د. حبيب بولس
في حمأة هذا الزمن الرديء، وفي ظل انقلاب المفاهيم والقيم، حتى صار الواحد منا يلقى الآخر، بوجه ابي ذَرّ وقلب ابي جهل، في هذا الزمن العربي الرديء، ونحن نجتاز مفازة لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور، في هذا الزمن المُثقل بالهمّ وبالوجع وبالجوع، زمن الانكسارات والتشرذم والفُرقة الذي فيه تفتّقت خيوط عباءتنا وبهتت الوان حطّتنا. في هذا الزمن الذي صرنا فيه دويلات وطوائف، "في كل ارض وطئتُها امم- تُرعى بعبد كأنها غنم". يهرول زعماؤها وملوكها ويخمعون وراء احمق لا همّ له سوى ضرب وحدتنا وتفتيتها، وزرع بذور الفتنة والاحتراب الطائفي والعرقي، في ظل هذا الزمن السيء الذي نامت فيه نواطيرنا، فسرح تجار الكرامة المزيفة، ومرحت الثعالب الوطنية، في حمأة هذا الزمن الذي يقود العالم فيه شهّاء دماء وفتنة، تلهث خلفه قياداتنا العربية وتُنتف عند ابوابه شواربهم، لانهم "ارانب غير انهم ملوك مفتحة عيونهم نيام". في زمن يسوّغ فيه المقصر تحقيره ومذلته بالحِلم هربا من المواجهة مع علمه بأن "كل حِلم اتى بغير اقتدار حُجّة لاجئٌ اليها اللئام". فمن يَهُن يسهُل الهوان عليه، ما لجرح بميت ايلام".
في زمن كهذا يتبوأ قيادته مأفون: "من كل رخو، عظيم البطن، مُنتفخ- لا في الرجال ولا في النسوان معدود". في زمن كهذا يشهد تراجعنا وتخاذلنا وترهّلنا، من الطبيعي ان تُخلّع ابوابنا، وان تُهدم اسوار كرامتنا، وان تُقتحم قلعتنا، وان تستباح خدورنا وحرماتنا، ومعتقداتنا، ومقدساتنا، حتى صرنا عُرضة للهجوم والتّهجم الوقحين من نفر ما كان يجرؤ لو ان في جموعنا رجالا. فتارة نصحو على رسومات شائهة لشخص الرسول العربي الكريم، وطورا على مقال لفرنسي، يُعيد فيه الى الاذهان تقرير "اللورد كريمر" في العقد الاول من القرن المنصرم، القائل:" ان الدين الاسلامي دين لا يليق بهذا العصر"، وتارة ثالثة على قبسة باباوية فطير، كنا نأمل- سامحه الله- ان تكون خميرا تلائم مركزه، يتعرّض فيها للدين الاسلامي على انه دين لا يُحكّم العقل، وتارة رابعة على تقليعة تُردف الارهاب بالدين. هذا التطاول ما كان له ان يتم لو ان الاجنبي، كان يعلم اننا مُوحدون زعامة وشعبا.
وفي حمأة كل ما ذكر يهلّ علينا شهر رمضان المبارك ليغسلنا من ادراننا وليزيل ما علق بأجسادنا من ترهل ودسم واورام، وليمسح عن وجوهنا الاصباغ كي نظهر على حقيقتنا، وكي نلتقي مع انفسنا، في لحظة صدق. مع اهلالته الكريمة لا نملك الا ان نقول لكل المُضلِّلين والمُضلَّلين: ان ما يجري تسيب اخلاقي وفلتان، فحرية التعبير عن الرأي مهما حاولتم مكيجتها، يجب ان تلجم اذا هي تجاوزت حدودها ومسّت الآخرين في صميم معتقداتهم. ومن هنا لا يمكن ان نسمح بما يجري من جهة، ولكننا من اخرى نقول نحن ضد الارهاب مهما كانت مصادره واسبابه، ومهما كان فاعلوه ومهما كان انتماؤهم. فالخطأ لا يُعالج بخطأ، والشرّ لا يقتلعه شر، لقد قال "لقمان الحكيم" لابنه:" يا بني، لقد كذب من قال: ان الشر بالشر يُطفأ، فان كان صادقا، فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ احداهما الاخرى، انما يطفئ الخير الشر، كما يطفئ الماء النار".
نحن هنا نحذر ونقول للمُضلّلين: اياكم والخلط بين الارهاب والدين، فالاسلام دين سماحة وحضارة وعلم اجّ وتوهّج واشتعل فأنار العالم اجمع وهداه سواء السبيل. عليكم ان تعلموا انه مهما بلغ بكم الحقد على الاسلام والمسلمين، لن يمسّ هذا الحقد الدين بشيء، بل سينقلب عليكم:" ان الدين يُسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه" (حديث شريف). الاسلام دين راسخ، دعائمه العدل والخير والمحبة، لذلك لن يستطيع شخص او فئة النيل منه:" ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"... (حديث شريف). لن تضير المسلمين رسومات تشوّه سواء كان فاعلها يعرف فتعمّد التهتك او يجهل فادعى التنسك، فهو في الحالتين اساء. فمن كلام عليّ (كرم الله وجهه):" قصَم ظهري رجلان: جاهل متنسك، وعالم متهتك" وفي الحالتين الذنب هو الذنب. نحن هنا مسلمين ومسيحيين،نقول:" نحن في الشرق والفصحى بنو رحم- ونحن في الجرح والايمان اخوان".
من هنا فليعلم الجميع ان الدين الاسلامي دين سماحة وقيم وحضارة وعلم وعقل، ولن تضره رسومات ولا اقوال شائهة طائشة، ومن هنا ثانية نقول وبعقيرة مرفوعة جهيرة: ان رسولا كريما تجمّعت فيه القيم والصفات الحميدة فصار أسّا ومرتكزا وقدوة حسنة، لا يمكن ان نسمح لاحد بالمس به. ان رسولا اخترق العالم بتعاليمه وانار ظلمته، لا يمكن ان نسمح لاحد بان يهزأ به. ان من يدعو الى الوحدة والتآلف والى نبذ البغضاء والاحقاد، من يدعو الى مكارم الاخلاق والتواضع والمحبة، والرحمة والتسامح، وإنصاف الضعيف، حيث يقول صلّى الله عليه وسلّم:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله اخوانا". و" احبكم اليّ احاسنكم اخلاقا، الموطئون اكنافا، الذين يألفون ويُؤلَفون". و:" لا يؤمن احدكم حتى يُحبّ لاخيه ما يحب لنفسه". و:" يا علي، إتقّ دعوة المظلوم، فانه يسأل الله حقه، وان الله لا يمنع ذا حق حقه". او كما جاء على لسان ابي بكر رضي الله عنه:"ألا ان اقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، واضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه". أيُضام رسول كهذا، بهذه الاخلاق وبهذه القيم!! انه قابع في قلوب الناس منه يستمدون وبه يستنيرون. "لحُبّ ابن عبد الله اولى- به يُبدأ الذكر الجميل ويُختم".
نعم، ايها الاخوة، الاسلام دين سماحة وحضارة وعلم وعقل. قال ابن رشد الفيلسوف:" الشريعة والعقل أخوان في الرضاعة".
من هنا، اقول لقداسة البابا: دُلّني قداستك على ملك اوصى قائده قبل المعركة، كما اوصى الصدّيق قائده الفتى اسامة قبل ان يشخصه على رأس حملة، حيث قال:" لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغّلوا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا الا لأكله". وسوف تمرّون بأقوام قد افرغوا انفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا انفسهم به.." أليس هذا عين العقل، قارِن قداستك هذا الكلام بما جاء في التوراة عن فتح اريحا".
دُلّني قداستك على ملك ابرم معاهدة وجعل بندها المركزي كتبا، كما فعل الخليفة المأمون حين ابرم معاهدته مع ملك الروم، واشترط عليه ارسال الكتب والمخطوطات الى بيت الحكمة لنقلها وترجمتها، قارِن قداستك هذا الامر مع ما جرى في برلين في بداية العقد الثالث من القرن المنصرم من احراق اعظم مكتبة هناك، مكتبة "أونترن لندن".
ان دينا يبوِّئ القلم المنزلة الاولى ويقدمه على كل شيء، والقلم آلة الفطنة والعقل ورمزهما لا يُقال عنه انه دين لا يحكّم العقل. فهذا العتّابي يقول: "الاقلام مطايا الفطن"، والمأمون يقول: "لله در القلم، كيف يحوك وشي المملكة" وهذا ابن الرومي يقول: " بذا قضى الله للاقلام مُذ بُريت - ان السيوف لها مُذ أُصليت خدم". وصلاح الدين القائد الفذّ يقول لجنوده:" لا تحسبوا اني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل". وهذا غيض من فيض، الا يدل ما تقدم على تحكيم العقل. من اين استمد هؤلاء على شتى مراتبهم وعصورهم؟ أليس من تعاليم دينهم، من القرآن الكريم ومن سنّة الرسول المشرّفة. من هنا نحن نردد مع الشاعر ونقول:" من سبّ دين محمد- فمحمد متمكن عند الاله رسولا". لن يضير هذا الدين شيء. وبعد، لو ان مطلقي هذه الاتهامات والتهجمات فكروا للحظة لعرفوا ان ما قاموا به سيكون له عواقب وخيمة وسيمس اقدس ما نحرص عليه ونجعله قرآنا وانجيلا في حياتنا هنا في الشرق، واعني ذلك النسيج المتلاحم بين مسلمينا ومسيحيينا، فنحن العرب المسيحيين نرى بهذه الاقوال مسّا بنا وبمرتكزات وجودنا وبحضارتنا وبتراثنا. لقد عشنا هنا متآخين متحابين اخوة في الهمّ وفي الشدائد، اذا عثر احدنا أقاله الآخر، يجمعنا وئام وحرية معتقد وحلم أخضر بالواحة. من هنا احذر واقول: ان ردّة الفعل مشروعة، ولكن المطالبة بالحق شيء والخروج عن حدود ذلك شيء آخر. يجب حين نردّ ان نرقى الى مستوى دياناتنا والا نأخذ الكل بجريرة البعض. التعميم مرفوض، لانه:" اذا انحطّ قدر الدّر من اجل بائع فذاك جهل باللآلئ". يجب ان نفكر بعقولنا، اذ لا يجوز مهما بلغ بنا الغضب ان نسقط ذلك على العرب المسيحيين، فالمسيحيون هنا، ليسوا رهائن عند احد، بل هم شركاء واخوة، يجب ان ننتبه وان لا نسمح بان يُستغل غضبنا للتطاول على المسيحيين العرب، فالاحتجاج شيء واعمال الشغب وحرق الكنائس شيء آخر، شيء يجهض نضالنا ويُهمّشه ويعطي الفرج للمسيئين الينا.
نحن هنا، مسلمين ومسيحيين نقولها صادقة لن نسمح بالمسّ برسلنا وبأنبيائنا ومقدساتنا، لن نسمح بتفتيت وحدتنا وبتمزيق نسيجها، مهما حصل، ولن تُفلح اية قوة في ان تحرف مسارنا وان تشوّه تاريخنا وعيشنا المشترك. "واما الزّبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض". صدق الله العظيم. لنخرج من هنا ايها الاخوة موحدين متآزرين كحبّات العقد الواحدة تسند الاخرى، لنخرج صخرة عتيّة تتحطم عند قدميها قرون الوعل. ولننتبه يا اخوتي لانه "اذا الرعاة اختلفوا تجرأ الذئب". وكم من ذئب على الابواب يتربّص. وعلى امل الاّ يكون لقاؤنا هذا فورة تعقبها غورة، ننتظر رمضان القادم لنرتق سوية ما تفتّق من خيوط عباءتنا ولنرد الى الوان حطّتنا التي بهتت البهاء. لنردد مع شاعر بني تغلب ما يليق بنا:" حُشد على الحق عيّافو الخنى اُنف- اذا ألمّت بهم مكروهة صبروا". ولنهتف مع شوقي:" نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا – ولم يهن بيد التشتيت غالينا/ لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت- في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا". وها انا العربي المسيحي اقولها بكل صدق وفخر:"اولئك اخواني فجئني بمثلهم- اذا جمعتنا يا جرير المجامع".
الله اسأل ان يسبغ علينا نعمته وان يقوّي اواصر وحدتنا وان يشدّ أزرنا. "ربنا اننا سمعنا وأطعنا". "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، انك انت الوهّاب". صدق الله العظيم.
وكل عام وكل رمضان وانتم ونحن بألف خير وعافية.
د. حبيب بولس ، ناقد ومحاضر جامعي - الناصرة
drhbolus@yahoo.com
في حمأة هذا الزمن الرديء، وفي ظل انقلاب المفاهيم والقيم، حتى صار الواحد منا يلقى الآخر، بوجه ابي ذَرّ وقلب ابي جهل، في هذا الزمن العربي الرديء، ونحن نجتاز مفازة لاهبة مليئة بالحصى وبالبثور، في هذا الزمن المُثقل بالهمّ وبالوجع وبالجوع، زمن الانكسارات والتشرذم والفُرقة الذي فيه تفتّقت خيوط عباءتنا وبهتت الوان حطّتنا. في هذا الزمن الذي صرنا فيه دويلات وطوائف، "في كل ارض وطئتُها امم- تُرعى بعبد كأنها غنم". يهرول زعماؤها وملوكها ويخمعون وراء احمق لا همّ له سوى ضرب وحدتنا وتفتيتها، وزرع بذور الفتنة والاحتراب الطائفي والعرقي، في ظل هذا الزمن السيء الذي نامت فيه نواطيرنا، فسرح تجار الكرامة المزيفة، ومرحت الثعالب الوطنية، في حمأة هذا الزمن الذي يقود العالم فيه شهّاء دماء وفتنة، تلهث خلفه قياداتنا العربية وتُنتف عند ابوابه شواربهم، لانهم "ارانب غير انهم ملوك مفتحة عيونهم نيام". في زمن يسوّغ فيه المقصر تحقيره ومذلته بالحِلم هربا من المواجهة مع علمه بأن "كل حِلم اتى بغير اقتدار حُجّة لاجئٌ اليها اللئام". فمن يَهُن يسهُل الهوان عليه، ما لجرح بميت ايلام".
في زمن كهذا يتبوأ قيادته مأفون: "من كل رخو، عظيم البطن، مُنتفخ- لا في الرجال ولا في النسوان معدود". في زمن كهذا يشهد تراجعنا وتخاذلنا وترهّلنا، من الطبيعي ان تُخلّع ابوابنا، وان تُهدم اسوار كرامتنا، وان تُقتحم قلعتنا، وان تستباح خدورنا وحرماتنا، ومعتقداتنا، ومقدساتنا، حتى صرنا عُرضة للهجوم والتّهجم الوقحين من نفر ما كان يجرؤ لو ان في جموعنا رجالا. فتارة نصحو على رسومات شائهة لشخص الرسول العربي الكريم، وطورا على مقال لفرنسي، يُعيد فيه الى الاذهان تقرير "اللورد كريمر" في العقد الاول من القرن المنصرم، القائل:" ان الدين الاسلامي دين لا يليق بهذا العصر"، وتارة ثالثة على قبسة باباوية فطير، كنا نأمل- سامحه الله- ان تكون خميرا تلائم مركزه، يتعرّض فيها للدين الاسلامي على انه دين لا يُحكّم العقل، وتارة رابعة على تقليعة تُردف الارهاب بالدين. هذا التطاول ما كان له ان يتم لو ان الاجنبي، كان يعلم اننا مُوحدون زعامة وشعبا.
وفي حمأة كل ما ذكر يهلّ علينا شهر رمضان المبارك ليغسلنا من ادراننا وليزيل ما علق بأجسادنا من ترهل ودسم واورام، وليمسح عن وجوهنا الاصباغ كي نظهر على حقيقتنا، وكي نلتقي مع انفسنا، في لحظة صدق. مع اهلالته الكريمة لا نملك الا ان نقول لكل المُضلِّلين والمُضلَّلين: ان ما يجري تسيب اخلاقي وفلتان، فحرية التعبير عن الرأي مهما حاولتم مكيجتها، يجب ان تلجم اذا هي تجاوزت حدودها ومسّت الآخرين في صميم معتقداتهم. ومن هنا لا يمكن ان نسمح بما يجري من جهة، ولكننا من اخرى نقول نحن ضد الارهاب مهما كانت مصادره واسبابه، ومهما كان فاعلوه ومهما كان انتماؤهم. فالخطأ لا يُعالج بخطأ، والشرّ لا يقتلعه شر، لقد قال "لقمان الحكيم" لابنه:" يا بني، لقد كذب من قال: ان الشر بالشر يُطفأ، فان كان صادقا، فليوقد نارين، ولينظر هل تطفئ احداهما الاخرى، انما يطفئ الخير الشر، كما يطفئ الماء النار".
نحن هنا نحذر ونقول للمُضلّلين: اياكم والخلط بين الارهاب والدين، فالاسلام دين سماحة وحضارة وعلم اجّ وتوهّج واشتعل فأنار العالم اجمع وهداه سواء السبيل. عليكم ان تعلموا انه مهما بلغ بكم الحقد على الاسلام والمسلمين، لن يمسّ هذا الحقد الدين بشيء، بل سينقلب عليكم:" ان الدين يُسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه" (حديث شريف). الاسلام دين راسخ، دعائمه العدل والخير والمحبة، لذلك لن يستطيع شخص او فئة النيل منه:" ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"... (حديث شريف). لن تضير المسلمين رسومات تشوّه سواء كان فاعلها يعرف فتعمّد التهتك او يجهل فادعى التنسك، فهو في الحالتين اساء. فمن كلام عليّ (كرم الله وجهه):" قصَم ظهري رجلان: جاهل متنسك، وعالم متهتك" وفي الحالتين الذنب هو الذنب. نحن هنا مسلمين ومسيحيين،نقول:" نحن في الشرق والفصحى بنو رحم- ونحن في الجرح والايمان اخوان".
من هنا فليعلم الجميع ان الدين الاسلامي دين سماحة وقيم وحضارة وعلم وعقل، ولن تضره رسومات ولا اقوال شائهة طائشة، ومن هنا ثانية نقول وبعقيرة مرفوعة جهيرة: ان رسولا كريما تجمّعت فيه القيم والصفات الحميدة فصار أسّا ومرتكزا وقدوة حسنة، لا يمكن ان نسمح لاحد بالمس به. ان رسولا اخترق العالم بتعاليمه وانار ظلمته، لا يمكن ان نسمح لاحد بان يهزأ به. ان من يدعو الى الوحدة والتآلف والى نبذ البغضاء والاحقاد، من يدعو الى مكارم الاخلاق والتواضع والمحبة، والرحمة والتسامح، وإنصاف الضعيف، حيث يقول صلّى الله عليه وسلّم:" لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله اخوانا". و" احبكم اليّ احاسنكم اخلاقا، الموطئون اكنافا، الذين يألفون ويُؤلَفون". و:" لا يؤمن احدكم حتى يُحبّ لاخيه ما يحب لنفسه". و:" يا علي، إتقّ دعوة المظلوم، فانه يسأل الله حقه، وان الله لا يمنع ذا حق حقه". او كما جاء على لسان ابي بكر رضي الله عنه:"ألا ان اقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، واضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه". أيُضام رسول كهذا، بهذه الاخلاق وبهذه القيم!! انه قابع في قلوب الناس منه يستمدون وبه يستنيرون. "لحُبّ ابن عبد الله اولى- به يُبدأ الذكر الجميل ويُختم".
نعم، ايها الاخوة، الاسلام دين سماحة وحضارة وعلم وعقل. قال ابن رشد الفيلسوف:" الشريعة والعقل أخوان في الرضاعة".
من هنا، اقول لقداسة البابا: دُلّني قداستك على ملك اوصى قائده قبل المعركة، كما اوصى الصدّيق قائده الفتى اسامة قبل ان يشخصه على رأس حملة، حيث قال:" لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغّلوا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا الا لأكله". وسوف تمرّون بأقوام قد افرغوا انفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا انفسهم به.." أليس هذا عين العقل، قارِن قداستك هذا الكلام بما جاء في التوراة عن فتح اريحا".
دُلّني قداستك على ملك ابرم معاهدة وجعل بندها المركزي كتبا، كما فعل الخليفة المأمون حين ابرم معاهدته مع ملك الروم، واشترط عليه ارسال الكتب والمخطوطات الى بيت الحكمة لنقلها وترجمتها، قارِن قداستك هذا الامر مع ما جرى في برلين في بداية العقد الثالث من القرن المنصرم من احراق اعظم مكتبة هناك، مكتبة "أونترن لندن".
ان دينا يبوِّئ القلم المنزلة الاولى ويقدمه على كل شيء، والقلم آلة الفطنة والعقل ورمزهما لا يُقال عنه انه دين لا يحكّم العقل. فهذا العتّابي يقول: "الاقلام مطايا الفطن"، والمأمون يقول: "لله در القلم، كيف يحوك وشي المملكة" وهذا ابن الرومي يقول: " بذا قضى الله للاقلام مُذ بُريت - ان السيوف لها مُذ أُصليت خدم". وصلاح الدين القائد الفذّ يقول لجنوده:" لا تحسبوا اني فتحت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل". وهذا غيض من فيض، الا يدل ما تقدم على تحكيم العقل. من اين استمد هؤلاء على شتى مراتبهم وعصورهم؟ أليس من تعاليم دينهم، من القرآن الكريم ومن سنّة الرسول المشرّفة. من هنا نحن نردد مع الشاعر ونقول:" من سبّ دين محمد- فمحمد متمكن عند الاله رسولا". لن يضير هذا الدين شيء. وبعد، لو ان مطلقي هذه الاتهامات والتهجمات فكروا للحظة لعرفوا ان ما قاموا به سيكون له عواقب وخيمة وسيمس اقدس ما نحرص عليه ونجعله قرآنا وانجيلا في حياتنا هنا في الشرق، واعني ذلك النسيج المتلاحم بين مسلمينا ومسيحيينا، فنحن العرب المسيحيين نرى بهذه الاقوال مسّا بنا وبمرتكزات وجودنا وبحضارتنا وبتراثنا. لقد عشنا هنا متآخين متحابين اخوة في الهمّ وفي الشدائد، اذا عثر احدنا أقاله الآخر، يجمعنا وئام وحرية معتقد وحلم أخضر بالواحة. من هنا احذر واقول: ان ردّة الفعل مشروعة، ولكن المطالبة بالحق شيء والخروج عن حدود ذلك شيء آخر. يجب حين نردّ ان نرقى الى مستوى دياناتنا والا نأخذ الكل بجريرة البعض. التعميم مرفوض، لانه:" اذا انحطّ قدر الدّر من اجل بائع فذاك جهل باللآلئ". يجب ان نفكر بعقولنا، اذ لا يجوز مهما بلغ بنا الغضب ان نسقط ذلك على العرب المسيحيين، فالمسيحيون هنا، ليسوا رهائن عند احد، بل هم شركاء واخوة، يجب ان ننتبه وان لا نسمح بان يُستغل غضبنا للتطاول على المسيحيين العرب، فالاحتجاج شيء واعمال الشغب وحرق الكنائس شيء آخر، شيء يجهض نضالنا ويُهمّشه ويعطي الفرج للمسيئين الينا.
نحن هنا، مسلمين ومسيحيين نقولها صادقة لن نسمح بالمسّ برسلنا وبأنبيائنا ومقدساتنا، لن نسمح بتفتيت وحدتنا وبتمزيق نسيجها، مهما حصل، ولن تُفلح اية قوة في ان تحرف مسارنا وان تشوّه تاريخنا وعيشنا المشترك. "واما الزّبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض". صدق الله العظيم. لنخرج من هنا ايها الاخوة موحدين متآزرين كحبّات العقد الواحدة تسند الاخرى، لنخرج صخرة عتيّة تتحطم عند قدميها قرون الوعل. ولننتبه يا اخوتي لانه "اذا الرعاة اختلفوا تجرأ الذئب". وكم من ذئب على الابواب يتربّص. وعلى امل الاّ يكون لقاؤنا هذا فورة تعقبها غورة، ننتظر رمضان القادم لنرتق سوية ما تفتّق من خيوط عباءتنا ولنرد الى الوان حطّتنا التي بهتت البهاء. لنردد مع شاعر بني تغلب ما يليق بنا:" حُشد على الحق عيّافو الخنى اُنف- اذا ألمّت بهم مكروهة صبروا". ولنهتف مع شوقي:" نحن اليواقيت خاض النارَ جوهرُنا – ولم يهن بيد التشتيت غالينا/ لم تنزل الشمس ميزانا ولا صعدت- في ملكها الضخم عرشا مثل وادينا". وها انا العربي المسيحي اقولها بكل صدق وفخر:"اولئك اخواني فجئني بمثلهم- اذا جمعتنا يا جرير المجامع".
الله اسأل ان يسبغ علينا نعمته وان يقوّي اواصر وحدتنا وان يشدّ أزرنا. "ربنا اننا سمعنا وأطعنا". "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، انك انت الوهّاب". صدق الله العظيم.
وكل عام وكل رمضان وانتم ونحن بألف خير وعافية.
د. حبيب بولس ، ناقد ومحاضر جامعي - الناصرة
drhbolus@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق