السيد محمد علي الحسيني
تعتري العديد من الاوساط الثقافية والسياسية حالة من الحنين على مکانة العرب في لعبة التوازن الاستراتيجي الاقليمي والدولي إبان الحرب الباردة وترى هذه الاوساط أن مکانة العرب في تلك الحقبة الحافلة بالتطورات والاحداث السياسية المختلفة (والتي لم يکن من نصيب العرب سوى السلبية منها)، کانت إيجابية وافضل من مکانته في النظام الدولي الجديد.
وإذا ما وضعنا مکانة العرب في حقبة الحرب الباردة تحت مجهر البحث والتمحيص وقلبناه من مختلف الاوجه و قارناه بمکانته في ظل النظام الدولي الجديد، فإننا لانرى هنالك أية دلائل أو قرائن تجعلنا نؤمن بأن مکانة العرب في تلك الحقبة کانت أقوى من المکانة الحالية وانه کان يتمتع بمزايا وخصوصيات لايجدها متوفرة في ظل النظام الحالي، إذ ان العرب بحکم إنقسامهم الفکري ـ السياسي على معسکرين متباينين من کل النواحي والاوجه لم يکن بوسعهم فرض قاسم مشترك أعظم کرؤية عامة للفريقين على المجتمع الدولي بشکل عام وعلى القوى العظمى بشکل خاص وعندما نقول فرض رؤية فإننا نعني فرض مواقف وأجندة عربية تأخذ بنظر الاعتبار عند حالات بحث أو حسم مواضيع حساسة وبالغة الاهمية بين القوتين العظمتين وقتئذ (الولايات المتحدة الامريکية والاتحاد السوفياتي)، بل وان الموقف العربي المنقسم على نفسه کان محصورا في دائرتين مغلقتين وکان وفي أفضل الاحوال يتم ترضيته بالوعود المستقبلية أو ارجاء بحث الامور الى فترة زمنية أخرى.
ولم تکن نکبة 1948 و نکسة 1967، و الانقلابات العسکرية و تغيير بعض الانظمة بصور سطحية وشکلية التي کانت مظهرا من مظاهر الواقع السياسي العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، إلا کمؤشرات خطيرة واستثنائية تدل على ضعف وهشاشة الدور العربي في التوازن الاستراتيجي الاقليمي والدولي وان النقطة المهمة هنا، هي أن کل الدول العربية الدائرة في الفلك السوفياتي مثلا لم تکن لها حظوة ودور فيتنام الشمالية عند ذلك القطب الشيوعي من حيث تحديد دور فاعل لها في لعبة الموازنات الدولية، کما أن معظم الدول العربية الدائرة في الفلك الغربي حينئذ، لم تکن تمتلك المکانة و الدور الفعال والمؤثر لأي من ترکيا او إيران الشاه، وان القرارات الدولية الحاسمة التي کانت تتخذ کانت تأخذ بعين الاعتبار دوما وجهات نظر أنقرة وطهران بنظر الاعتبار ولم تکن تخطو ولو خطوة إستراتيجية واحدة بمعزل عن موافقة ورضا تلك الدولتين.
وإذا ماناقشنا البعض جدلا بأن ترکيا أيضا قد شهدت إنقلابات عكسرية و مرت بظروف سياسية ـ أمنية صعبة ومعقدة فلماذا لم يؤثر عليها تلك الانقلابات بنفس تأثيرها على العرب، فإننا نقول بأن ترکيا وان کانت تشهد إنقلابات عسکرية وأخذ ورد سياسي بين الاطراف السياسية الترکية المختلفة، لکن کل الاطراف السياسية(بما فيها الانقلابيون أنفسهم) زائد المنظومة العسکرية الترکية کانت تتمسك بالنظام العلماني الذي صاغه مصطفى کمال اتاترك کنسبة ثابتة لايمکن تغييرها او التلاعب بها ولو بصورة شکلية وهذه النقطة کانت عامل قوة وثبات لترکيا سمح لها بأن لاتفقد من رصيدها الاعتباري على الصعيد الاستراتيجي الاقليمي والدولي شيئا، أما فيما يتعلق بالجانب العربي، فإن أي تغيير للنظام کان يصاحبه تغيير لمعظم الاسس و الاعتبارات والمقومات التي بني عليها کدولة ذات شأن، إذ أن الانقلابات العسکرية التي حدثت في مختلف البلدان العربية کانت تلغي اولويات النظام السابق لها وتسعى لفرض مجموعة اولويات جديدة لها کانت معظمها"کما تعودنا دوما من تلك النظم" هياکل شکلية وزخارف لفظية لم يکن لها أي وجود مادي على أرض الواقع وهذا الامر کان في حد ذاته يقدم خدمة مجانية لأعداء وخصوم ومنافسي العرب في لعبة التوازن الدولية کما کان يقوي من مکانة وموقف تلك الاطراف فإنه کان في نفس الوقت يضعف ويخلخل المکانة العربية ويدفعها للوراء أو في أفضل الاحوال يجعلها تتراوح في مکانها.
صحيح ان الحماس والاندفاع الذين ولدهما الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر کانا بدرجة بحيث لم يکن بوسع أي نظام سياسي عربي آخر من اجتيازه أو حتى الوصول الى مستواه، لکن الاصح أيضا هو أن هذا الحماس و الاندفاع لم يکونان بالاساس مبنيين على أرضية صلبة لاتهزها الرياح ومن هنا فإن حدوث هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، قد نزلت کالصاعقة على وجدان واحساس کل عربي حيث ان الاجواء الحماسية والانفعالية قد قادت الجماهير الى فضائات خيالية لاترتکز على مقومات عقلية ومنطقية خصوصا عندما أطل عبد الناصر بنفسه ليعلن نبأ الهزيمة وتحمله المسؤولية الکاملة لها وتنحيه عن الحکم أصاب العرب بحالة من الدوار فاقت وقع أية کارثة أخرى سمع بها لکنها في نفس الوقت أرجعته الى مربع البداية واوضحت له بجلاء ان کل ذلك العالم المخملي الذي شيده عبد الناصر له قد انهار خلال بضعة ساعات فقط!
جمال عبد الناصر الذي تمکن من تحقيق إنجازات إقتصادية وعمرانية کبيرة کتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، لکنه لم يتمکن من أن يخلق حالة من الاستمرارية بذلك الاتجاه ولم تکن الظروف في خدمته بحيث تسمح له أن يحقق إنجازات مماثلة أو أکبر من ذلك وظل الاقتصاد يراوح في مکانه کما أن العلاقات السياسية المتشنجة لنظام حکم عبد الناصر مع غالبية الدول العربية المتمکنة إقتصاديا جعلته في النهاية لايتمکن من توظيفها لصالح مشروعه القومي، ناهيك عن ان الروس أيضا لم يکونوا يقدمون من شئ له إلا وکان ذلك مشروطا ومحددا بالاضافة الى أن الاخطاء المتعددة التي وقعت في هذا العهد ولاسيما تلك المتعلقة منها بصلاح نصر وتجاوزاته الکبيرة قد أضافت هي الاخرى بعدا سلبيا قاتما على مشروع عبد الناصر القومي وقلصت من فضائات توسعه ومد أذرعه باتجاه العمق المصري اولا والعربي ثانيا. اما المعاهدة التي أبرمها جمال عبد الناصر مع السوفيات فقد کانت هي الاخرى في خدمة الاهداف الاستراتيجية السوفيتية وماجناه عبد الناصر منها لم يکن سوى مکاسب تکتيکية محددة وذات سقف مغلق وانها جعلت منه ومن النظم العربية التي تسايره في حالة عداء مستشري مع الغرب. وهذا أيضا ما جعله يفقد تلقائيا جانبا مهما وحيويا في لعبة التوازنات الاستراتيجية ويعتمد على طرف دولي واحد وهو ماکان يعني أن عبد الناصر قد رمى بکل کراته في السلة السوفياتية.
*الامين العام للمجلس العربي سماحة العلامة السيد محمد علي الحسيني
alsayedalhusseini@hotmail.com
تعتري العديد من الاوساط الثقافية والسياسية حالة من الحنين على مکانة العرب في لعبة التوازن الاستراتيجي الاقليمي والدولي إبان الحرب الباردة وترى هذه الاوساط أن مکانة العرب في تلك الحقبة الحافلة بالتطورات والاحداث السياسية المختلفة (والتي لم يکن من نصيب العرب سوى السلبية منها)، کانت إيجابية وافضل من مکانته في النظام الدولي الجديد.
وإذا ما وضعنا مکانة العرب في حقبة الحرب الباردة تحت مجهر البحث والتمحيص وقلبناه من مختلف الاوجه و قارناه بمکانته في ظل النظام الدولي الجديد، فإننا لانرى هنالك أية دلائل أو قرائن تجعلنا نؤمن بأن مکانة العرب في تلك الحقبة کانت أقوى من المکانة الحالية وانه کان يتمتع بمزايا وخصوصيات لايجدها متوفرة في ظل النظام الحالي، إذ ان العرب بحکم إنقسامهم الفکري ـ السياسي على معسکرين متباينين من کل النواحي والاوجه لم يکن بوسعهم فرض قاسم مشترك أعظم کرؤية عامة للفريقين على المجتمع الدولي بشکل عام وعلى القوى العظمى بشکل خاص وعندما نقول فرض رؤية فإننا نعني فرض مواقف وأجندة عربية تأخذ بنظر الاعتبار عند حالات بحث أو حسم مواضيع حساسة وبالغة الاهمية بين القوتين العظمتين وقتئذ (الولايات المتحدة الامريکية والاتحاد السوفياتي)، بل وان الموقف العربي المنقسم على نفسه کان محصورا في دائرتين مغلقتين وکان وفي أفضل الاحوال يتم ترضيته بالوعود المستقبلية أو ارجاء بحث الامور الى فترة زمنية أخرى.
ولم تکن نکبة 1948 و نکسة 1967، و الانقلابات العسکرية و تغيير بعض الانظمة بصور سطحية وشکلية التي کانت مظهرا من مظاهر الواقع السياسي العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، إلا کمؤشرات خطيرة واستثنائية تدل على ضعف وهشاشة الدور العربي في التوازن الاستراتيجي الاقليمي والدولي وان النقطة المهمة هنا، هي أن کل الدول العربية الدائرة في الفلك السوفياتي مثلا لم تکن لها حظوة ودور فيتنام الشمالية عند ذلك القطب الشيوعي من حيث تحديد دور فاعل لها في لعبة الموازنات الدولية، کما أن معظم الدول العربية الدائرة في الفلك الغربي حينئذ، لم تکن تمتلك المکانة و الدور الفعال والمؤثر لأي من ترکيا او إيران الشاه، وان القرارات الدولية الحاسمة التي کانت تتخذ کانت تأخذ بعين الاعتبار دوما وجهات نظر أنقرة وطهران بنظر الاعتبار ولم تکن تخطو ولو خطوة إستراتيجية واحدة بمعزل عن موافقة ورضا تلك الدولتين.
وإذا ماناقشنا البعض جدلا بأن ترکيا أيضا قد شهدت إنقلابات عكسرية و مرت بظروف سياسية ـ أمنية صعبة ومعقدة فلماذا لم يؤثر عليها تلك الانقلابات بنفس تأثيرها على العرب، فإننا نقول بأن ترکيا وان کانت تشهد إنقلابات عسکرية وأخذ ورد سياسي بين الاطراف السياسية الترکية المختلفة، لکن کل الاطراف السياسية(بما فيها الانقلابيون أنفسهم) زائد المنظومة العسکرية الترکية کانت تتمسك بالنظام العلماني الذي صاغه مصطفى کمال اتاترك کنسبة ثابتة لايمکن تغييرها او التلاعب بها ولو بصورة شکلية وهذه النقطة کانت عامل قوة وثبات لترکيا سمح لها بأن لاتفقد من رصيدها الاعتباري على الصعيد الاستراتيجي الاقليمي والدولي شيئا، أما فيما يتعلق بالجانب العربي، فإن أي تغيير للنظام کان يصاحبه تغيير لمعظم الاسس و الاعتبارات والمقومات التي بني عليها کدولة ذات شأن، إذ أن الانقلابات العسکرية التي حدثت في مختلف البلدان العربية کانت تلغي اولويات النظام السابق لها وتسعى لفرض مجموعة اولويات جديدة لها کانت معظمها"کما تعودنا دوما من تلك النظم" هياکل شکلية وزخارف لفظية لم يکن لها أي وجود مادي على أرض الواقع وهذا الامر کان في حد ذاته يقدم خدمة مجانية لأعداء وخصوم ومنافسي العرب في لعبة التوازن الدولية کما کان يقوي من مکانة وموقف تلك الاطراف فإنه کان في نفس الوقت يضعف ويخلخل المکانة العربية ويدفعها للوراء أو في أفضل الاحوال يجعلها تتراوح في مکانها.
صحيح ان الحماس والاندفاع الذين ولدهما الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر کانا بدرجة بحيث لم يکن بوسع أي نظام سياسي عربي آخر من اجتيازه أو حتى الوصول الى مستواه، لکن الاصح أيضا هو أن هذا الحماس و الاندفاع لم يکونان بالاساس مبنيين على أرضية صلبة لاتهزها الرياح ومن هنا فإن حدوث هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، قد نزلت کالصاعقة على وجدان واحساس کل عربي حيث ان الاجواء الحماسية والانفعالية قد قادت الجماهير الى فضائات خيالية لاترتکز على مقومات عقلية ومنطقية خصوصا عندما أطل عبد الناصر بنفسه ليعلن نبأ الهزيمة وتحمله المسؤولية الکاملة لها وتنحيه عن الحکم أصاب العرب بحالة من الدوار فاقت وقع أية کارثة أخرى سمع بها لکنها في نفس الوقت أرجعته الى مربع البداية واوضحت له بجلاء ان کل ذلك العالم المخملي الذي شيده عبد الناصر له قد انهار خلال بضعة ساعات فقط!
جمال عبد الناصر الذي تمکن من تحقيق إنجازات إقتصادية وعمرانية کبيرة کتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، لکنه لم يتمکن من أن يخلق حالة من الاستمرارية بذلك الاتجاه ولم تکن الظروف في خدمته بحيث تسمح له أن يحقق إنجازات مماثلة أو أکبر من ذلك وظل الاقتصاد يراوح في مکانه کما أن العلاقات السياسية المتشنجة لنظام حکم عبد الناصر مع غالبية الدول العربية المتمکنة إقتصاديا جعلته في النهاية لايتمکن من توظيفها لصالح مشروعه القومي، ناهيك عن ان الروس أيضا لم يکونوا يقدمون من شئ له إلا وکان ذلك مشروطا ومحددا بالاضافة الى أن الاخطاء المتعددة التي وقعت في هذا العهد ولاسيما تلك المتعلقة منها بصلاح نصر وتجاوزاته الکبيرة قد أضافت هي الاخرى بعدا سلبيا قاتما على مشروع عبد الناصر القومي وقلصت من فضائات توسعه ومد أذرعه باتجاه العمق المصري اولا والعربي ثانيا. اما المعاهدة التي أبرمها جمال عبد الناصر مع السوفيات فقد کانت هي الاخرى في خدمة الاهداف الاستراتيجية السوفيتية وماجناه عبد الناصر منها لم يکن سوى مکاسب تکتيکية محددة وذات سقف مغلق وانها جعلت منه ومن النظم العربية التي تسايره في حالة عداء مستشري مع الغرب. وهذا أيضا ما جعله يفقد تلقائيا جانبا مهما وحيويا في لعبة التوازنات الاستراتيجية ويعتمد على طرف دولي واحد وهو ماکان يعني أن عبد الناصر قد رمى بکل کراته في السلة السوفياتية.
*الامين العام للمجلس العربي سماحة العلامة السيد محمد علي الحسيني
alsayedalhusseini@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق