نقولا ناصر
(التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قائم فعلا على قدم وساق، وتضغط الإدارة الأميركية على العرب من أجل المزيد منه فقط)
يكاد الجدل الإعلامي الدائر حول دعوة المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل إلى التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يتحول إلى حملة تضليل منظمة للتغطية على حقيقة أن هذا التطبيع قائم بالفعل على قدم وساق وأن ميتشل إنما يدعو فقط إلى المزيد منه عموديا وأفقيا على اتساع الوطن العربي والعالم الإسلامي.
وإلا وجب على اللغويين إعطاء اسم آخر غير التطبيع للعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الكاملة القائمة بين هذه الدولة وبين ثلاث دول عربية هي مصر والأردن وموريتانيا، إضافة إلى مكاتب الاتصال والممثليات التجارية الممتدة من تونس غربا إلى قطر شرقا، ورحلات الطيران المباشرة المصرية والأردنية إلى مطار اللد (بن غوريون)، وحجم المبادلات التجارية المتنامية التي وضعت العراق في المرتبة الأولى التي تستورد صادرات إسرائيلية بنسبة 46% من إجمالي هذه الصادرات إلى الدول العربية يليه الأردن، وإمدادات النفط المصري التي تحرك آليات الآلة العسكرية الإسرائيلية حتى أثناء حروبها العدوانية على الأشقاء العرب، وإمدادات الغاز المصري أيضا التي تغذي رفاهية الإسرائيلي بينما لا تصل إلى الشقيق العربي المحاصر في قطاع غزة إلا عبر قطارة إسرائيلية، إلخ.، ناهيك عن التطبيع الفلسطيني الذي يتميز عن نظيره العربي ببعده الشعبي والسياسي الواسعين، وفي هذه الأثناء يستمر التطبيع العربي – العربي قاصرا عن رفع حجم التجارة العربية البينية فوق ما نسبته عشرة في المئة كحد أقصى من إجمالي التجارة الخارجية العربية حسب بيانات مجلس الوحدة الاقتصادية العربية!
ومهمة ميتشل ودعوته هما الآن رأس حربة لحراك دبلوماسي أميركي مكثف يتخذ من الخطاب الذي وجهه الرئيس باراك أوباما إلى العالم الإسلامي والعربي من القاهرة في الرابع من شهر حزيران / يونيو الماضي مرجعية له، وقد أتبع أوباما خطابه برسائل إلى قادة سبع دول عربية حثهم فيها على بناء جسور الثقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وجددت وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون أمس الأول حثها الدول العربية على تهيئة شعوبها للتطبيع مع إسرائيل وهي ما زالت تحتل أراضي ثلاثة أعضاء في جامعة الدول العربية، بحجة أن التطبيع هو الطريق الوحيد لإنهاء هذا الاحتلال.
ثم قام ميتشل خلال الشهر الحالي بجولته الثالثة في المنطقة خلال ستة أشهر والتي اتضح خلالها أنه نقل محور التركيز في مهمته من الدعوة إلى وقف الاستيطان الاستعماري اليهودي في الضفة الغربية إلى دعوة العرب للتطبيع، ليعلن دون مواربة من فوق المنابر الجمهورية والملكية في العواصم التي زارها: "إننا نجتمع مع قادة كثير من الدول العربية في المنطقة لتشجيعهم على اتخاذ خطوات حقيقية نحو التطبيع"، قبل أن يضيف مستدركا: "ونحن لا نطلب من أحد إنجاز تطبيع كامل في هذا الوقت"، ولا يعزو المراقبون استدراكه إلى تردد في الموقف العربي الرسمي بقدر ما هو استدراك متوقع من دبلوماسي عريق مثله يأخذ في حسبانه تجنيب القادة العرب أي حرج مع جماهيرهم الرافضة للتطبيع كاملا كان أم تدريجيا، فوريا أم مؤجلا.
وفي هذه الأثناء كان عضوان في مجلس الشيوخ بالكونغرس الأميركي هما الديمقراطي "إيفان لتيه" والجمهوري "جيمس ريش" يجمعان توقيعات زملائهم لمطالبة أوباما بالضغط على العرب لتقديم مبادرات تقارب مع إسرائيل، مثل إنهاء مقاطعة الجامعة العربية والالتقاء العلني بمسؤولين إسرائيليين وإنشاء علاقات تجارية مفتوحة وفتح الأجواء العربية أمام رحلات الطيران المدني الإسرائيلي وإصدار تأشيرات دخول للإسرائيليين ودعوة إسرائيليين للمشاركة في المؤتمرات الأكاديمية والمهنية والأحداث الرياضية، إلخ.، بينما بادر عضوان ديموقراطيان في مجلس النواب هما "براد شيرمان" و"إد رويس" إلى جمع تواقيع زملائهم النواب على رسالة، تدعمها جماعة الضغط الصهيونية المعروفة "إيباك"، موجهة إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تحث حكومته على التطبيع تجاوبا مع خطاب أوباما بالقاهرة.
وقد رفعت الرياض مستوى رفضها لدعوة ميتشل من المتحدث بلسان وزارة خارجيتها أسامة نوقلي يوم الأربعاء الماضي إلى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الذي أعطى لهذا الرفض وزنا أكبر عندما أعلنه من واشنطن نفسها بينما كانت نظيرته الأميركية كلينتون إلى جانبه في مؤتمر صحفي مشترك السبت الماضي، وأعطاه وضوحا أكبر عندما بدد الانطباع الذي تركه المجلس الوزاري الأخير لجامعة الدول العربية بحدوث تراجع عن مبادرة السلام العربية، برفضه سياسة الخطوة خطوة وتأكيده على أن التطبيع لاحق ل"لسلام الشامل"لا سابق له. لكن إذا كان رفض المملكة العربية السعودية، وقبله رفض الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى يوم الاثنين الماضي، للدعوة الأميركية مبعث راحة مؤقتة للرأي العام العربي المقاوم للتطبيع باعتباره مؤشرا إلى أن قطار التطبيع العربي الرسمي لم يفقد كوابحه جميعها بعد، فإن أي راحة متسرعة كهذه سرعان ما تتبدد عند التدقيق في الموقف العربي - الفلسطيني الرسمي، الذي يربط بين التطبيع وبين وقف الاستيطان، وهذا موقف قاصر بالتأكيد إذا ما قورن مثلا بموقف فرنسا التي أعلن المتحدث باسم وزارة خارجيتها، فريدريك ديزانيو، يوم الأربعاء الماضي أن بلاده تحث دولة الاحتلال على تجميد الاستيطان ولا تربط هذا التجميد بتطبيع العلاقات بينها وبين العرب!
وكان المجلس الوزاري للجامعة العربية في اجتماعه الأخير بالقاهرة قد أعلن بأن "الدول العربية ستدرس الإجراءات التي يمكن أن تقوم بها من أجل التجاوب مع الخطوات الإيجابية التي قد تتخذها إسرائيل، وأن التجاوب يجب أن يكون متدرجاً وأن تعمل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على حمل إسرائيل على اتخاذ إجراءات إيجابية قبل أي تطبيع عربي”، حيث أكد المجلس بذلك أولا القبول العربي الجماعي بالتطبيع من حيث المبدأ، وأكد ثانيا مبدأ مبادلة التطبيع بوقف الاستيطان، وأكد ثالثا مبدأ التدرج في هذه المبادلة، مما جعل ميتشل يعتقد أن الطريق العربي كان ممهدا أمامه، فهذه هي تحديدا المبادئ الثلاث التي استند ميتشل إليها في دعوته، ليتجاهل هو والمجلس الوزاري العربي معا ليس فقط مبادرة السلام العربية التي اشترطت مبادلة التطبيع بإقامة دولة فلسطينية والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في الجولان السوري والجنوب اللبناني، واشترطت كذلك أن يكون التطبيع لاحقا لا سابقا لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي -- مما يمثل انقلابا عربيا على المبادرة -- بل ليتجاهل ميتشل والمجلس أيضا ما كررت مؤخرا الرئاسة الفلسطينية التأكيد عليه – وهي المعنية المباشرة بنجاح مهمة ميتشل كمقدمة لا بد منها لاستئناف مفاوضاتها العبثية مع دولة الاحتلال – بأن كل مشروع الاستيطان اليهودي هو أولا غير شرعي طبقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وبأن وقفه هو ثانيا التزام واستحقاق إسرائيلي بموجب الاتفاقيات الموقعة ومرجعيات "عملية السلام" بدءا من خريطة الطريق وانتهاء بتفاهمات أنابوليس، وبأن وقفه هو ثالثا ليس موضوع مبادلة وتفاوض بل شرط مسبق لاستئناف عملية التفاوض، وموقف المفاوض الفلسطيني هذا إذا ما أصرت الرئاسة الفلسطينية عليه سيجعل أي تجاوب عربي مع دعوة ميتشل تجاوبا على حساب الموقف الفلسطيني "الرسمي"، المعلن في الأقل.
ومن الواضح أن الحراك الدبلوماسي الأميركي يستهدف الأردن ومصر وموريتانيا وفلسطين التي لها علاقات "طبيعية" قائمة بالفعل مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحكم معاهدات السلام وتبادل الاعتراف الدبلوماسي واتفاقيات السلام النافذة بين الجانبين، من أجل حثها على تحويل التطبيع الرسمي إلى تطبيع شعبي، لكن لا ينبغي أن يغطي الرفض العربي الحالي لهذا الحراك الأميركي على حقيقة أن هذه الأطراف العربية المتعاهدة أو المتفقة على الصلح مع دولة الاحتلال ملزمة بنصوص معاهداتها واتفاقياتها ليس فقط بالتطبيع معها بل أيضا بحث أشقائها العرب على هذا التطبيع وملزمة كذلك بوقف التحريض ضدها وباجتثاث أي ثقافة تتناقض مع هذا الالتزام، ولا ينبغي أيضا الانخداع بأخبار المثقفين العرب واتحاداتهم المقاومة لهذا التطبيع والتي يسمح لها بذكاء بأن تحتل عناوين الأخبار بين وقت وآخر حيث تستخدم كساتر دخاني للتغطية على الحجم الحقيقي لحملة اجتثاث مثل هذه الثقافة المعارضة.
فعلى سبيل المثال، ما زالت مقاومة التطبيع هي موقف كل الكتاب العرب وتنظيماتهم الثقافية ومنهم اتحاد كتاب فلسطين، ومثلهم الصحفيون العرب وغيرهم من النخب الأكاديمية والمهنية، وقد أكد اتحاد كتاب مصر يوم الخميس الماضي استمرار التزامه بمعارضة التطبيع وتعهد "بفصل أي عضو من أعضاء الاتحاد يتعامل مع العدو الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال"، بينما جدد المثقفون المصريون مطالبتهم الأزهر الشريف بتحديد موقفه من قضية التطبيع، غير أن التغطية الإعلامية التي حظي بها هذا الخبر يحسده عليها خبر أكثر أهمية نشرته صحيفة "المصريون" في السابع والعشرين من الشهر الماضي عن سؤال برلماني عاجل وجهه النائب المصري على لبن إلى رئيس الوزراء أحمد نظيف ووزيري التربية والتعليم يسري الجمل والتعليم العالي هاني هلال، أشار النائب فيه إلى حذف عشرات الموضوعات من كتب التربية الوطنية والقومية والإسلامية في مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي حول اتفاقية الدفاع العربي المشترك والتكافل بين الأقطار العربية ودور الاستعمار في تجزئة الوطن العربي ومحو اسم فلسطين من الخرائط في الكتب التعليمية المقررة وحذف واختزال الرموز الوطنية ومنهم صلاح الدين الأيوبي، وإلغاء تدريس كتب التاريخ الإسلامي من مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، وتخفيض عدد صفحات تاريخ الدولة الإسلامية من 207 صفحة إلى 35 صفحة، وتخصيص ستة أسطر للخليفة عمر بن الخطاب مقابل 34 صفحة لنابليون بونابرت، بينما تم تخفيض صفحات السيرة النبوية من 472 صفحة إلى 105 صفحات فضلا عن حذف واختزال معظم غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبخاصة ضد اليهود، وإلغاء الآيات التي تستوجب تطبيق الشريعة الإسلامية وإلغاء الأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد، وذلك بعد الموافقة المصرية على إنشاء مركز أميركي لتطوير المناهج، تحت شعار الحاجة للمعونة الأميركية التي تمثل 3% من حجم ميزانية التعليم، كما قال النائب، لافتا النظر إلى أن المركز يضم 166 خبيرا أميركيا يمثلون أكبر بعثة أميركية من نوعها في الخارج، مقارنة ببعثة أميركية مماثلة في إسرائيل لا يزيد عدد أفرادها على ثلاث خبراء فقط.
وفي هذه العجالة لا يتسع المجال للاستفاضة في استعراض البعد الاقتصادي الأوسع للتطبيع القائم فعلا، لكن بعض المؤشرات لا بد منها. فقد تحولت المعونات الأجنبية المشروطة سياسيا وبخاصة الأميركية والأوروبية، إلى قناة تمويل أساسية للتطبيع الاقتصادي، وما سلسلة المشاريع العربية – الإسرائيلية المشتركة في المناطق المعروفة باسم "كويز" في الأردن ومصر وفلسطين إلا عنوان أوضح لسياسة المعونات هذه. أما مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل في العاصمة السورية، أحد الأسلحة العربية الرئيسية لمقاومة التطبيع، فإنه لم يعد يجتمع إلا نادرا، وسبق لمحمد صبيح الأمين العام المساعد للجامعة العربية التي يتبع المكتب لها أن طالب بربطه بمبادرة السلام العربية، ليتحول إلى سلاح صدئ تحاصره الآن سياسة التحرير الاقتصادي السورية التي أفرزت مشاريع كان المكتب يقاطعها سابقا مثل فندق "فور سيزنز" ومطاعم كنتاكي، بينما العربية السعودية، المستهدف الأساسي حاليا بالدعوة الأميركية للتطبيع، تجد نفسها الآن محاصرة بين عضويتها في منظمة التجارة العالمية التي تحظر عليها مقاطعة إسرائيل وبين رفضها للتطبيع السياسي والاقتصادي معها. إن موجة التطبيع الجارفة تدفع دولا عربية اليوم إلى التخطيط لربط مشاريعها المستقبلية الحيوية بإسرائيل، فعلى سبيل المثال قال سامي الفراج كبير مخططي مشروع "مدينة الحرير" التي ستبنيها الكويت خلال ربع قرن من الزمن على مساحة 250 كيلومترا بكلفة تزيد على مئة مليار دولار أميركي إن من أهداف المشروع "الربط مع إسرائيل" واصفا أي نقد لذلك بأنه نقد "عفا عليه الزمن" (خليج تايمز في 22/7/2008). وفلسطينيا فإن وجود (12) ألف تاجر ورجل أعمال فلسطيني من الحاملين لتصاريح دخول إسرائيلية خاصة، وبلوغ قيمة التجارة الإسرائيلية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة خمسة عشر مليار شيقل خلال عام 2008 ، بينما تتراوح قيمة التبادل التجاري السنوي الثنائي بين (2 – 2.5) مليار دولار أميركي، كانت هي وغيرها من الأسباب كافية لتأسيس "غرفة التجارة والصناعة الإسرائيلية الفلسطينية" في 18/5/2009. وحسب تقارير معهد الصادرات الإسرائيلي فإن حجم التبادل التجاري مع كل من مصر والأردن يزيد على (300) مليون دولار لكل منهما سنويا، وقد عملت (321) شركة إسرائيلية في مصر العام الماضي وتعاملت معها حوالي (300) شركة مصرية، بينما صدرت (1800) شركة إسرائيلية منتجاتها إلى الأردن، الذي أصبح كثير من العرب يحسدون الإسرائيليين لأنهم يدخلونه الآن دون تأشيرة بحجة "التواصل مع أهلنا" في إسرائيل كما قالت وزيرة السياحة والآثار الأردنية مها الخطيب.
لكن الحراك الأميركي الذي يقوده ميتشل يستهدف في المقام الأول دول الخليج العربية الست، وبخاصة المملكة العربية السعودية، لأن "القيادة السعودية محورية في الوصول إلى سلام شامل" كما قالت كلينتون يوم السبت الماضي، في تجاهل يفتقد أي لباقة دبلوماسية لحقيقة أن الرياض تحديدا هي حاضنة مبادرة السلام العربية التي أجمع العرب بموجبها على مبادلة التطبيع بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفي تجاهل لحقيقة أن دولة الاحتلال وراعيها الأميركي لم "يكافئا" العرب على مبادرتهم التاريخية حتى الآن بغير زيادة الضغوط عليهم لانتزاع المزيد من التنازلات، مثل التطبيع المسبق الذي يدعو ميتشل إليه الآن، لإفراغ هذه المبادرة من مضمونها، وفي تجاهل كذلك لحجم التطبيع الجاري فعلا بين الدول الست وبين دولة الاحتلال، والذي يمكن الإطلال عليه من مقال نشره سلطان سعود القاسمي، الأستاذ غير المقيم بكلية دبي للإدارة الحكومية، في "الديلي ستار" اللبنانية في الثامن والعشرين من تموز / يوليو الماضي. كتب القاسمي: "إن السر المكشوف هو أن بلدان الخليج الست جميعها تقيم اتصالات مع إسرائيل، وبعضها له مصالح اقتصادية علنية معها. وقام مسؤولون رفيعو المستوى مثل الرئيس الإسرائيلي الحالي (شمعون بيريس) بزيارة سلطنة عمان وقطر في مناسبات مختلفة .. كما كان وزير الخارجية البحريني قد اقترح العام الماضي إنشاء منظمة إقليمية تضم إسرائيل وإيران .. وقبل ذلك زار محافظ بنك إسرائيل المركزي الإمارات العربية المتحدة عام 2003 .. وحتى الكويت المحافظة شهدت مؤخرا دعوة من مرشح للبرلمان الكويتي لإقامة علاقات مع إسرائيل". وفي مقال له نشرته الواشنطن بوست مؤخرا دعا ولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة إلى التواصل الإعلامي مع "الشعب الإسرائيلي لتعريفهم بفوائد السلام الحقيقي". وقد خلص القاسمي في مقاله إلى أنه سيكون: "من السذاجة التفكير بأن وجود علاقات مع إسرائيل سيخلق ببساطة أي فارق في عملية السلام، لا بل إن البعض يقول إن مكافأة الحكومة الإسرائيلية المتشددة الحالية ستكون له نتائج عكسية، .. لكن سيكون من السذاجة بالقدر نفسه التفكير بأن مثل هذه العلاقات ليست موجودة حقا، مهما بلغت قوة نفي الدول الخليجية لوجودها".
ومن مفارقات التطبيع الدبلوماسي العربي الذي يستهدف إثبات حسن النية العربية في السلام والتعايش السلمي اعتماد مصر عام 2005 لسفير إسرائيلي من أصل تونسي هو شالوم كوهين، وتعيين البحرين لعضوة مجلس الشورى عراقية الأصل هدى عزرا نونو -- الممثلة لأقلية يهودية قالت إن عددها اليوم ستة وثلاثون نسمة -- سفيرة لها في واشنطن، لتدخل التاريخ المعاصر كأول عربية يهودية تمثل دولتها، والتي يغضبها إشارة الإعلام الأميركي إلى ديانتها، بينما ما زالت دولة الاحتلال الإسرائيلي تنكر على أقلية عربية من أصحاب البلد الشرعيين تمثل أكثر من خمس سكانها حقهم في التمثيل الدبلوماسي وحقهم في الاعتراف بهم كأقلية قومية أو كأقلية دينية أو كمواطنين متساوين في الحقوق مع مواطنيها اليهود، فدولة الاحتلال ما زالت ترفض مبدأ التبادلية حتى في التطبيع.
إن التطبيع العربي قائم فعلا ويتسع يوميا، ويضغط ميتشل وإدارته على العرب من أجل المزيد منه فقط، لابتزاز المزيد من التنازلات العربية المجانية، تماما مثلما لم تعد دولة الاحتلال الإسرائيلي تكتفي باعتراف منظمة التحرير بها بل تسعى الآن إلى انتزاع المزيد من تنازلاتها لتعترف ب”يهودية" هذه الدولة، ليصدق قوله تعالى: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (صدق الله العظيم).
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
(التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قائم فعلا على قدم وساق، وتضغط الإدارة الأميركية على العرب من أجل المزيد منه فقط)
يكاد الجدل الإعلامي الدائر حول دعوة المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل إلى التطبيع العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يتحول إلى حملة تضليل منظمة للتغطية على حقيقة أن هذا التطبيع قائم بالفعل على قدم وساق وأن ميتشل إنما يدعو فقط إلى المزيد منه عموديا وأفقيا على اتساع الوطن العربي والعالم الإسلامي.
وإلا وجب على اللغويين إعطاء اسم آخر غير التطبيع للعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الكاملة القائمة بين هذه الدولة وبين ثلاث دول عربية هي مصر والأردن وموريتانيا، إضافة إلى مكاتب الاتصال والممثليات التجارية الممتدة من تونس غربا إلى قطر شرقا، ورحلات الطيران المباشرة المصرية والأردنية إلى مطار اللد (بن غوريون)، وحجم المبادلات التجارية المتنامية التي وضعت العراق في المرتبة الأولى التي تستورد صادرات إسرائيلية بنسبة 46% من إجمالي هذه الصادرات إلى الدول العربية يليه الأردن، وإمدادات النفط المصري التي تحرك آليات الآلة العسكرية الإسرائيلية حتى أثناء حروبها العدوانية على الأشقاء العرب، وإمدادات الغاز المصري أيضا التي تغذي رفاهية الإسرائيلي بينما لا تصل إلى الشقيق العربي المحاصر في قطاع غزة إلا عبر قطارة إسرائيلية، إلخ.، ناهيك عن التطبيع الفلسطيني الذي يتميز عن نظيره العربي ببعده الشعبي والسياسي الواسعين، وفي هذه الأثناء يستمر التطبيع العربي – العربي قاصرا عن رفع حجم التجارة العربية البينية فوق ما نسبته عشرة في المئة كحد أقصى من إجمالي التجارة الخارجية العربية حسب بيانات مجلس الوحدة الاقتصادية العربية!
ومهمة ميتشل ودعوته هما الآن رأس حربة لحراك دبلوماسي أميركي مكثف يتخذ من الخطاب الذي وجهه الرئيس باراك أوباما إلى العالم الإسلامي والعربي من القاهرة في الرابع من شهر حزيران / يونيو الماضي مرجعية له، وقد أتبع أوباما خطابه برسائل إلى قادة سبع دول عربية حثهم فيها على بناء جسور الثقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وجددت وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون أمس الأول حثها الدول العربية على تهيئة شعوبها للتطبيع مع إسرائيل وهي ما زالت تحتل أراضي ثلاثة أعضاء في جامعة الدول العربية، بحجة أن التطبيع هو الطريق الوحيد لإنهاء هذا الاحتلال.
ثم قام ميتشل خلال الشهر الحالي بجولته الثالثة في المنطقة خلال ستة أشهر والتي اتضح خلالها أنه نقل محور التركيز في مهمته من الدعوة إلى وقف الاستيطان الاستعماري اليهودي في الضفة الغربية إلى دعوة العرب للتطبيع، ليعلن دون مواربة من فوق المنابر الجمهورية والملكية في العواصم التي زارها: "إننا نجتمع مع قادة كثير من الدول العربية في المنطقة لتشجيعهم على اتخاذ خطوات حقيقية نحو التطبيع"، قبل أن يضيف مستدركا: "ونحن لا نطلب من أحد إنجاز تطبيع كامل في هذا الوقت"، ولا يعزو المراقبون استدراكه إلى تردد في الموقف العربي الرسمي بقدر ما هو استدراك متوقع من دبلوماسي عريق مثله يأخذ في حسبانه تجنيب القادة العرب أي حرج مع جماهيرهم الرافضة للتطبيع كاملا كان أم تدريجيا، فوريا أم مؤجلا.
وفي هذه الأثناء كان عضوان في مجلس الشيوخ بالكونغرس الأميركي هما الديمقراطي "إيفان لتيه" والجمهوري "جيمس ريش" يجمعان توقيعات زملائهم لمطالبة أوباما بالضغط على العرب لتقديم مبادرات تقارب مع إسرائيل، مثل إنهاء مقاطعة الجامعة العربية والالتقاء العلني بمسؤولين إسرائيليين وإنشاء علاقات تجارية مفتوحة وفتح الأجواء العربية أمام رحلات الطيران المدني الإسرائيلي وإصدار تأشيرات دخول للإسرائيليين ودعوة إسرائيليين للمشاركة في المؤتمرات الأكاديمية والمهنية والأحداث الرياضية، إلخ.، بينما بادر عضوان ديموقراطيان في مجلس النواب هما "براد شيرمان" و"إد رويس" إلى جمع تواقيع زملائهم النواب على رسالة، تدعمها جماعة الضغط الصهيونية المعروفة "إيباك"، موجهة إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تحث حكومته على التطبيع تجاوبا مع خطاب أوباما بالقاهرة.
وقد رفعت الرياض مستوى رفضها لدعوة ميتشل من المتحدث بلسان وزارة خارجيتها أسامة نوقلي يوم الأربعاء الماضي إلى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الذي أعطى لهذا الرفض وزنا أكبر عندما أعلنه من واشنطن نفسها بينما كانت نظيرته الأميركية كلينتون إلى جانبه في مؤتمر صحفي مشترك السبت الماضي، وأعطاه وضوحا أكبر عندما بدد الانطباع الذي تركه المجلس الوزاري الأخير لجامعة الدول العربية بحدوث تراجع عن مبادرة السلام العربية، برفضه سياسة الخطوة خطوة وتأكيده على أن التطبيع لاحق ل"لسلام الشامل"لا سابق له. لكن إذا كان رفض المملكة العربية السعودية، وقبله رفض الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى يوم الاثنين الماضي، للدعوة الأميركية مبعث راحة مؤقتة للرأي العام العربي المقاوم للتطبيع باعتباره مؤشرا إلى أن قطار التطبيع العربي الرسمي لم يفقد كوابحه جميعها بعد، فإن أي راحة متسرعة كهذه سرعان ما تتبدد عند التدقيق في الموقف العربي - الفلسطيني الرسمي، الذي يربط بين التطبيع وبين وقف الاستيطان، وهذا موقف قاصر بالتأكيد إذا ما قورن مثلا بموقف فرنسا التي أعلن المتحدث باسم وزارة خارجيتها، فريدريك ديزانيو، يوم الأربعاء الماضي أن بلاده تحث دولة الاحتلال على تجميد الاستيطان ولا تربط هذا التجميد بتطبيع العلاقات بينها وبين العرب!
وكان المجلس الوزاري للجامعة العربية في اجتماعه الأخير بالقاهرة قد أعلن بأن "الدول العربية ستدرس الإجراءات التي يمكن أن تقوم بها من أجل التجاوب مع الخطوات الإيجابية التي قد تتخذها إسرائيل، وأن التجاوب يجب أن يكون متدرجاً وأن تعمل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على حمل إسرائيل على اتخاذ إجراءات إيجابية قبل أي تطبيع عربي”، حيث أكد المجلس بذلك أولا القبول العربي الجماعي بالتطبيع من حيث المبدأ، وأكد ثانيا مبدأ مبادلة التطبيع بوقف الاستيطان، وأكد ثالثا مبدأ التدرج في هذه المبادلة، مما جعل ميتشل يعتقد أن الطريق العربي كان ممهدا أمامه، فهذه هي تحديدا المبادئ الثلاث التي استند ميتشل إليها في دعوته، ليتجاهل هو والمجلس الوزاري العربي معا ليس فقط مبادرة السلام العربية التي اشترطت مبادلة التطبيع بإقامة دولة فلسطينية والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في الجولان السوري والجنوب اللبناني، واشترطت كذلك أن يكون التطبيع لاحقا لا سابقا لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي -- مما يمثل انقلابا عربيا على المبادرة -- بل ليتجاهل ميتشل والمجلس أيضا ما كررت مؤخرا الرئاسة الفلسطينية التأكيد عليه – وهي المعنية المباشرة بنجاح مهمة ميتشل كمقدمة لا بد منها لاستئناف مفاوضاتها العبثية مع دولة الاحتلال – بأن كل مشروع الاستيطان اليهودي هو أولا غير شرعي طبقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وبأن وقفه هو ثانيا التزام واستحقاق إسرائيلي بموجب الاتفاقيات الموقعة ومرجعيات "عملية السلام" بدءا من خريطة الطريق وانتهاء بتفاهمات أنابوليس، وبأن وقفه هو ثالثا ليس موضوع مبادلة وتفاوض بل شرط مسبق لاستئناف عملية التفاوض، وموقف المفاوض الفلسطيني هذا إذا ما أصرت الرئاسة الفلسطينية عليه سيجعل أي تجاوب عربي مع دعوة ميتشل تجاوبا على حساب الموقف الفلسطيني "الرسمي"، المعلن في الأقل.
ومن الواضح أن الحراك الدبلوماسي الأميركي يستهدف الأردن ومصر وموريتانيا وفلسطين التي لها علاقات "طبيعية" قائمة بالفعل مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحكم معاهدات السلام وتبادل الاعتراف الدبلوماسي واتفاقيات السلام النافذة بين الجانبين، من أجل حثها على تحويل التطبيع الرسمي إلى تطبيع شعبي، لكن لا ينبغي أن يغطي الرفض العربي الحالي لهذا الحراك الأميركي على حقيقة أن هذه الأطراف العربية المتعاهدة أو المتفقة على الصلح مع دولة الاحتلال ملزمة بنصوص معاهداتها واتفاقياتها ليس فقط بالتطبيع معها بل أيضا بحث أشقائها العرب على هذا التطبيع وملزمة كذلك بوقف التحريض ضدها وباجتثاث أي ثقافة تتناقض مع هذا الالتزام، ولا ينبغي أيضا الانخداع بأخبار المثقفين العرب واتحاداتهم المقاومة لهذا التطبيع والتي يسمح لها بذكاء بأن تحتل عناوين الأخبار بين وقت وآخر حيث تستخدم كساتر دخاني للتغطية على الحجم الحقيقي لحملة اجتثاث مثل هذه الثقافة المعارضة.
فعلى سبيل المثال، ما زالت مقاومة التطبيع هي موقف كل الكتاب العرب وتنظيماتهم الثقافية ومنهم اتحاد كتاب فلسطين، ومثلهم الصحفيون العرب وغيرهم من النخب الأكاديمية والمهنية، وقد أكد اتحاد كتاب مصر يوم الخميس الماضي استمرار التزامه بمعارضة التطبيع وتعهد "بفصل أي عضو من أعضاء الاتحاد يتعامل مع العدو الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال"، بينما جدد المثقفون المصريون مطالبتهم الأزهر الشريف بتحديد موقفه من قضية التطبيع، غير أن التغطية الإعلامية التي حظي بها هذا الخبر يحسده عليها خبر أكثر أهمية نشرته صحيفة "المصريون" في السابع والعشرين من الشهر الماضي عن سؤال برلماني عاجل وجهه النائب المصري على لبن إلى رئيس الوزراء أحمد نظيف ووزيري التربية والتعليم يسري الجمل والتعليم العالي هاني هلال، أشار النائب فيه إلى حذف عشرات الموضوعات من كتب التربية الوطنية والقومية والإسلامية في مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي حول اتفاقية الدفاع العربي المشترك والتكافل بين الأقطار العربية ودور الاستعمار في تجزئة الوطن العربي ومحو اسم فلسطين من الخرائط في الكتب التعليمية المقررة وحذف واختزال الرموز الوطنية ومنهم صلاح الدين الأيوبي، وإلغاء تدريس كتب التاريخ الإسلامي من مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، وتخفيض عدد صفحات تاريخ الدولة الإسلامية من 207 صفحة إلى 35 صفحة، وتخصيص ستة أسطر للخليفة عمر بن الخطاب مقابل 34 صفحة لنابليون بونابرت، بينما تم تخفيض صفحات السيرة النبوية من 472 صفحة إلى 105 صفحات فضلا عن حذف واختزال معظم غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبخاصة ضد اليهود، وإلغاء الآيات التي تستوجب تطبيق الشريعة الإسلامية وإلغاء الأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد، وذلك بعد الموافقة المصرية على إنشاء مركز أميركي لتطوير المناهج، تحت شعار الحاجة للمعونة الأميركية التي تمثل 3% من حجم ميزانية التعليم، كما قال النائب، لافتا النظر إلى أن المركز يضم 166 خبيرا أميركيا يمثلون أكبر بعثة أميركية من نوعها في الخارج، مقارنة ببعثة أميركية مماثلة في إسرائيل لا يزيد عدد أفرادها على ثلاث خبراء فقط.
وفي هذه العجالة لا يتسع المجال للاستفاضة في استعراض البعد الاقتصادي الأوسع للتطبيع القائم فعلا، لكن بعض المؤشرات لا بد منها. فقد تحولت المعونات الأجنبية المشروطة سياسيا وبخاصة الأميركية والأوروبية، إلى قناة تمويل أساسية للتطبيع الاقتصادي، وما سلسلة المشاريع العربية – الإسرائيلية المشتركة في المناطق المعروفة باسم "كويز" في الأردن ومصر وفلسطين إلا عنوان أوضح لسياسة المعونات هذه. أما مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل في العاصمة السورية، أحد الأسلحة العربية الرئيسية لمقاومة التطبيع، فإنه لم يعد يجتمع إلا نادرا، وسبق لمحمد صبيح الأمين العام المساعد للجامعة العربية التي يتبع المكتب لها أن طالب بربطه بمبادرة السلام العربية، ليتحول إلى سلاح صدئ تحاصره الآن سياسة التحرير الاقتصادي السورية التي أفرزت مشاريع كان المكتب يقاطعها سابقا مثل فندق "فور سيزنز" ومطاعم كنتاكي، بينما العربية السعودية، المستهدف الأساسي حاليا بالدعوة الأميركية للتطبيع، تجد نفسها الآن محاصرة بين عضويتها في منظمة التجارة العالمية التي تحظر عليها مقاطعة إسرائيل وبين رفضها للتطبيع السياسي والاقتصادي معها. إن موجة التطبيع الجارفة تدفع دولا عربية اليوم إلى التخطيط لربط مشاريعها المستقبلية الحيوية بإسرائيل، فعلى سبيل المثال قال سامي الفراج كبير مخططي مشروع "مدينة الحرير" التي ستبنيها الكويت خلال ربع قرن من الزمن على مساحة 250 كيلومترا بكلفة تزيد على مئة مليار دولار أميركي إن من أهداف المشروع "الربط مع إسرائيل" واصفا أي نقد لذلك بأنه نقد "عفا عليه الزمن" (خليج تايمز في 22/7/2008). وفلسطينيا فإن وجود (12) ألف تاجر ورجل أعمال فلسطيني من الحاملين لتصاريح دخول إسرائيلية خاصة، وبلوغ قيمة التجارة الإسرائيلية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة خمسة عشر مليار شيقل خلال عام 2008 ، بينما تتراوح قيمة التبادل التجاري السنوي الثنائي بين (2 – 2.5) مليار دولار أميركي، كانت هي وغيرها من الأسباب كافية لتأسيس "غرفة التجارة والصناعة الإسرائيلية الفلسطينية" في 18/5/2009. وحسب تقارير معهد الصادرات الإسرائيلي فإن حجم التبادل التجاري مع كل من مصر والأردن يزيد على (300) مليون دولار لكل منهما سنويا، وقد عملت (321) شركة إسرائيلية في مصر العام الماضي وتعاملت معها حوالي (300) شركة مصرية، بينما صدرت (1800) شركة إسرائيلية منتجاتها إلى الأردن، الذي أصبح كثير من العرب يحسدون الإسرائيليين لأنهم يدخلونه الآن دون تأشيرة بحجة "التواصل مع أهلنا" في إسرائيل كما قالت وزيرة السياحة والآثار الأردنية مها الخطيب.
لكن الحراك الأميركي الذي يقوده ميتشل يستهدف في المقام الأول دول الخليج العربية الست، وبخاصة المملكة العربية السعودية، لأن "القيادة السعودية محورية في الوصول إلى سلام شامل" كما قالت كلينتون يوم السبت الماضي، في تجاهل يفتقد أي لباقة دبلوماسية لحقيقة أن الرياض تحديدا هي حاضنة مبادرة السلام العربية التي أجمع العرب بموجبها على مبادلة التطبيع بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفي تجاهل لحقيقة أن دولة الاحتلال وراعيها الأميركي لم "يكافئا" العرب على مبادرتهم التاريخية حتى الآن بغير زيادة الضغوط عليهم لانتزاع المزيد من التنازلات، مثل التطبيع المسبق الذي يدعو ميتشل إليه الآن، لإفراغ هذه المبادرة من مضمونها، وفي تجاهل كذلك لحجم التطبيع الجاري فعلا بين الدول الست وبين دولة الاحتلال، والذي يمكن الإطلال عليه من مقال نشره سلطان سعود القاسمي، الأستاذ غير المقيم بكلية دبي للإدارة الحكومية، في "الديلي ستار" اللبنانية في الثامن والعشرين من تموز / يوليو الماضي. كتب القاسمي: "إن السر المكشوف هو أن بلدان الخليج الست جميعها تقيم اتصالات مع إسرائيل، وبعضها له مصالح اقتصادية علنية معها. وقام مسؤولون رفيعو المستوى مثل الرئيس الإسرائيلي الحالي (شمعون بيريس) بزيارة سلطنة عمان وقطر في مناسبات مختلفة .. كما كان وزير الخارجية البحريني قد اقترح العام الماضي إنشاء منظمة إقليمية تضم إسرائيل وإيران .. وقبل ذلك زار محافظ بنك إسرائيل المركزي الإمارات العربية المتحدة عام 2003 .. وحتى الكويت المحافظة شهدت مؤخرا دعوة من مرشح للبرلمان الكويتي لإقامة علاقات مع إسرائيل". وفي مقال له نشرته الواشنطن بوست مؤخرا دعا ولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة إلى التواصل الإعلامي مع "الشعب الإسرائيلي لتعريفهم بفوائد السلام الحقيقي". وقد خلص القاسمي في مقاله إلى أنه سيكون: "من السذاجة التفكير بأن وجود علاقات مع إسرائيل سيخلق ببساطة أي فارق في عملية السلام، لا بل إن البعض يقول إن مكافأة الحكومة الإسرائيلية المتشددة الحالية ستكون له نتائج عكسية، .. لكن سيكون من السذاجة بالقدر نفسه التفكير بأن مثل هذه العلاقات ليست موجودة حقا، مهما بلغت قوة نفي الدول الخليجية لوجودها".
ومن مفارقات التطبيع الدبلوماسي العربي الذي يستهدف إثبات حسن النية العربية في السلام والتعايش السلمي اعتماد مصر عام 2005 لسفير إسرائيلي من أصل تونسي هو شالوم كوهين، وتعيين البحرين لعضوة مجلس الشورى عراقية الأصل هدى عزرا نونو -- الممثلة لأقلية يهودية قالت إن عددها اليوم ستة وثلاثون نسمة -- سفيرة لها في واشنطن، لتدخل التاريخ المعاصر كأول عربية يهودية تمثل دولتها، والتي يغضبها إشارة الإعلام الأميركي إلى ديانتها، بينما ما زالت دولة الاحتلال الإسرائيلي تنكر على أقلية عربية من أصحاب البلد الشرعيين تمثل أكثر من خمس سكانها حقهم في التمثيل الدبلوماسي وحقهم في الاعتراف بهم كأقلية قومية أو كأقلية دينية أو كمواطنين متساوين في الحقوق مع مواطنيها اليهود، فدولة الاحتلال ما زالت ترفض مبدأ التبادلية حتى في التطبيع.
إن التطبيع العربي قائم فعلا ويتسع يوميا، ويضغط ميتشل وإدارته على العرب من أجل المزيد منه فقط، لابتزاز المزيد من التنازلات العربية المجانية، تماما مثلما لم تعد دولة الاحتلال الإسرائيلي تكتفي باعتراف منظمة التحرير بها بل تسعى الآن إلى انتزاع المزيد من تنازلاتها لتعترف ب”يهودية" هذه الدولة، ليصدق قوله تعالى: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (صدق الله العظيم).
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق