زهير الخويلدي
"إننا نعيش في مجتمع يسير بمعظمه نحو الحقيقة، أعني في مجتمع ينتج وينشر خطابا همه هو الحقيقة، أو يعتبره الناس كذلك، وله من جراء ذلك سلطة خاصة... " ميشيل فوكو
لعل السؤال الذي يظل أكثر إحراجا بل ربما الأكثر إزعاجا بالنسبة إلى العقول اليوم، فلاسفة كانوا أو علماء أو نقادا هو سؤال:" ما الحقيقة؟" ، ذلك أن هذه الكلمة مشبعة بالالتباس والغموض وتختلط بكلمات أخرى تتداخل معها في المعنى وتتشاكل في الدلالة مثل البداهة ، اليقين، الصلاحية، الصواب أو تتناقض معها وتفترق مثل الخطأ، الوهم، الكذب والظن والرأي، وهكذا لم يتولد عن هذه الكلمة سوى تماثلات لأفكار فضفاضة وما نسميه حقائق لا يعدو أن يكون سوى تماثلات لأفكار لا وجود لها في الواقع.
زد على ذلك أننا لا نكاد نظفر برؤية متماسكة تفضي إلى وضع حد جامع مانع لمفهوم الحقيقة تنقضي بمقتضاه فوضى الآراء حول قضية منزلتها الإبستيمولوجية في العلوم تصورات وانجازات بشكل يجعل النقد الابستيمولوجي يتحول إلى تفلسف موضوعي أو على الأقل يقترب من موضوعية العلوم الإنسانية.
ولعله لا يمكن أن نفهم هذه الفوضى إلا بالعودة إلى أزمنة البدء أيام كان العالم لم يزل بعد محاطا بالأسرار وأيام كانت المفاهيم تلمع في لحظة تشكلها الأولى وأيام كانت الكلمات لم تزل تمتلك سرية الإيماءة وسلطان الإشارة لنساءل النظريات والتجارب والنصوص في طزاجتها الأولى ونرتحل بين ثناياها وتفاصيلها إقبالا وإدبارا. طالما كانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي تترجم رغبته في العبور من المجهول إلى المعلوم ومن المحدود المختزل إلى المطلق الخصب وذلك بتحطيم الأطر الضيقة والمقاربات المسقطة والمناهج الصارمة والتخلص من شروط الزمان والمكان.
نحن لا نزعم هنا تقديم القول الفصل في مسألة "مكانة الحقيقة في العلوم" وحسم الأمر بتقديم نظرة نهائية بل سنكتفي بتدقيق النظر في مواطن الشبهة والخلاف والبحث عن معنى الحقيقة بتوسيع دائرة التشخيص والمقارنة وبتكثيف الأسئلة حول هذه القضية. وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو وجود جملة من الصعوبات تمنع الإحاطة بالموضوع وتوقع الفكر في نوع من الكبر والغرور.
الصعوبة الأولى هي من جهة التعريف حيث لا يتعلق الموضوع بحقيقة واحدة بل بعدة حقائق تتوزع بين الذاتية والموضوعية وبين المادية والمثالية وبين التجريبية والرياضية، فماهو المعيار الذي نحددها به حتى ننتقل من التعدد إلى الوحدة ومن الكثرة إلى المفهوم؟
الصعوبة الثانية هي من جهة المنهج لاسيما وأن الحقيقة واحدة وأن الاختلاف يبرز في السبل المؤدية إليها خاصة وأن الطريق إليها وعر ويتطلب المجاهدة والعزيمة والمعاناة على طول الحياة، فماهو المنهج الملائم للبحث عن الحقيقة؟ هل هو التحليل أم التركيب؟ هل هو الاستنباط أم الاستقراء؟ هل هو المنهج التجريبي أم المنهج الرياضي؟
الصعوبة الثالثة من جهة الوجود وتتمثل في أن الحقيقة ليست معطى جاهز أو أمر بديهي واضح للعيان بل وجودها منغمس في الشبهات ويكتنفها الغموض ومليئة بالألغاز، فهل الحقيقة تكتشف أم تنشئ؟ وهل هي بعد أنطولوجي وجوهر قبلي أم إنشاء معرفي بعدي واختراع حر؟
الصعوبة الرابعة من جهة قيمة الحقيقة وتتراوح بين ارتباطها بالمصدر والأصل والمنبع وحرصها على الوصول إلى الغاية والهدف والمقصد وأداء الدور وإتقان الوظيفة، فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ وماهو مصدرها؟ ولماذا نريدها؟ هل لتفسير الطبيعة أم للسيطرة عليها؟ هل لمجرد المعرفة أم لتحقيق المنفعة؟
وهل القول بالنسبية هو درس في الريبية واللاأدرية يتعارض مع الحقيقة الموضوعية؟ إلى أي مدى يكون كل إثبات للحقيقة هو سقوط في الوثوقية؟ ألا ينبغي أن تتحول الموضوعية إلى حد أمثل للمعرفة العلمية يسعى إليها العقل وتدفعه نحو التطور دون أن يدركها؟
لما كان تاريخ العلم يخضع لجدل العوائق مع القطائع ويخضع لمنطق الهدم والبناء وكان التفكير العلمي يتقدم عبر تحطيم الآراء المغشوشة والظنون الكاذبة ولما كانت الحقائق نفسها لا تتكون إلا سجاليا وبعد تجربة مضنية في محاربة الجهل والاعتقاد الزائف في المعرفة فأنه ليس من اللائق أن نطمح إلى القضاء على هذه الصعوبات وتحطيمها والتخلص منها وإنما نرنو إلى اختبارها كنماذج إرشادية والتحقق من مدى تماسكها وصلابتها وتدوينها في سجلات افتراضية حتى نستعين بها في تنظيم رؤية تفسيرية للكون.
يمكن معالجة هذه الصعوبات من خلال القيام بثلاثة حركة فكرية:
الأولى تخص العقلانية العلمية المنحدرة من المنطق والرياضيات أين يدور الجدل بين الحقيقة واليقين وتطرح قضية بداهة المقدمات وصلاحية النتائج اللازمة عنها وتساوق المنهج وتطابق الاستدلال وتماسكه. في الواقع لا يضيف القياس المنطقي أمرا جديدا لمعلوماتنا السابقة بل يقتصر على تنظيمها أما الاستدلال الرياضي فيتجاوز حد التنظيم ويمكن العلوم من بناء واختراع نماذج تفسيرية للواقع لم تكن معروفة، في هذا السياق يقول غوبلو:" ليس الاستدلال الرياضي تأمليا وإنما هو إنشائي
وقد جرت العادة أن تتبوأ الحقيقة المنطقية والرياضية محل الأول وأن تشتق منها الحقائق العلمية الأخرى إما عن طريق منطقة العلوم أو من خلال ترييض موضوعها وكما قال:"الرياضيات هي العلم المرشح بجد لنيل الجائزة الأولى للمعقولية".
غير أن حقائق الرياضيات هي مجرد تعريفات وافتراضات اعتباطية عند بوانكاريه وليس وقائع وكائنات كما كان يظن فيثاغورس وذلك لأن الرياضيات هي علوم بداهة والمعيار الأساسي لتمييز حقيقة نظرية عن أخرى هو تماسك الاستدلال واللزوم الضروري للنتائج عن المقدمات. هنا يقول صوير:" إن الرياضيات علم مهمته تصنيف جميع البنيات الممكنة" وذلك من خلال الانطلاق من جملة من التعريفات والبديهيات والمصادرات والمبرهنات وذلك قصد الوصول إلى تلاؤم مع الأشياء. ان الحقائق الرياضية تشبه الافتراضات التي توضع دون إثبات ودون أن تنطبق بشكل تام على العالم الواقع لأن "الواقع ليس ما نعتقد فيه بل هو ما كان ينبغي علينا أن نفكر فيه."
الحركة الثانية تخص العلوم التجريبية وخاصة الفيزياء وعلم الأحياء أين يدور الجدل بين الحقيقة والتثبت والتأييد والتحقق وتطرق قضية تطابق الحكم العقلي مع الواقع الخارجي والتثبت من صدق الفرضية عبر الرجوع إلى عالم التجربة. إن الحقائق الفيزيائية هي وقائع من وضع ملاحظتها وخاضعة لإثباتات وتحققات عينية خصوصا وأن الفيزياء هي علوم يقين والمعيار الأساسي لتمييز حقيقة تجريبية عن أخرى هو مدى مطابقتها للواقع كما يكشف عن ذلك المنهاج التجريبي والسبر والإحصاء. والحق أن الفيزياء تعتمد التجربة ولكنها لا تهمل دور العقل بل تدعو إلى أن يقوم تحالفا بينهما. وقد حصل تحول في مستوى المبادئ التي يرتكز عليها هذا العلم يتمثل في الانتقال من الإيمان بالسببية إلى الإيمان بالاحتمال الذي له من القوة ما يجعله مساويا لليقين. لو أخذنا غاليلي مثلا فإنه لم يقم باكتشافات كبيرة ولكنه قام باختراع عندما حول الكيف إلى كم والمحسوس إلى معقول وأعاد تعريف العلم من معرفة تدرك الجوهر إلى معرفة تهتم بربط الصلة وتنظيم البنية وإقامة العلاقة. يصرح فرنسوا جاكوب في منطق العالم الحي:" لم يعد علم الأحياء يبحث عن الحقيقة بل يقوم ببناء حقيقته الخاصة."
الحركة الفكرية الثالثة تخص العلوم الإنسانية وبالتحديد علم النفس وعلم الاجتماع أين يدور الاهتمام بمسألة شرعية هذه العلوم وشروط إمكان حقيقة الإنسان خارج إطار عالم المادة وعالم الروح. والحق أن هذه العلوم توجد في موقع تجاذب بين الفلسفة من جهة والعلوم الصحيحة والطبيعية من جهة أخرى وهي كذلك حلبة صراع بين اتجاهين: الأول طبيعي أصابته عدوى النماذج الوضعية ويعتمد أسلوب التفسير والثاني تاريخي يميز بين علوم الفكر وعلوم الطبيعة ويعتمد أسلوب التأويل والفهم والتعاطف الوجداني. ولعل أهم إشكال يطرح هنا هو هل الإنسان موضوع تفسير أم موضوع تأويل؟
يقوم التفسير على رد الظواهر الجزئية إلى المبادئ العامة التي تحكمها طبقا لقوانين يمكن التثبت منها عن طريق التجربة، أما التأويل فيتمثل في البحث وراء العلاقات والنسب عن المقاصد والمعاني والدلالات، ولذلك كان الجواب مبهرا وهو ضرورة الانتقال من حقيقة الإنسان إلى التركيز على معنى الحياة الإنسانية وقيمة وجوده في العالم.
خلاصة القول إن طرح أسئلة مثل ما معنى بناء الحقيقة؟ وماذا نقصد بأن تكون الحقيقة خاصة؟ وهل تتمثل الحقيقة في هذا التطابق بين الحكم والموضوع؟ يفضي إلى القول بعدم وجود علم مهم يكون دقيقا ويكفي ليقدم للعلوم الأخرى المناهج التي تلائمها ومعايير الحقيقة. ربما دحضانية كارل بوبر أو قابلية التكذيب هي أحسن المعاول المكنة لبناء معيار للعلومية. حيث يصرح في هذا السياق:" إن حقيقة علمية ما ليست حقيقة لأن التجربة تثبتها بل هي حقيقة لأننا لم نتوصل بعد إلى تجربة تثبت عكسها".
يفيد هذا الأمر ثلاثة أشياء:
- أن العقل كما يقول كانط لا يرى في الطبيعة إلا ما ينتجه وفق مخططاته الخاصة وما يضعه بنفسه
- ان نظرية ما لا تكون صادقة إلا طالما أنها سمحت بتفسير معطيات التجربة وحالما تكتشف وقائع جديدة لا يمكن تفسيرها على ضوء هذه النظرية فأنه ينبغي إعادة النظر فيها لتوسيعها وتعويضها بأخرى.
- موضوعية المعرفة العلمية لا تكتسب إلا بتخليص الأشياء من غلافها الحسي والانتقال من المعرفة العامية إلى المعرفة العلمية ومن الواقع العيني إلى الواقع الموضوعي الافتراضي.
فإذا كان غرض العلم هو أن يكيف العقل مع الواقع وينقذ ظواهره فإن هذا الغرض مهمة لا تكتمل أبدا ومشروع هو دائما مؤجلا ينفتح في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه انغلق طالما أن عوائق الإحيائية والغائية وأوهام مركزية الأرض وتعالي الوعي وتكريم الإنسان مازالت تقبع كمكبوتات في غياهب لاوعي العلماء وتمنعهم من الإبداع وتحقيق المزيد من الاختراعات.
صفوة القول أن الجهود الرامية الى البحث عن الحقيقة أو افتراضها أو التوجه نحو بنائها تنزع كلها إلى تقريب الواقع الطبيعي والشأن الانساني من العقل الرياضي والمنطقي وتعطي قيمة للمنهج التجريبي ولكن أنى له أن تدركه؟
كاتب فلسفي
"إننا نعيش في مجتمع يسير بمعظمه نحو الحقيقة، أعني في مجتمع ينتج وينشر خطابا همه هو الحقيقة، أو يعتبره الناس كذلك، وله من جراء ذلك سلطة خاصة... " ميشيل فوكو
لعل السؤال الذي يظل أكثر إحراجا بل ربما الأكثر إزعاجا بالنسبة إلى العقول اليوم، فلاسفة كانوا أو علماء أو نقادا هو سؤال:" ما الحقيقة؟" ، ذلك أن هذه الكلمة مشبعة بالالتباس والغموض وتختلط بكلمات أخرى تتداخل معها في المعنى وتتشاكل في الدلالة مثل البداهة ، اليقين، الصلاحية، الصواب أو تتناقض معها وتفترق مثل الخطأ، الوهم، الكذب والظن والرأي، وهكذا لم يتولد عن هذه الكلمة سوى تماثلات لأفكار فضفاضة وما نسميه حقائق لا يعدو أن يكون سوى تماثلات لأفكار لا وجود لها في الواقع.
زد على ذلك أننا لا نكاد نظفر برؤية متماسكة تفضي إلى وضع حد جامع مانع لمفهوم الحقيقة تنقضي بمقتضاه فوضى الآراء حول قضية منزلتها الإبستيمولوجية في العلوم تصورات وانجازات بشكل يجعل النقد الابستيمولوجي يتحول إلى تفلسف موضوعي أو على الأقل يقترب من موضوعية العلوم الإنسانية.
ولعله لا يمكن أن نفهم هذه الفوضى إلا بالعودة إلى أزمنة البدء أيام كان العالم لم يزل بعد محاطا بالأسرار وأيام كانت المفاهيم تلمع في لحظة تشكلها الأولى وأيام كانت الكلمات لم تزل تمتلك سرية الإيماءة وسلطان الإشارة لنساءل النظريات والتجارب والنصوص في طزاجتها الأولى ونرتحل بين ثناياها وتفاصيلها إقبالا وإدبارا. طالما كانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي تترجم رغبته في العبور من المجهول إلى المعلوم ومن المحدود المختزل إلى المطلق الخصب وذلك بتحطيم الأطر الضيقة والمقاربات المسقطة والمناهج الصارمة والتخلص من شروط الزمان والمكان.
نحن لا نزعم هنا تقديم القول الفصل في مسألة "مكانة الحقيقة في العلوم" وحسم الأمر بتقديم نظرة نهائية بل سنكتفي بتدقيق النظر في مواطن الشبهة والخلاف والبحث عن معنى الحقيقة بتوسيع دائرة التشخيص والمقارنة وبتكثيف الأسئلة حول هذه القضية. وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو وجود جملة من الصعوبات تمنع الإحاطة بالموضوع وتوقع الفكر في نوع من الكبر والغرور.
الصعوبة الأولى هي من جهة التعريف حيث لا يتعلق الموضوع بحقيقة واحدة بل بعدة حقائق تتوزع بين الذاتية والموضوعية وبين المادية والمثالية وبين التجريبية والرياضية، فماهو المعيار الذي نحددها به حتى ننتقل من التعدد إلى الوحدة ومن الكثرة إلى المفهوم؟
الصعوبة الثانية هي من جهة المنهج لاسيما وأن الحقيقة واحدة وأن الاختلاف يبرز في السبل المؤدية إليها خاصة وأن الطريق إليها وعر ويتطلب المجاهدة والعزيمة والمعاناة على طول الحياة، فماهو المنهج الملائم للبحث عن الحقيقة؟ هل هو التحليل أم التركيب؟ هل هو الاستنباط أم الاستقراء؟ هل هو المنهج التجريبي أم المنهج الرياضي؟
الصعوبة الثالثة من جهة الوجود وتتمثل في أن الحقيقة ليست معطى جاهز أو أمر بديهي واضح للعيان بل وجودها منغمس في الشبهات ويكتنفها الغموض ومليئة بالألغاز، فهل الحقيقة تكتشف أم تنشئ؟ وهل هي بعد أنطولوجي وجوهر قبلي أم إنشاء معرفي بعدي واختراع حر؟
الصعوبة الرابعة من جهة قيمة الحقيقة وتتراوح بين ارتباطها بالمصدر والأصل والمنبع وحرصها على الوصول إلى الغاية والهدف والمقصد وأداء الدور وإتقان الوظيفة، فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ وماهو مصدرها؟ ولماذا نريدها؟ هل لتفسير الطبيعة أم للسيطرة عليها؟ هل لمجرد المعرفة أم لتحقيق المنفعة؟
وهل القول بالنسبية هو درس في الريبية واللاأدرية يتعارض مع الحقيقة الموضوعية؟ إلى أي مدى يكون كل إثبات للحقيقة هو سقوط في الوثوقية؟ ألا ينبغي أن تتحول الموضوعية إلى حد أمثل للمعرفة العلمية يسعى إليها العقل وتدفعه نحو التطور دون أن يدركها؟
لما كان تاريخ العلم يخضع لجدل العوائق مع القطائع ويخضع لمنطق الهدم والبناء وكان التفكير العلمي يتقدم عبر تحطيم الآراء المغشوشة والظنون الكاذبة ولما كانت الحقائق نفسها لا تتكون إلا سجاليا وبعد تجربة مضنية في محاربة الجهل والاعتقاد الزائف في المعرفة فأنه ليس من اللائق أن نطمح إلى القضاء على هذه الصعوبات وتحطيمها والتخلص منها وإنما نرنو إلى اختبارها كنماذج إرشادية والتحقق من مدى تماسكها وصلابتها وتدوينها في سجلات افتراضية حتى نستعين بها في تنظيم رؤية تفسيرية للكون.
يمكن معالجة هذه الصعوبات من خلال القيام بثلاثة حركة فكرية:
الأولى تخص العقلانية العلمية المنحدرة من المنطق والرياضيات أين يدور الجدل بين الحقيقة واليقين وتطرح قضية بداهة المقدمات وصلاحية النتائج اللازمة عنها وتساوق المنهج وتطابق الاستدلال وتماسكه. في الواقع لا يضيف القياس المنطقي أمرا جديدا لمعلوماتنا السابقة بل يقتصر على تنظيمها أما الاستدلال الرياضي فيتجاوز حد التنظيم ويمكن العلوم من بناء واختراع نماذج تفسيرية للواقع لم تكن معروفة، في هذا السياق يقول غوبلو:" ليس الاستدلال الرياضي تأمليا وإنما هو إنشائي
وقد جرت العادة أن تتبوأ الحقيقة المنطقية والرياضية محل الأول وأن تشتق منها الحقائق العلمية الأخرى إما عن طريق منطقة العلوم أو من خلال ترييض موضوعها وكما قال:"الرياضيات هي العلم المرشح بجد لنيل الجائزة الأولى للمعقولية".
غير أن حقائق الرياضيات هي مجرد تعريفات وافتراضات اعتباطية عند بوانكاريه وليس وقائع وكائنات كما كان يظن فيثاغورس وذلك لأن الرياضيات هي علوم بداهة والمعيار الأساسي لتمييز حقيقة نظرية عن أخرى هو تماسك الاستدلال واللزوم الضروري للنتائج عن المقدمات. هنا يقول صوير:" إن الرياضيات علم مهمته تصنيف جميع البنيات الممكنة" وذلك من خلال الانطلاق من جملة من التعريفات والبديهيات والمصادرات والمبرهنات وذلك قصد الوصول إلى تلاؤم مع الأشياء. ان الحقائق الرياضية تشبه الافتراضات التي توضع دون إثبات ودون أن تنطبق بشكل تام على العالم الواقع لأن "الواقع ليس ما نعتقد فيه بل هو ما كان ينبغي علينا أن نفكر فيه."
الحركة الثانية تخص العلوم التجريبية وخاصة الفيزياء وعلم الأحياء أين يدور الجدل بين الحقيقة والتثبت والتأييد والتحقق وتطرق قضية تطابق الحكم العقلي مع الواقع الخارجي والتثبت من صدق الفرضية عبر الرجوع إلى عالم التجربة. إن الحقائق الفيزيائية هي وقائع من وضع ملاحظتها وخاضعة لإثباتات وتحققات عينية خصوصا وأن الفيزياء هي علوم يقين والمعيار الأساسي لتمييز حقيقة تجريبية عن أخرى هو مدى مطابقتها للواقع كما يكشف عن ذلك المنهاج التجريبي والسبر والإحصاء. والحق أن الفيزياء تعتمد التجربة ولكنها لا تهمل دور العقل بل تدعو إلى أن يقوم تحالفا بينهما. وقد حصل تحول في مستوى المبادئ التي يرتكز عليها هذا العلم يتمثل في الانتقال من الإيمان بالسببية إلى الإيمان بالاحتمال الذي له من القوة ما يجعله مساويا لليقين. لو أخذنا غاليلي مثلا فإنه لم يقم باكتشافات كبيرة ولكنه قام باختراع عندما حول الكيف إلى كم والمحسوس إلى معقول وأعاد تعريف العلم من معرفة تدرك الجوهر إلى معرفة تهتم بربط الصلة وتنظيم البنية وإقامة العلاقة. يصرح فرنسوا جاكوب في منطق العالم الحي:" لم يعد علم الأحياء يبحث عن الحقيقة بل يقوم ببناء حقيقته الخاصة."
الحركة الفكرية الثالثة تخص العلوم الإنسانية وبالتحديد علم النفس وعلم الاجتماع أين يدور الاهتمام بمسألة شرعية هذه العلوم وشروط إمكان حقيقة الإنسان خارج إطار عالم المادة وعالم الروح. والحق أن هذه العلوم توجد في موقع تجاذب بين الفلسفة من جهة والعلوم الصحيحة والطبيعية من جهة أخرى وهي كذلك حلبة صراع بين اتجاهين: الأول طبيعي أصابته عدوى النماذج الوضعية ويعتمد أسلوب التفسير والثاني تاريخي يميز بين علوم الفكر وعلوم الطبيعة ويعتمد أسلوب التأويل والفهم والتعاطف الوجداني. ولعل أهم إشكال يطرح هنا هو هل الإنسان موضوع تفسير أم موضوع تأويل؟
يقوم التفسير على رد الظواهر الجزئية إلى المبادئ العامة التي تحكمها طبقا لقوانين يمكن التثبت منها عن طريق التجربة، أما التأويل فيتمثل في البحث وراء العلاقات والنسب عن المقاصد والمعاني والدلالات، ولذلك كان الجواب مبهرا وهو ضرورة الانتقال من حقيقة الإنسان إلى التركيز على معنى الحياة الإنسانية وقيمة وجوده في العالم.
خلاصة القول إن طرح أسئلة مثل ما معنى بناء الحقيقة؟ وماذا نقصد بأن تكون الحقيقة خاصة؟ وهل تتمثل الحقيقة في هذا التطابق بين الحكم والموضوع؟ يفضي إلى القول بعدم وجود علم مهم يكون دقيقا ويكفي ليقدم للعلوم الأخرى المناهج التي تلائمها ومعايير الحقيقة. ربما دحضانية كارل بوبر أو قابلية التكذيب هي أحسن المعاول المكنة لبناء معيار للعلومية. حيث يصرح في هذا السياق:" إن حقيقة علمية ما ليست حقيقة لأن التجربة تثبتها بل هي حقيقة لأننا لم نتوصل بعد إلى تجربة تثبت عكسها".
يفيد هذا الأمر ثلاثة أشياء:
- أن العقل كما يقول كانط لا يرى في الطبيعة إلا ما ينتجه وفق مخططاته الخاصة وما يضعه بنفسه
- ان نظرية ما لا تكون صادقة إلا طالما أنها سمحت بتفسير معطيات التجربة وحالما تكتشف وقائع جديدة لا يمكن تفسيرها على ضوء هذه النظرية فأنه ينبغي إعادة النظر فيها لتوسيعها وتعويضها بأخرى.
- موضوعية المعرفة العلمية لا تكتسب إلا بتخليص الأشياء من غلافها الحسي والانتقال من المعرفة العامية إلى المعرفة العلمية ومن الواقع العيني إلى الواقع الموضوعي الافتراضي.
فإذا كان غرض العلم هو أن يكيف العقل مع الواقع وينقذ ظواهره فإن هذا الغرض مهمة لا تكتمل أبدا ومشروع هو دائما مؤجلا ينفتح في اللحظة التي يظن فيها الإنسان أنه انغلق طالما أن عوائق الإحيائية والغائية وأوهام مركزية الأرض وتعالي الوعي وتكريم الإنسان مازالت تقبع كمكبوتات في غياهب لاوعي العلماء وتمنعهم من الإبداع وتحقيق المزيد من الاختراعات.
صفوة القول أن الجهود الرامية الى البحث عن الحقيقة أو افتراضها أو التوجه نحو بنائها تنزع كلها إلى تقريب الواقع الطبيعي والشأن الانساني من العقل الرياضي والمنطقي وتعطي قيمة للمنهج التجريبي ولكن أنى له أن تدركه؟
كاتب فلسفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق