، فالدولة الفلسطينية التي "يعد" بها تسبق إنهاء الاحتلال وتقوم في ظله وبموافقته، ولا تنشأ كنتيجة طبيعية لإنهائه أولا، مما يضع العربة أمام الحصان فيشل حصان السيادة الفلسطينية عن الحركة تماما، وحكومة الأقلية غير المنتخبة و"المؤقتة" المشكلة في ظل حالة طوارئ تأخذ دور حكومة الأكثرية المنتخبة التي غيبتها حالة الطوارئ، والأقلية الهامشية في النضال الوطني تأخذ دور الأغلبية في الحكم ورسم الاستراتيجية الوطنية، وتستمد شرعيتها من الدعم الخارجي أكثر مما تستمدها من الإجماع الوطني، والحكومة "المؤقتة" التي تنتهج سياسة الاستمرار في تهميش وتجميد المرجعيات الوطنية الدائمة ثم تتذرع بحجة أنها معطلة تأخذ لنفسها دور هذه المرجعيات ثم تتوسل انتقائيا منح الشرعية لها منها باستدعاء بعض مؤسساتها "حسب الحاجة"، كما فعل فياض في اقتراحه دعوة المجلس المركزي للانعقاد، إلخ.
وبينما يقول أوباما ونتنياهو إن الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 "غير قابل للاستمرار"، ويحذر قادة عرب مثل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من أن استمراره ينذر بانفجار عنف له مضاعفات إقليمية، وتصف شخصيات سياسية عالمية مثل كيث إليسون، وهو أول مسلم عضو في مجلس النواب الأميركي، الأوضاع التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بأنها "لا تطاق" ولا يمكن العيش فيها، فإن فياض يعتبر هذا الوضع الراهن نفسه حاضنة "انجازات" لحكومته منذ عامين تؤسس ل"أجندة وطنية" يقترحها ل"الولوج في المراحل الأخيرة لإنجاز بنيان الدولة الفلسطينية" في ظل الاحتلال، مكابرا بالضد من كل الحقائق التي تطعن الكبرياء الوطنية والسيادة المأمولة في الصميم يوميا "بأن الواقع على الأرض هو واقع دولة كاملة بالرغم من الاحتلال".
وبينما يدعو رئيس السلطة والناطقون باسم الرئاسة ومفاوضوها، مثلهم مثل المعارضين لهم في الانقسام الفلسطيني، المجتمع الدولي إلى عزل رئيس وزراء دولة الاحتلال وحكومته يدعو فياض إلى "إنجاز عملية التفاوض" مع دولة الاحتلال، ويسعى "لمد الجسور" معها، "بما يؤسس لعلاقات طبيعية" و "التعايش المشترك" معها، ليعلن بأن "أيدينا ممدودة لصنع السلام الحقيقي"، دون أن يتطرق ولو بإشارة إلى رفض الشروط الإضافية والرؤية الجديدة التي عرضها نتنياهو في خطابه بديلا للاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير، باستثناء الإشارة إلى خلو هذا الخطاب من أي إشارة إلى "خريطة الطريق" التي ما زالت حكومة فياض والرئاسة والمفاوض الفلسطيني يعتمدونها أساسا لاستئناف عملية التفاوض.
إن فياض وهو يكرر الإشارة في خطابه إلى "برنامج بناء مؤسسات الدولة ... كعنوان مركزي للتحرك الفلسطيني" الذي وضع أجندته بعيدا عن كل المؤسسات الفلسطينية، وتأكيده على الأهمية السياسية لإنهاء الانقسام الفلسطيني في إنجاح هذه الأجندة وعلى "دولة الأمن والأمان والقانون" التي يطمح إليها، قد فاته الترحيب بالإفراج عن رئيس المجلس التشريعي المنتخب للسلطة د. عزيز الدويك من سجون الاحتلال في اليوم التالي لخطابه وفاته المطالبة بضرورة تحرير بقية أعضاء المجلس المختطفين في سجون الاحتلال بالرغم مما لأي إشارة كهذه من أهمية في منح مصداقية للبنود الخاصة بالمؤسسات والانقسام وسيادة القانون في أجندته المقترحة، بينما بدا الدويك نفسه أكثر حرصا على المؤسسات والقانون عندما رفض الإدلاء بتصريحات في طولكرم فور إطلاق سراحه قائلا إنه كان سيدلي ببيان من مقر المجلس التشريعي في رام الله نفسها، قبل أن يعرف بأن حكومة فياض ستغلق أبواب المجلس التشريعي في وجهه.
لكن فياض لم يفته الإشارة إلى أن "مشروع الاستيطان الإسرائيلي قد استفاد من حالة الانقسام الفلسطيني خلال العامين الماضيين" دون أن يوضح "كيف"، متجاهلا بأن منح الأولوية في برنامج حكومته المؤقتة لاجتثاث الطرف الآخر في الانقسام الوطني اعتمادا على إمكانيات خارجية قد هدر أي طاقات تمتلكها حكومته بعيدا عن التصدي للاستيطان ومشاريعه بمقاومة سياسية أو غير سياسية.
ولا تنتهي هنا سلسلة التناقضات في خطاب فياض، فالحرص الذي أبداه على ما سماه "الاصطفاف الدولي" وراء حكومته وبرنامجها لم يكن ثمرة "انجازات" هذه الحكومة، لا بل إن العكس هو الصحيح، فهذه الحكومة "الاستثنائية" ما كان لها أن تقوم وتستمر كحالة استثنائية إلا كثمرة للاصطفاف الدولي الذي تبنى شروط دولة الاحتلال كشروط مسبقة للجنة الرباعية الدولية للاعتراف بأي حكومة فلسطينية تتبناها وتفرضها.
وفي هذا السياق ربما كانت إشارة فياض إلى رفض "الازدواجية الأمنية" هي الإشارة الأوضح للتناقض في خطابه بين نواياه في أن تكون السلطة "هي وحدها صاحبة الولاية في المجال الأمني" وبين واقع ازدواجية الولاية الأمنية مع قوات الاحتلال في إطار التنسيق الأمني بين الجانبين، لا بل وثلاثية الولاية الأمنية في ضوء الإشراف الأميركي على أجهزته الأمنية وعلى مراقبة التزام الجانبين بالتنسيق الأمني. وبافتراض حسن النية، فإن نوايا فياض الحسنة ما زالت هي التي تعبد الطريق الذي لا نهاية له في الأفق إلى جهنم الوضع الفلسطيني الراهن.
الجمعة، يونيو 26، 2009
قلب الهرم الفلسطيني على رأسه
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق