راسم عبيدات
........لعل أوسلو كان له الكثير من التداعيات السلبية والمخاطر على المشروع الوطني الفلسطيني،وما وصلت إليه الحالة الفلسطينية راهناً من انقسام وتشرذم وضعف داخلي،هي من ثمرات أوسلو،هذه الثمرات بالقدر الذي هتكت ودمرت النسيج المجتمعي الفلسطيني ووحدته السياسية والجغرافية،بذات القدر ان لم يكن على درجة أكثر سوء،تركت بصماتها على الحركة الأسيرة الفلسطينية في السجون والمعتقلات الإسرائيلية،تلك الحركة الأسيرة التي كانت ينظر إليها بهالة من القدسية والاحترام العالي بين أبناء شعبنا الفلسطيني،فالجميع نظر للمعتقلات والسجون الإسرائيلية،على أنها مدارس ثورية وجامعات،وقلاع حصينة من قلاع النضال المتقدمة،تربي وتعلم وتثقف وتخرج قادة في مختلف المجالات والميادين،والذين الكثيرين منهم احتلوا وشغلوا مواقع متقدمة في مختلف التنظيمات الفلسطينية،بل كانوا على رأس هرمها التنظيمي،وهذا كان حين كانت منظمات الأسر خلايا نحل،تتلقف أي معلومة أو تعميم داخلي،وتحرص على الحفاظ عليه حرصها على حدقات عيونها،وتنقل هذه المعلومات والمواد التنظيمية والتثقيفية في معد ومؤخرات الرجال من سجن لآخر،وهنا يتم تلقفها ونسخها وتوزيعها أو تعميمها على المناضلين في زمن قياسي،لم يكن يهمها لا راتب ولا مخصص ولا آخر صرعات الموضة أو الأغاني،كان زمن صعب وكانت رجال قابضة على قيمها وعلى مبادئها،تفرض شروطها ومواقفها على السجن وإدارته،وكان كل أب أو أم تتمنى أن ينال ابنها شرف دخول المعتقل لكي يخرج "زلمه" ولكي تفتخر وتعتز به أمام نساء الحارة والحي والبلدة،بعكس هذه المرحلة والتي أسنعير وأقتبس فيها قول الصديق المناضل والأسير المحرر حسام خضر،أن أرى ابني مستشهداً،أهون علي من أن يسجن في هذه المرحلة الحراشية.
باختصار كانت السجون تشكل نوع من أنواع الحكم والإدارة الذاتية،والحركة الأسيرة بوحدتها وتماسكها وصلابتها وخبرتها وتجاربها،هي الحاكم الآمر والناهي في المعتقلات في كل ما يتعلق بشؤونها الحياتية والاعتقالية.
ولكن مجيء أوسلو أحدث زلزال وإرباك جداً خطير على وفي أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،فاق كل التوقعات والتصورات،فكثير من الحتميات والمسلمات والنصوص المقدسة سقطت،والصدمة التي أحدثها اوسلو عند الحركة الأسيرة الفلسطينية،كانت فوق كل الحسابات والتوقعات،وأوسلو جرف معه الكثير من القيم والمبادئ والمفاهيم،فالحركة الأسيرة لم يدر بخلدها يوماً،أن يجري توقيع أية اتفاقيات أو حلول تتجاوزها وتتجاوز قضيتها ولا تشمل في المقدمة منها تحررها من السجون الإسرائيلية،وهي كانت ترى أن تلك القيادات المفاوضة منها وغير المفاوضة،الفضل في بقائها ووجودها يعود لما قدمه شعبنا الفلسطيني وبالذات الحركة الأسيرة من دماء وتضحيات.
وكم كانت صدمة الحركة الأسيرة،حينما اكتشفت أن قضيتها من ألفها الى يائها تركت وخضعت للشروط والاملاءات الإسرائيلية،فأوسلو الذي قسم الأرض الفلسطينية إلى معازل (ا +ب + ج )،كذلك قسم الحركة الأسيرة وشق وحدتها فهناك أسرى القدس وأسرى الثمانية وأربعين تخلى المفاوض الفلسطيني طواعية عنهم،وسلم بالشروط الإسرائيلية بعدم حقه بالتحدث باسمهم،وهم لا تشملهم أي عمليات إفراج أحادية الجانب أو حسن نوايا،وكذلك أسرى غزة وأسرى الضفة،وهؤلاء أي أسير منهم كما تسميه إسرائيل"يداه ملطختان بالدماء" لن تشمله أية صفقة إفراج أحادية الجانب
هذه التقسيمات والتصنيفات الإسرائيلية للحركة الأسيرة الفلسطينية،وتسليم وقبول الطرف الفلسطيني المفاوض بها،خلق حالة واسعة من الشك والريبة وعدم الثقة بين الحركة الأسيرة الفلسطينية،وحواضنها وقياداتها ومرجعيتها وعناوينها التنظيمية والسياسية في الخارج،وأذكر أن هناك الكثير من الرسائل خرجت من المعتقلات وقلاع الأسر إلى العديد من المرجعيات والعناوين السياسية التي لها علاقة بهذا الجانب،حملت كلاماً قاسياً وإدانة لسلوك ونهج مثل هكذا قيادة تتنكر لنضالات وتضحيات شعبها وأسراها،وتبقيهم رهينة وفريسة للشروط الاسرائيلية.
في مرحلة أوسلو سادت السجون حالة من الفوضى والارباك وعدم وضوح الرؤيا واختلط الحابل بالنابل،وأصبح الشغل الشاغل للحركة الأسيرة هو قضية الإفراجات والهم الذاتي،من تشمله الإفراجات ومن لا تشمله،وأصبح الانتظار والترقب هو سيد الموقف،وهنا علينا أن نقول الحقيقة أن تلك الصفقات كشفت بعض خبايا وعيوب الحركة الأسيرة،فهناك العديد من الأسرى والذين كانوا يقولون لتنظيماتهم في إطار العقلية العربية الاستعراضية و"الفشخرة" والتباهي واستعراض بطولات غير حقيقية بأن عندهم فضايا قتل جنود أو مستوطنين،جاءت صفقات التبادل لتكشف كذبهم وعدم صدقيتهم،فقد وردت أسماؤهم في صفقات الإفراج آحادية الجانب،وبما يؤكد عدم قتلهم لجنود أومستوطنين.
وأنت كنت تجد وتشاهد الصدمة والشعور بالمرارة وفقدان الثقة بشكل واضح على وجوه وفي تعابير أسرى القدس والثمانية وأربعين،فالرفيق الأسير المقدسي ياسين أبو خضير والذي مضى على وجوده في السجن اثنان وعشرون عاماً هو وغيره من الأسرى روا لي ما اعتراهم من مشاعر سلبية تجاه الثورة والأحزاب والفصائل والسلطة،عندما كان يتم إبلاغ أسرى من الضفة وغزة بقرار الإفراج عنهم،وهم كأنهم ليسوا بالمناضلين أو لهم علاقة بالحركة الأسيرة،حتى أنه في أحد المرات شمل قرار الإفراج كل الأسرى الساكنين معه في الغرفة من أسرى الضفة والقطاع،لكي يبقى هو وحيداً في هذه الغرفة،ولك أن تتخيل أي شعور ينتابه في تلك اللحظة وفي مثل هذه الظروف.؟
المهم هنا أن الكثير من المفاهيم الاعتقالية ضربت أو ثلمت،فالحياة الاعتقالية بكل جوانبها تعطلت أو أصبحت تعمل ببطء وضعف شديدين،حتى أن منظمات الحركة الأسيرة بمختلف ألوان طيفها السياسي حلت،وتحولت إلى منظمات ديمقراطية،يحكمها العلاقات الجهوية والشخصية والبلدية،ولا يجري تسيير العمل فيها وفق المنطق الحزبي والتنظيمي،بل وفق منطق الهمة وبحكم العادة وحرارة الانتماء،وحلت المفاهيم والعلاقات الشخصية والعشائرية والجهوية محل المفاهيم والعلاقات التنظيمية،ولم يعد هناك حياة تنظيمية،حيث غابت الجلسات التنظيمية وكذلك المراتب الحزبية والمرجعيات والعناوين،وكتابة التقارير الحزبية والردود عليها،وان وجدت عند بعض التنظيمات،فهي في حدودها الدنيا وليست بالشكل ولا بالزخم المعمول به سابقاً،وما طال الحلقة التنظيمية،طال باقي حلقات وجوانب العمل ألاعتقالي الأخرى،فالعملية الثقافية أصابها الشلل التام،فالنشرات والمجلات الدورية والتعاميم التثقيفية والتعبوية التي كانت تصدرها الفصائل اختفت،وكذلك جلسات الفكر والنقاش،وحتى المطالعة والقراءة أصبحت مقصورة على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة عند كل تنظيم،وكذلك المسابقات الثقافية لم يعد لها وجود،ومكتبة عسقلان التي كان يضرب بها المثل،من حيث أعداد ونوعية الكتب الموجودة،أصابها الإهمال وأصبحت رفوفها مهملة،والكثير من كتبها أخرجها الأسرى إلى خارج المعتقل،على اعتبار أن الأسرى سيتحررون من السجون،وجلسات التعبئة والأمن لم يعد لها وجود،حتى المؤسسة الاعتقالية،أي لجنة الحوار الوطني والخارجية الفصائلية،أصبحت اجتماعاتها متباعدة وتحكمها المزاجية والهمة،وهي أقرب إلى اللجنة الإدارية أكثر منها لجنة اعتقالية تناقش أمور المعتقل وهموم الأسرى،وتضع خطط وبرامج وتصدر تعاميم وبيانات اعتقالية
أما الأوضاع المعيشية فأنت تلحظ أن الصندوق ألاعتقالي العام لم يعد له وجود،والصناديق الفصائلية على هامشها نشئت الخصخصة،وأصبح لكل معتقل"كنتينته " الخاصة منها يقدم الضيافة لضيوفه وزواره من الغرف أو الفصائل الأخرى،بل أنك تجد هناك تقليد هام قد اختفى،ألا وهو جماعية الأكل عند الغرفة الواحدة،فأنت تجد من الأسرى من يأكل لوحده وبنوعية أكل مختلفة عن أخوته المناضلين في نفس الغرفة.
والشيء الخطر جداً هنا أن ما أصاب الحركة الأسيرة من وهن وضعف،وكذلك تفكك هياكلها وأجسامها التنظيمية،كان يغري إدارات السجون بشن حرب شاملة على الحركة الأسيرة الفلسطينية،من أجل سحب الكثير من المنجزات والمكتسبات التي حققتها وعمدتها بالدماء والتضحيات،من خلال سلسلة طويلة من المعارك النضالية التي خاضتها الحركة الأسيرة،وقد وقف على رأسها الإضرابات عن الطعام الجزئية والمفتوحة وغيرها من أشكال وأساليب النضال الاحتجاجية الأخرى،مثل ارجاع وجبات طعام وعدم الخروج لزيارة الأهل،وبادرت إدارات السجون إلى شن معارك جس نبض على الحركة الأسيرة،وبدأت بسحب بعض المنجزات هنا أو هناك،لكي تعمم نجاحها في هذا السجن أو ذاك على باقي السجون والمعتقلات،ولعل التحول الكبير الذي طرأ على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،كان فشل الإضراب المفتوح عن الطعام الذي خاضته الحركة الأسيرة في آب/2004 ،حيث شنت إدارات السجون حملة شاملة على الحركة الأسيرة الفلسطينية،طالت الكثير من منجزات ومكتسبات الحركة الأسيرة ،بل والكثير من حقوقها.ومن المهم جداً قوله أن فشل هذا الإضراب كان له تداعيات على درجة عالية من الخطورة على الحركة الأسيرة الفلسطينية ومن أهمها:-
1. عمدت إدارات السجون إلى تحويل كل قسم من أقسام السجن الواحد الى سجن مستقل وقائم بذاته،حيث ألغت عملية التواصل والزيارات بين الأقسام،وخصصت لكل قسم ساحة نزهة"فورة" خاصة به،وبما يمنع أي شكل من أشكال التواصل بين أقسام السجن المختلفة،وأصبح المعتقل في سجن عسقلان لا يعرف عن معتقل آخر موجود معه في نفس السجن أية معلومات.
2. قامت إدارة السجن بسحب مسؤولية المرافق الاعتقالية من مطبخ ومغسلة وغيرها من الأسرى الأمنيين،وسلمت هذه المسؤولية إلى أسرى جنائيين،أفردت لهم أقسام خاصة في كل سجن من السجون المختلفة،وهذا بدوره أثر على الشروط والظروف الحياتية للمعتقلين،وأصبح الطعام يصنع ويطبخ بطريقة رديئة،ناهيك عن النقص في الكميات والفقر في النوعيات.
3. بدأت بفرض غرامات مالية على الأسرى لأتفه الأسباب تخصم مباشرة من حساباتهم في "الكنتين" وفرضت على الأسرى الزي الخاص بالمعتقل عند زيارات الأهل أو مقابلة المحامين أو الخروج إلى المحاكم،ولم تكتفي بذلك،بل صعدت من هجمتها على المعتقلين،ومنعت زيارات الأهل والمحامين،إلا من خلال زجاج عازل وعبر استخدام الهاتف،وكذلك حدت بشكل كبير من دخول الكتب والملابس من خلال زيارات الأهل،كما ومنعت إدخال أية مواد غذائية من خلال الزيارات،وشددت بشكل كبير من عملية تفتيش واهانة أهالي الأسرى،وحرمت الكثيرين منهم أسرى وأهالي من الزيارات لأسباب وحجج وذرائع واهية.
4 . عمدت إدارة السجون إلى خلق حالة واسعة من عدم الاستقرار في السجون،من خلال القيام بعمليات تنقلات واسعة للأسرى والقيادات الاعتقالية بين السجون وأقسام العزل المختلفة،بهدف منع التواصل بين الحركة الأسيرة والحد من عمليات التنسيق والتشاور بينها،ومنع قيام بنى وهياكل تنظيمية لمختلف الفصائل الاعتقالية،ناهيك عن إبقاء الحركة الأسيرة الفلسطينية في حالة من الدفاع والتراجع.
ولعل المرحلة الأكثر خطورة وسوداوية في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية،هي تلك الممتدة من بعد مرحلة أوسلو ولغاية بداية الانتفاضة الثانية أيلول/2000،ولكن رغم قيام الانتفاضة الثانية،وقدوم الكثير من الأسرى والقيادات الاعتقالية الى السجون،لم تستطع الحركة الأسيرة أن تستعيد أيام مجدها وعنفوانها،بل وجدنا أن الحالة التراجع والتردي في أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية سمة غالبة،حيث تأثيرات ومفاعيل أوسلو لم تنتهي،وهذه التأثيرات والمفاعيل أضيف إليها عوامل سلبية أخرى،ألا وهي حالة الشرذمة والانقسام الفلسطينية،وبما لها من تداعيات وتأثيرات سلبية على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،وهذا عنوان لمرحلة هامة في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية،يجب أن نتناوله لاحقاً في الشرح والتحليل،فرغم أن الحركة الأسيرة رفدت بعشرات القيادات الاعتقالية ودخول ألاف للسجون من بعد انتفاضة أيلول/ 2000،إلا أن ذلك لم يسهم في حل جدي لمعضلة ومشاكل الحركة الأسيرة الفلسطينية،وبالضرورة دراسة كل المتغيرات والتطورات الذاتية والموضوعية المحيطة بالحركة الأسيرة الفلسطينية،لكي نصل إلى مقاربات وإجابات علمية لماذا الإخفاق في خلق حركة أسيرة قوية كما هو الحال قبل مرحلة أوسلو،وهل أوسلو وحده المسؤول عما آلت إليه أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،أم أن عملية التبادل الواسعة التي نفذتها الجبهة الشعبية- القيادة العامة- وبموجبها تحررت أغلب ان لم يكن جميع القيادات الاعتقالية،بما لها من خبرة وتجارب ترك تأثيراته وبصماته على الحركة الأسيرة الفلسطينية،ودخلت الحركة الأسيرة الفلسطينية مرحلة الانتفاضة الأولى كانون ثاني/ 1987 ،بحالة من الفقر في الكادرات والقيادات الاعتقالية الممتلكة للتجربة والخبرة،وهذا عكس نفسه لاحقاً على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية في مرحلة أوسلو ومن بعدها الانقسام،أم أن جملة من العوامل المتداخلة ساهمت في تلك الحالة؟،وهذا ما علينا طرقه في مقالة لاحقة بشكل تفصيلي.
........لعل أوسلو كان له الكثير من التداعيات السلبية والمخاطر على المشروع الوطني الفلسطيني،وما وصلت إليه الحالة الفلسطينية راهناً من انقسام وتشرذم وضعف داخلي،هي من ثمرات أوسلو،هذه الثمرات بالقدر الذي هتكت ودمرت النسيج المجتمعي الفلسطيني ووحدته السياسية والجغرافية،بذات القدر ان لم يكن على درجة أكثر سوء،تركت بصماتها على الحركة الأسيرة الفلسطينية في السجون والمعتقلات الإسرائيلية،تلك الحركة الأسيرة التي كانت ينظر إليها بهالة من القدسية والاحترام العالي بين أبناء شعبنا الفلسطيني،فالجميع نظر للمعتقلات والسجون الإسرائيلية،على أنها مدارس ثورية وجامعات،وقلاع حصينة من قلاع النضال المتقدمة،تربي وتعلم وتثقف وتخرج قادة في مختلف المجالات والميادين،والذين الكثيرين منهم احتلوا وشغلوا مواقع متقدمة في مختلف التنظيمات الفلسطينية،بل كانوا على رأس هرمها التنظيمي،وهذا كان حين كانت منظمات الأسر خلايا نحل،تتلقف أي معلومة أو تعميم داخلي،وتحرص على الحفاظ عليه حرصها على حدقات عيونها،وتنقل هذه المعلومات والمواد التنظيمية والتثقيفية في معد ومؤخرات الرجال من سجن لآخر،وهنا يتم تلقفها ونسخها وتوزيعها أو تعميمها على المناضلين في زمن قياسي،لم يكن يهمها لا راتب ولا مخصص ولا آخر صرعات الموضة أو الأغاني،كان زمن صعب وكانت رجال قابضة على قيمها وعلى مبادئها،تفرض شروطها ومواقفها على السجن وإدارته،وكان كل أب أو أم تتمنى أن ينال ابنها شرف دخول المعتقل لكي يخرج "زلمه" ولكي تفتخر وتعتز به أمام نساء الحارة والحي والبلدة،بعكس هذه المرحلة والتي أسنعير وأقتبس فيها قول الصديق المناضل والأسير المحرر حسام خضر،أن أرى ابني مستشهداً،أهون علي من أن يسجن في هذه المرحلة الحراشية.
باختصار كانت السجون تشكل نوع من أنواع الحكم والإدارة الذاتية،والحركة الأسيرة بوحدتها وتماسكها وصلابتها وخبرتها وتجاربها،هي الحاكم الآمر والناهي في المعتقلات في كل ما يتعلق بشؤونها الحياتية والاعتقالية.
ولكن مجيء أوسلو أحدث زلزال وإرباك جداً خطير على وفي أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،فاق كل التوقعات والتصورات،فكثير من الحتميات والمسلمات والنصوص المقدسة سقطت،والصدمة التي أحدثها اوسلو عند الحركة الأسيرة الفلسطينية،كانت فوق كل الحسابات والتوقعات،وأوسلو جرف معه الكثير من القيم والمبادئ والمفاهيم،فالحركة الأسيرة لم يدر بخلدها يوماً،أن يجري توقيع أية اتفاقيات أو حلول تتجاوزها وتتجاوز قضيتها ولا تشمل في المقدمة منها تحررها من السجون الإسرائيلية،وهي كانت ترى أن تلك القيادات المفاوضة منها وغير المفاوضة،الفضل في بقائها ووجودها يعود لما قدمه شعبنا الفلسطيني وبالذات الحركة الأسيرة من دماء وتضحيات.
وكم كانت صدمة الحركة الأسيرة،حينما اكتشفت أن قضيتها من ألفها الى يائها تركت وخضعت للشروط والاملاءات الإسرائيلية،فأوسلو الذي قسم الأرض الفلسطينية إلى معازل (ا +ب + ج )،كذلك قسم الحركة الأسيرة وشق وحدتها فهناك أسرى القدس وأسرى الثمانية وأربعين تخلى المفاوض الفلسطيني طواعية عنهم،وسلم بالشروط الإسرائيلية بعدم حقه بالتحدث باسمهم،وهم لا تشملهم أي عمليات إفراج أحادية الجانب أو حسن نوايا،وكذلك أسرى غزة وأسرى الضفة،وهؤلاء أي أسير منهم كما تسميه إسرائيل"يداه ملطختان بالدماء" لن تشمله أية صفقة إفراج أحادية الجانب
هذه التقسيمات والتصنيفات الإسرائيلية للحركة الأسيرة الفلسطينية،وتسليم وقبول الطرف الفلسطيني المفاوض بها،خلق حالة واسعة من الشك والريبة وعدم الثقة بين الحركة الأسيرة الفلسطينية،وحواضنها وقياداتها ومرجعيتها وعناوينها التنظيمية والسياسية في الخارج،وأذكر أن هناك الكثير من الرسائل خرجت من المعتقلات وقلاع الأسر إلى العديد من المرجعيات والعناوين السياسية التي لها علاقة بهذا الجانب،حملت كلاماً قاسياً وإدانة لسلوك ونهج مثل هكذا قيادة تتنكر لنضالات وتضحيات شعبها وأسراها،وتبقيهم رهينة وفريسة للشروط الاسرائيلية.
في مرحلة أوسلو سادت السجون حالة من الفوضى والارباك وعدم وضوح الرؤيا واختلط الحابل بالنابل،وأصبح الشغل الشاغل للحركة الأسيرة هو قضية الإفراجات والهم الذاتي،من تشمله الإفراجات ومن لا تشمله،وأصبح الانتظار والترقب هو سيد الموقف،وهنا علينا أن نقول الحقيقة أن تلك الصفقات كشفت بعض خبايا وعيوب الحركة الأسيرة،فهناك العديد من الأسرى والذين كانوا يقولون لتنظيماتهم في إطار العقلية العربية الاستعراضية و"الفشخرة" والتباهي واستعراض بطولات غير حقيقية بأن عندهم فضايا قتل جنود أو مستوطنين،جاءت صفقات التبادل لتكشف كذبهم وعدم صدقيتهم،فقد وردت أسماؤهم في صفقات الإفراج آحادية الجانب،وبما يؤكد عدم قتلهم لجنود أومستوطنين.
وأنت كنت تجد وتشاهد الصدمة والشعور بالمرارة وفقدان الثقة بشكل واضح على وجوه وفي تعابير أسرى القدس والثمانية وأربعين،فالرفيق الأسير المقدسي ياسين أبو خضير والذي مضى على وجوده في السجن اثنان وعشرون عاماً هو وغيره من الأسرى روا لي ما اعتراهم من مشاعر سلبية تجاه الثورة والأحزاب والفصائل والسلطة،عندما كان يتم إبلاغ أسرى من الضفة وغزة بقرار الإفراج عنهم،وهم كأنهم ليسوا بالمناضلين أو لهم علاقة بالحركة الأسيرة،حتى أنه في أحد المرات شمل قرار الإفراج كل الأسرى الساكنين معه في الغرفة من أسرى الضفة والقطاع،لكي يبقى هو وحيداً في هذه الغرفة،ولك أن تتخيل أي شعور ينتابه في تلك اللحظة وفي مثل هذه الظروف.؟
المهم هنا أن الكثير من المفاهيم الاعتقالية ضربت أو ثلمت،فالحياة الاعتقالية بكل جوانبها تعطلت أو أصبحت تعمل ببطء وضعف شديدين،حتى أن منظمات الحركة الأسيرة بمختلف ألوان طيفها السياسي حلت،وتحولت إلى منظمات ديمقراطية،يحكمها العلاقات الجهوية والشخصية والبلدية،ولا يجري تسيير العمل فيها وفق المنطق الحزبي والتنظيمي،بل وفق منطق الهمة وبحكم العادة وحرارة الانتماء،وحلت المفاهيم والعلاقات الشخصية والعشائرية والجهوية محل المفاهيم والعلاقات التنظيمية،ولم يعد هناك حياة تنظيمية،حيث غابت الجلسات التنظيمية وكذلك المراتب الحزبية والمرجعيات والعناوين،وكتابة التقارير الحزبية والردود عليها،وان وجدت عند بعض التنظيمات،فهي في حدودها الدنيا وليست بالشكل ولا بالزخم المعمول به سابقاً،وما طال الحلقة التنظيمية،طال باقي حلقات وجوانب العمل ألاعتقالي الأخرى،فالعملية الثقافية أصابها الشلل التام،فالنشرات والمجلات الدورية والتعاميم التثقيفية والتعبوية التي كانت تصدرها الفصائل اختفت،وكذلك جلسات الفكر والنقاش،وحتى المطالعة والقراءة أصبحت مقصورة على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة عند كل تنظيم،وكذلك المسابقات الثقافية لم يعد لها وجود،ومكتبة عسقلان التي كان يضرب بها المثل،من حيث أعداد ونوعية الكتب الموجودة،أصابها الإهمال وأصبحت رفوفها مهملة،والكثير من كتبها أخرجها الأسرى إلى خارج المعتقل،على اعتبار أن الأسرى سيتحررون من السجون،وجلسات التعبئة والأمن لم يعد لها وجود،حتى المؤسسة الاعتقالية،أي لجنة الحوار الوطني والخارجية الفصائلية،أصبحت اجتماعاتها متباعدة وتحكمها المزاجية والهمة،وهي أقرب إلى اللجنة الإدارية أكثر منها لجنة اعتقالية تناقش أمور المعتقل وهموم الأسرى،وتضع خطط وبرامج وتصدر تعاميم وبيانات اعتقالية
أما الأوضاع المعيشية فأنت تلحظ أن الصندوق ألاعتقالي العام لم يعد له وجود،والصناديق الفصائلية على هامشها نشئت الخصخصة،وأصبح لكل معتقل"كنتينته " الخاصة منها يقدم الضيافة لضيوفه وزواره من الغرف أو الفصائل الأخرى،بل أنك تجد هناك تقليد هام قد اختفى،ألا وهو جماعية الأكل عند الغرفة الواحدة،فأنت تجد من الأسرى من يأكل لوحده وبنوعية أكل مختلفة عن أخوته المناضلين في نفس الغرفة.
والشيء الخطر جداً هنا أن ما أصاب الحركة الأسيرة من وهن وضعف،وكذلك تفكك هياكلها وأجسامها التنظيمية،كان يغري إدارات السجون بشن حرب شاملة على الحركة الأسيرة الفلسطينية،من أجل سحب الكثير من المنجزات والمكتسبات التي حققتها وعمدتها بالدماء والتضحيات،من خلال سلسلة طويلة من المعارك النضالية التي خاضتها الحركة الأسيرة،وقد وقف على رأسها الإضرابات عن الطعام الجزئية والمفتوحة وغيرها من أشكال وأساليب النضال الاحتجاجية الأخرى،مثل ارجاع وجبات طعام وعدم الخروج لزيارة الأهل،وبادرت إدارات السجون إلى شن معارك جس نبض على الحركة الأسيرة،وبدأت بسحب بعض المنجزات هنا أو هناك،لكي تعمم نجاحها في هذا السجن أو ذاك على باقي السجون والمعتقلات،ولعل التحول الكبير الذي طرأ على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،كان فشل الإضراب المفتوح عن الطعام الذي خاضته الحركة الأسيرة في آب/2004 ،حيث شنت إدارات السجون حملة شاملة على الحركة الأسيرة الفلسطينية،طالت الكثير من منجزات ومكتسبات الحركة الأسيرة ،بل والكثير من حقوقها.ومن المهم جداً قوله أن فشل هذا الإضراب كان له تداعيات على درجة عالية من الخطورة على الحركة الأسيرة الفلسطينية ومن أهمها:-
1. عمدت إدارات السجون إلى تحويل كل قسم من أقسام السجن الواحد الى سجن مستقل وقائم بذاته،حيث ألغت عملية التواصل والزيارات بين الأقسام،وخصصت لكل قسم ساحة نزهة"فورة" خاصة به،وبما يمنع أي شكل من أشكال التواصل بين أقسام السجن المختلفة،وأصبح المعتقل في سجن عسقلان لا يعرف عن معتقل آخر موجود معه في نفس السجن أية معلومات.
2. قامت إدارة السجن بسحب مسؤولية المرافق الاعتقالية من مطبخ ومغسلة وغيرها من الأسرى الأمنيين،وسلمت هذه المسؤولية إلى أسرى جنائيين،أفردت لهم أقسام خاصة في كل سجن من السجون المختلفة،وهذا بدوره أثر على الشروط والظروف الحياتية للمعتقلين،وأصبح الطعام يصنع ويطبخ بطريقة رديئة،ناهيك عن النقص في الكميات والفقر في النوعيات.
3. بدأت بفرض غرامات مالية على الأسرى لأتفه الأسباب تخصم مباشرة من حساباتهم في "الكنتين" وفرضت على الأسرى الزي الخاص بالمعتقل عند زيارات الأهل أو مقابلة المحامين أو الخروج إلى المحاكم،ولم تكتفي بذلك،بل صعدت من هجمتها على المعتقلين،ومنعت زيارات الأهل والمحامين،إلا من خلال زجاج عازل وعبر استخدام الهاتف،وكذلك حدت بشكل كبير من دخول الكتب والملابس من خلال زيارات الأهل،كما ومنعت إدخال أية مواد غذائية من خلال الزيارات،وشددت بشكل كبير من عملية تفتيش واهانة أهالي الأسرى،وحرمت الكثيرين منهم أسرى وأهالي من الزيارات لأسباب وحجج وذرائع واهية.
4 . عمدت إدارة السجون إلى خلق حالة واسعة من عدم الاستقرار في السجون،من خلال القيام بعمليات تنقلات واسعة للأسرى والقيادات الاعتقالية بين السجون وأقسام العزل المختلفة،بهدف منع التواصل بين الحركة الأسيرة والحد من عمليات التنسيق والتشاور بينها،ومنع قيام بنى وهياكل تنظيمية لمختلف الفصائل الاعتقالية،ناهيك عن إبقاء الحركة الأسيرة الفلسطينية في حالة من الدفاع والتراجع.
ولعل المرحلة الأكثر خطورة وسوداوية في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية،هي تلك الممتدة من بعد مرحلة أوسلو ولغاية بداية الانتفاضة الثانية أيلول/2000،ولكن رغم قيام الانتفاضة الثانية،وقدوم الكثير من الأسرى والقيادات الاعتقالية الى السجون،لم تستطع الحركة الأسيرة أن تستعيد أيام مجدها وعنفوانها،بل وجدنا أن الحالة التراجع والتردي في أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية سمة غالبة،حيث تأثيرات ومفاعيل أوسلو لم تنتهي،وهذه التأثيرات والمفاعيل أضيف إليها عوامل سلبية أخرى،ألا وهي حالة الشرذمة والانقسام الفلسطينية،وبما لها من تداعيات وتأثيرات سلبية على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،وهذا عنوان لمرحلة هامة في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية،يجب أن نتناوله لاحقاً في الشرح والتحليل،فرغم أن الحركة الأسيرة رفدت بعشرات القيادات الاعتقالية ودخول ألاف للسجون من بعد انتفاضة أيلول/ 2000،إلا أن ذلك لم يسهم في حل جدي لمعضلة ومشاكل الحركة الأسيرة الفلسطينية،وبالضرورة دراسة كل المتغيرات والتطورات الذاتية والموضوعية المحيطة بالحركة الأسيرة الفلسطينية،لكي نصل إلى مقاربات وإجابات علمية لماذا الإخفاق في خلق حركة أسيرة قوية كما هو الحال قبل مرحلة أوسلو،وهل أوسلو وحده المسؤول عما آلت إليه أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية،أم أن عملية التبادل الواسعة التي نفذتها الجبهة الشعبية- القيادة العامة- وبموجبها تحررت أغلب ان لم يكن جميع القيادات الاعتقالية،بما لها من خبرة وتجارب ترك تأثيراته وبصماته على الحركة الأسيرة الفلسطينية،ودخلت الحركة الأسيرة الفلسطينية مرحلة الانتفاضة الأولى كانون ثاني/ 1987 ،بحالة من الفقر في الكادرات والقيادات الاعتقالية الممتلكة للتجربة والخبرة،وهذا عكس نفسه لاحقاً على أوضاع الحركة الأسيرة الفلسطينية في مرحلة أوسلو ومن بعدها الانقسام،أم أن جملة من العوامل المتداخلة ساهمت في تلك الحالة؟،وهذا ما علينا طرقه في مقالة لاحقة بشكل تفصيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق