محمود كعوش
أربعة عقود بالتمام والكمال مرت على وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس المباركة في قبضة الاحتلال الصهيوني الغاشم في أعقاب عدوان الخامس من حزيران 1967 و"الإسرائيليون" ماضون في غيهم وسعيهم المحموم والحثيث لتغيير معالم المدينة المقدسة والعبث بتراثها الحضاري رغبةً في تهويدها وإلغاء هويتها العربية، في تحد واستفزاز سافرين ومهينين لمشاعر أبنائها من الديانتين الإسلامية والمسيحية بشكل خاص، وتجاهل وعدم اكتراث متعمدين للعالمين العربي والإسلامي بشكل عام. وقد ظل هذا الأمر على الدوام موضع استنكار دولي صارخ عكسته سلسلة من القرارات الدولية المتلاحقة التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة وفيض من بيانات الشجب والإدانة التي أطلقها قادة عالميون، إلى جانب الرفض العربي والإسلامي وبالأخص الفلسطيني الذي ما برح يعبر عن نفسه بشتى الصور والأساليب والوسائل التي يجيزها القانون الدولي، بما في ذلك ممارسة المقاومة المسلحة والقيام بالانتفاضات الشعبية العارمة، التي كان آخرها انتفاضة الأقصى المباركة التي تفجرت في 28 أيلول 2000 والتي تمكنت من دحر الاحتلال وفرضت عليه الانكفاء عن قطاع غزة في 17 آب 2005.
ولربما أن أكثر ما يدعو للأسى والأسف ويدمي القلوب هو أن المسجد الأقصى المبارك، الذي يُعتبر أولى القبلتين وثالث الحرمين بالنسبة للمسلمين في العالم، بقي من أولويات أهداف التغيير عند "إسرائيل" بشكل دائم ومستمر، بزعم وجود جبل الهيكل اليهودي تحت أرضه تحت سمع وبصر العالم أجمع بما في ذلك النظام الرسمي العربي!! وقد اتخذت عمليات تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه وباطن أرضه والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي قام بها "الإسرائيليون" وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى أيامنا هذه. فمنذ وقوع القدس الشريف في قبضة الاحتلال في اليوم الثاني لعدوان حزيران1967 أي قبل إثنين وأربعين عاماً وبضعة أسابيع، أقدم "الإسرائيليون" على اقتحام ساحة المسجد من حين لآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والخلاعة بداخلها. لكن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون مع نفر من أعوانه الأشرار في 28 أيلول 2000 ساحة المسجد بتسهيلٍ وحمايةٍ من حكومة حزب العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني الآخر أيهود باراك، كان الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدٍ لمشاعر العرب والمسلمين بمن فيهم الفلسطينيين طبعاً. وقد شكل ذلك الاقتحام الهمجي لساحة المسجد الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية الثانية التي حملت اسم المسجد المبارك.
شرعت "إسرائيل" في حملاتها التغيرية والتهويدية المسعورة للمسجد الأقصى مع احتلال الشطر الشرقي للمدينة المقدسة في حزيران 1967، واستمرت في ظل "اتفاقية أوسلو" اللعينة وما أعقبها من مفاوضات وتفاهمات عقيمة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" تارة برعاية رباعية منحازة وطوراً برعاية أميركية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة الجماعية المستمرة التي دأب جنودها على شنها على الفلسطينيين الآمنين بطريقة عدوانية متواصلة. وحصلت تلك الحملات قبل البدء ببناء جدار الفصل العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها نهاية أو مستقراً طالما أن المطامع "الإسرائيلية" التوسعية قائمة ومستمرة في ظل انحياز أميركي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للاملاءات الأميركية ـ "الإسرائيلية" المشتركة.
وقد اكتست هذه الحملات العدوانية وجوهاً وأقنعة عديدة ومتنوعة، وتم التعبير عنها بوسائل وسبل شريرة وشيطانية مختلفة، ومن خلال العديد من الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة والموجعة على العرب والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على المقدسيين، بحيث يصعب معها التكهن باحتمال محوها من ذاكرتهم في المستقبل. ولربما كان أبرزها محاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن طريق الحرق في 21 آب 1969 والتي تتصادف ذكراها التاسعة والثلاثون هذه الأيام. تلك المحاولة التي وقف وراءها نفر من المتطرفين "الإسرائيليين" الذين ما أبطنوا ولا أظهروا غير الحقد والكراهية للعرب والمسلمين، جرت بإيعاز وتشجيع من الدوائر السياسية والأمنية "الإسرائيلية" الرسمية.
ففي تلك المحاولة الإجرامية، أحرق المتطرفون "الإسرائيليون" المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات الاحتلال أن تكون بمنأى أو معزل عنها. فقد قامت هذه السلطات بقطع المياه عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع المقدسيين وسيارات الإطفاء التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى المنطقة والقيام بعملية الإطفاء. وكاد الحريق أن يلتهم قبة المسجد المبارك لولا استماتة هؤلاء الأبرار في عملية الإطفاء، إذ اندفعوا اندفاعة الأبطال عبر النطاق الذي ضربته قوات الاحتلال "الإسرائيلية" حتى تمكنوا من إكمال مهمتهم، لكن بعد أن أتى على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه الجنوبي.
وفي محاولة دنيئة ووقحة للتعمية على جريمتها، ادعت "إسرائيل" يومها أن "تماساً كهربائياً تسبب في الحريق"، إلا أن تقارير المهندسين الفلسطينيين دحضت ذلك الإدعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة أقدمت على تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر قادة العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى دينيس مايكل وليام موهان. واعتقلت "إسرائيل" ذلك الشاب، وكان يهودياً أسترالياً، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية احتيال التفافية لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانة العرب والمسلمين والالتفاف على المنظمة الدولية، إلا أنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه متذرعة بأنه كان "معتوهاً". وهكذا قيدت "إسرائيل" جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد معتوه، كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم الإسلامية والمسيحية.
ارتكاب جريمة حرق المسجد الأقصى ومعالجتها بتلك الطريقة الاستفزازية من قبل "إسرائيل" أثارا في حينه هياجاً كبيراً في الأوساط العربية والإسلامية بما فيها الفلسطينية طبعاً لما يمثله المسجد كمكان ديني مقدس وواحد من أبرز معالم الحضارة الإنسانية، الأمر الذي فرض على مجلس الأمن الدولي إصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271.
في ذلك القرار أدان المجلس "إسرائيل" لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة. وعبر القرار عن حزن المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال العسكري "الإسرائيلي" الغاشم.
وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات الدولية السابقة التي أكدت بطلان إجراءات "إسرائيل" التي استهدفت التغيير في القدس المحتلة، دعاها من جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة، المعني بصيانة وإصلاح وترميم الأماكن المقدسة الإسلامية. ويذكر أن القرار الدولي صدر بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات المتحدة.
أجمع المؤرخون والكتاب العرب على أن حريق المسجد الأقصى المتعمد مثل محطة رئيسية من محطات الإرهاب "الإسرائيلي" وحلقة بارزة من حلقات المسلسل "الإسرائيلي" المستمر للممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية والمسيحية تحت سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي الذي اختار لنفسه أن يظل نزيل غرفة الإنعاش حتى إشعار آخر، بمشيئة أميركية ـ "إسرائيلية" مشتركة لا بمشيئته طبعاً.
فمنذ احتلال القدس وحتى الآن، لم يوقف "الإسرائيليون" مجازرهم الإجرامية بحق المصلين في المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه. وكانت مجزرة عام 1990 واحدة من المجازر البربرية التي ارتكبها هؤلاء الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله من خلال الصلوات في المسجد الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على تأكيد هوية الأقصى العربية والإسلامية. في تلك المجزرة الرهيبة هدر "الإسرائيليون" دم 22 فلسطينياً غيلة وغدراً وهم في لحظات التضرع إلى رب العالمين.
ولم يوقف "الإسرائيليون" الحفريات حول المسجد المبارك وفي باطن أرضه وفي الأماكن المحيطة به لحظة واحدة. فقد تواصلت الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان وذرائع أخرى واهية. ولم تستثنٍ الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم يملكها عربي.
وبموازاة ذلك، دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف. ففي ذلك العام شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه سفر التوراة وشيدوا في داخله كنيساً يهودياً. وبلغت عملية حفر الأنفاق ذروتها في أيلول 1996، عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي للمسجد ويربط بين حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة المقدسيين وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و 15 جندياً إسرائيلياً. وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام الكاذب الذي تواتر على خلفيته مؤتمر مدريد المشؤوم واتفاقية أوسلو اللعينة.
وأذكر أنه في ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة في مثل هذه الأيام من عام 2005، تعالت أصوات "إسرائيلية" منكرة من هنا وهناك تهدد بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من الجو والبر أو اقتحامه وتدميره.
ففي 6 حزيران 2005، حيث توافقت الذكرى ألـ 38 لاحتلال مدينة القدس ، فشلت مجموعات يهودية متطرفة يرافقها حاخامات ونواب "إسرائيليون" يمينيون وشخصيات "إسرائيلية" شعبية في اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط بعد أن تصدى لها حراسه والمرابطون بداخله ومن وحوله. وليلة التاسع من آب من ذات العام تكررت المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها منيت بالفشل أيضاً. ومنذ الرابع عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع ذكرى ما يسمونه "خراب الهيكل الثاني"، استأنف المتطرفون اليهود محاولات اقتحام المسجد جماعياً وفردياً. وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية، ألقت الشرطة "الإسرائيلية" القبض على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر بابين مختلفين.
وفي الأعوام الثلاثة الماضية 2006 و2007 و 2008 والشهور الماضية من العام الجاري تكررت المحاولات في ذات المناسبات ومناسبات أخرى مختلفة وحتى في خارج المناسبات. وترافقت تلك المحاولات مع تهديدات من أعضاء في الكنيست "الإسرائيلي" طالبوا فيها بتدمير المسجد انتقاماً لقتلاهم و"تحرير" أسراهم لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية!!
ويُذكر أنه بينما كانت انتفاضة الأقصى المجيدة لم تزل بعد في أوج توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، تمحورت المخاوف الفلسطينية بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها والمستقبل المظلم الذي يتهدد عروبتها، وذلك لأن "الإسرائيليين" كانوا يعملون على إعادة رسم جغرافيتها بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية والاستيطانية التوسعية. ولطالما تساءلنا حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المدينة المقدسة، وما سيؤول إليه مصير المسجد الأقصى في ظل استهداف المتطرفين اليهود الدائم له.
أما وقد جرى ما جرى في القطاع من مواجهات دموية، بين من يُفترض أن يكونوا اخوة ورفاق السلاح في مواجهة العدو المشترك الذي اغتصب أرضهم، أدت إلى ما أدت إليه من أوضاع شاذة أقل ما يمكن أن توصف به أنها مثلت ضربة قاسمة وموجعة جداً لوحدة الوطن والشعب الفلسطينيين على المستويين الإنساني والجغرافي إلى حين لا يعرف مداه إلا الله، فإن المخاوف على مدينة القدس بما فيها المسجد الأقصى تصاعدت وتضاعفت آلاف المرات، وبلغت مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل.
إلى متى سنظل نتساءل حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المسجد الأقصى والقدس وكل الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر، خاصة بعد أن أصاب الوحدة الوطنية الفلسطينية ما أصابها؟ ترى هل سيطول زمن التساؤل أكثر!!
كاتب وباحث عربي مقيم في الدانمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
أربعة عقود بالتمام والكمال مرت على وقوع الشطر الشرقي لمدينة القدس المباركة في قبضة الاحتلال الصهيوني الغاشم في أعقاب عدوان الخامس من حزيران 1967 و"الإسرائيليون" ماضون في غيهم وسعيهم المحموم والحثيث لتغيير معالم المدينة المقدسة والعبث بتراثها الحضاري رغبةً في تهويدها وإلغاء هويتها العربية، في تحد واستفزاز سافرين ومهينين لمشاعر أبنائها من الديانتين الإسلامية والمسيحية بشكل خاص، وتجاهل وعدم اكتراث متعمدين للعالمين العربي والإسلامي بشكل عام. وقد ظل هذا الأمر على الدوام موضع استنكار دولي صارخ عكسته سلسلة من القرارات الدولية المتلاحقة التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة وفيض من بيانات الشجب والإدانة التي أطلقها قادة عالميون، إلى جانب الرفض العربي والإسلامي وبالأخص الفلسطيني الذي ما برح يعبر عن نفسه بشتى الصور والأساليب والوسائل التي يجيزها القانون الدولي، بما في ذلك ممارسة المقاومة المسلحة والقيام بالانتفاضات الشعبية العارمة، التي كان آخرها انتفاضة الأقصى المباركة التي تفجرت في 28 أيلول 2000 والتي تمكنت من دحر الاحتلال وفرضت عليه الانكفاء عن قطاع غزة في 17 آب 2005.
ولربما أن أكثر ما يدعو للأسى والأسف ويدمي القلوب هو أن المسجد الأقصى المبارك، الذي يُعتبر أولى القبلتين وثالث الحرمين بالنسبة للمسلمين في العالم، بقي من أولويات أهداف التغيير عند "إسرائيل" بشكل دائم ومستمر، بزعم وجود جبل الهيكل اليهودي تحت أرضه تحت سمع وبصر العالم أجمع بما في ذلك النظام الرسمي العربي!! وقد اتخذت عمليات تغييره أشكالاً مختلفة منها العبث بمحيطه وباطن أرضه والتحدي السافر لرواده وعمليات الاقتحام المتتالية له، التي قام بها "الإسرائيليون" وما زالوا يقومون بها بشكل أحمق ومجنون حتى أيامنا هذه. فمنذ وقوع القدس الشريف في قبضة الاحتلال في اليوم الثاني لعدوان حزيران1967 أي قبل إثنين وأربعين عاماً وبضعة أسابيع، أقدم "الإسرائيليون" على اقتحام ساحة المسجد من حين لآخر وتدنيسها من خلال إقامة حفلات الغناء والرقص والمجون والخلاعة بداخلها. لكن اقتحام الإرهابي الصهيوني الأرعن آرئيل شارون مع نفر من أعوانه الأشرار في 28 أيلول 2000 ساحة المسجد بتسهيلٍ وحمايةٍ من حكومة حزب العمل التي كان يرأسها آنذاك الإرهابي الصهيوني الآخر أيهود باراك، كان الأسوأ من نوعه والأكثر استفزازاً وتحدٍ لمشاعر العرب والمسلمين بمن فيهم الفلسطينيين طبعاً. وقد شكل ذلك الاقتحام الهمجي لساحة المسجد الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة الشعبية الثانية التي حملت اسم المسجد المبارك.
شرعت "إسرائيل" في حملاتها التغيرية والتهويدية المسعورة للمسجد الأقصى مع احتلال الشطر الشرقي للمدينة المقدسة في حزيران 1967، واستمرت في ظل "اتفاقية أوسلو" اللعينة وما أعقبها من مفاوضات وتفاهمات عقيمة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" تارة برعاية رباعية منحازة وطوراً برعاية أميركية أكثر انحيازاً، وتصاعدت وتيرتها في ظل حرب الإبادة الجماعية المستمرة التي دأب جنودها على شنها على الفلسطينيين الآمنين بطريقة عدوانية متواصلة. وحصلت تلك الحملات قبل البدء ببناء جدار الفصل العنصري، واستمرت في ذروة بنائه وبعد الانتهاء منه، ولا يبدو أن لها نهاية أو مستقراً طالما أن المطامع "الإسرائيلية" التوسعية قائمة ومستمرة في ظل انحياز أميركي وتواطؤ أوروبي وخضوع رسمي عربي كامل ومهين للاملاءات الأميركية ـ "الإسرائيلية" المشتركة.
وقد اكتست هذه الحملات العدوانية وجوهاً وأقنعة عديدة ومتنوعة، وتم التعبير عنها بوسائل وسبل شريرة وشيطانية مختلفة، ومن خلال العديد من الحلقات والمحطات التي تركت آثارها المؤلمة والموجعة على العرب والمسلمين، وبالخصوص على الفلسطينيين وبأخص الخصوص على المقدسيين، بحيث يصعب معها التكهن باحتمال محوها من ذاكرتهم في المستقبل. ولربما كان أبرزها محاولة الإجهاز على المسجد الأقصى المبارك عن طريق الحرق في 21 آب 1969 والتي تتصادف ذكراها التاسعة والثلاثون هذه الأيام. تلك المحاولة التي وقف وراءها نفر من المتطرفين "الإسرائيليين" الذين ما أبطنوا ولا أظهروا غير الحقد والكراهية للعرب والمسلمين، جرت بإيعاز وتشجيع من الدوائر السياسية والأمنية "الإسرائيلية" الرسمية.
ففي تلك المحاولة الإجرامية، أحرق المتطرفون "الإسرائيليون" المسجد بطريقة لا يمكن لسلطات الاحتلال أن تكون بمنأى أو معزل عنها. فقد قامت هذه السلطات بقطع المياه عن منطقة الحرم فور ظهور الحريق، وحاولت منع المقدسيين وسيارات الإطفاء التي هرعت من البلديات العربية من الوصول إلى المنطقة والقيام بعملية الإطفاء. وكاد الحريق أن يلتهم قبة المسجد المبارك لولا استماتة هؤلاء الأبرار في عملية الإطفاء، إذ اندفعوا اندفاعة الأبطال عبر النطاق الذي ضربته قوات الاحتلال "الإسرائيلية" حتى تمكنوا من إكمال مهمتهم، لكن بعد أن أتى على منبر المسجد وسقوف ثلاثة من أروقته وجزءٍ كبير من سطحه الجنوبي.
وفي محاولة دنيئة ووقحة للتعمية على جريمتها، ادعت "إسرائيل" يومها أن "تماساً كهربائياً تسبب في الحريق"، إلا أن تقارير المهندسين الفلسطينيين دحضت ذلك الإدعاء، وأكدت أنه تم بفعل أيد مجرمة أقدمت على تلك الفعلة الشنيعة عن سابق إصرار وتصميم وترصد، الأمر الذي أجبر قادة العدو على التراجع عن ادعائهم وتحويل الشبهة إلى شاب أسترالي يدعى دينيس مايكل وليام موهان. واعتقلت "إسرائيل" ذلك الشاب، وكان يهودياً أسترالياً، وتظاهرت بأنها ستقدمه للمحاكمة في عملية احتيال التفافية لامتصاص غضبة الفلسطينيين وإدانة العرب والمسلمين والالتفاف على المنظمة الدولية، إلا أنها بدل أن تفعل ذلك أطلقت سراحه متذرعة بأنه كان "معتوهاً". وهكذا قيدت "إسرائيل" جريمتها الإرهابية النكراء تلك ضد معتوه، كعادتها بعد كل جريمة إرهابية يرتكبها جنودها ومواطنوها بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم الإسلامية والمسيحية.
ارتكاب جريمة حرق المسجد الأقصى ومعالجتها بتلك الطريقة الاستفزازية من قبل "إسرائيل" أثارا في حينه هياجاً كبيراً في الأوساط العربية والإسلامية بما فيها الفلسطينية طبعاً لما يمثله المسجد كمكان ديني مقدس وواحد من أبرز معالم الحضارة الإنسانية، الأمر الذي فرض على مجلس الأمن الدولي إصدار قراره الشهير الذي حمل الرقم 271.
في ذلك القرار أدان المجلس "إسرائيل" لتدنيسها المسجد، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها المساس بوضعية المدينة المقدسة. وعبر القرار عن حزن المجلس للضرر الفادح الذي ألحقه الحريق بالمسجد في ظل الاحتلال العسكري "الإسرائيلي" الغاشم.
وبعد أن استذكر القرار جميع القرارات الدولية السابقة التي أكدت بطلان إجراءات "إسرائيل" التي استهدفت التغيير في القدس المحتلة، دعاها من جديد إلى التقيد بنصوص اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري. كما دعاها إلى الامتناع عن إعاقة عمل المجلس الإسلامي في المدينة، المعني بصيانة وإصلاح وترميم الأماكن المقدسة الإسلامية. ويذكر أن القرار الدولي صدر بأغلبية 11 دولة وامتناع أربع دول عن التصويت من ضمنها الولايات المتحدة.
أجمع المؤرخون والكتاب العرب على أن حريق المسجد الأقصى المتعمد مثل محطة رئيسية من محطات الإرهاب "الإسرائيلي" وحلقة بارزة من حلقات المسلسل "الإسرائيلي" المستمر للممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية بحق الفلسطينيين وأملاكهم وأوقافهم وأماكن عباداتهم الإسلامية والمسيحية تحت سمع وبصر العالم أجمع، بما في ذلك النظام الرسمي العربي الذي اختار لنفسه أن يظل نزيل غرفة الإنعاش حتى إشعار آخر، بمشيئة أميركية ـ "إسرائيلية" مشتركة لا بمشيئته طبعاً.
فمنذ احتلال القدس وحتى الآن، لم يوقف "الإسرائيليون" مجازرهم الإجرامية بحق المصلين في المسجد الأقصى الشريف ولم يكفوا عن محاولة اقتحامه والتهديد بهدمه ونسفه بالمتفجرات وضربه بالصواريخ لإقامة هيكلهم المزعوم فوق أنقاضه. وكانت مجزرة عام 1990 واحدة من المجازر البربرية التي ارتكبها هؤلاء الأشرار بحق من اعتادوا على التواصل مع الله من خلال الصلوات في المسجد الأقصى من منطلق إيماني وحرص أمين ومخلص على تأكيد هوية الأقصى العربية والإسلامية. في تلك المجزرة الرهيبة هدر "الإسرائيليون" دم 22 فلسطينياً غيلة وغدراً وهم في لحظات التضرع إلى رب العالمين.
ولم يوقف "الإسرائيليون" الحفريات حول المسجد المبارك وفي باطن أرضه وفي الأماكن المحيطة به لحظة واحدة. فقد تواصلت الحفريات بشكل مسعور ومحموم بذريعة البحث والتنقيب عن آثار هيكل سليمان وذرائع أخرى واهية. ولم تستثنٍ الحفريات بيتاً عربياً أو مدرسة أو دار علم يملكها عربي.
وبموازاة ذلك، دأبوا منذ عام 1968 على حفر الأنفاق تحت الحرم القدسي الشريف. ففي ذلك العام شرعوا بحفر نفق عميق وطويل أدخلوا إليه سفر التوراة وشيدوا في داخله كنيساً يهودياً. وبلغت عملية حفر الأنفاق ذروتها في أيلول 1996، عندما أقدموا على حفر نفق يمر أسفل السور العربي للمسجد ويربط بين حائط البراق وطريق الآلام، الأمر الذي أثار في حينه حفيظة المقدسيين وأشعل موجة من المواجهات المسلحة التي اتسعت رقعتها لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 65 فلسطينياً و 15 جندياً إسرائيلياً. وقد حصل كل ذلك في ظل تنامي الحديث عن السلام الكاذب الذي تواتر على خلفيته مؤتمر مدريد المشؤوم واتفاقية أوسلو اللعينة.
وأذكر أنه في ظل احتفال الفلسطينيين بتحرير قطاع غزة في مثل هذه الأيام من عام 2005، تعالت أصوات "إسرائيلية" منكرة من هنا وهناك تهدد بقصف المسجد الأقصى بالصواريخ من الجو والبر أو اقتحامه وتدميره.
ففي 6 حزيران 2005، حيث توافقت الذكرى ألـ 38 لاحتلال مدينة القدس ، فشلت مجموعات يهودية متطرفة يرافقها حاخامات ونواب "إسرائيليون" يمينيون وشخصيات "إسرائيلية" شعبية في اقتحام المسجد بشكل جماعي عبر باب الأسباط بعد أن تصدى لها حراسه والمرابطون بداخله ومن وحوله. وليلة التاسع من آب من ذات العام تكررت المحاولة عبر بابي حطة والسلسلة، إلا أنها منيت بالفشل أيضاً. ومنذ الرابع عشر من ذات الشهر والعام الذي توافق مع ذكرى ما يسمونه "خراب الهيكل الثاني"، استأنف المتطرفون اليهود محاولات اقتحام المسجد جماعياً وفردياً. وفي واحدة من تلك المحاولات الإجرامية، ألقت الشرطة "الإسرائيلية" القبض على متطرفين حاولا الدخول إليه عبر بابين مختلفين.
وفي الأعوام الثلاثة الماضية 2006 و2007 و 2008 والشهور الماضية من العام الجاري تكررت المحاولات في ذات المناسبات ومناسبات أخرى مختلفة وحتى في خارج المناسبات. وترافقت تلك المحاولات مع تهديدات من أعضاء في الكنيست "الإسرائيلي" طالبوا فيها بتدمير المسجد انتقاماً لقتلاهم و"تحرير" أسراهم لدى المقاومتين الفلسطينية واللبنانية!!
ويُذكر أنه بينما كانت انتفاضة الأقصى المجيدة لم تزل بعد في أوج توقدها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، تمحورت المخاوف الفلسطينية بصورة خاصة حول القدس والمخاطر المحدقة بها والمستقبل المظلم الذي يتهدد عروبتها، وذلك لأن "الإسرائيليين" كانوا يعملون على إعادة رسم جغرافيتها بالكيفية التي تلائم طموحاتهم التهويدية والاستيطانية التوسعية. ولطالما تساءلنا حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المدينة المقدسة، وما سيؤول إليه مصير المسجد الأقصى في ظل استهداف المتطرفين اليهود الدائم له.
أما وقد جرى ما جرى في القطاع من مواجهات دموية، بين من يُفترض أن يكونوا اخوة ورفاق السلاح في مواجهة العدو المشترك الذي اغتصب أرضهم، أدت إلى ما أدت إليه من أوضاع شاذة أقل ما يمكن أن توصف به أنها مثلت ضربة قاسمة وموجعة جداً لوحدة الوطن والشعب الفلسطينيين على المستويين الإنساني والجغرافي إلى حين لا يعرف مداه إلا الله، فإن المخاوف على مدينة القدس بما فيها المسجد الأقصى تصاعدت وتضاعفت آلاف المرات، وبلغت مبلغاً من الخطورة لم تبلغه من قبل.
إلى متى سنظل نتساءل حول ما ستؤول إليه الأوضاع في المسجد الأقصى والقدس وكل الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر، خاصة بعد أن أصاب الوحدة الوطنية الفلسطينية ما أصابها؟ ترى هل سيطول زمن التساؤل أكثر!!
كاتب وباحث عربي مقيم في الدانمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق