نبيل عودة
* هل هو الاهمال المعيب أم المؤامرة المعيبة وراء التغييب الكامل خلال ستين عاماً لدور ابي عاطف؟ هل البلدية قادرة على تصحيح هذا الخطأ المخجل ؟!
منذ بداية وعيي، كان إسم يوسف الفاهوم يتردد على لسان والدي واعمامي من دار عودة، بصفته المنقذ لأهل الناصرة من التشريد ومن مواجهة آلة الحرب الصهيونية، التي لم تستطع كل الجيوش العربية مواجهتها وهزمها في حرب العام 1948.
اعرف من ذكريات والدي واعمامي ان الجيش اليهودي الذي دخل الناصرة، قام بعمليات نهب وسلب للبيوت الواقعة على اطراف المدينة خاصة منطقة الخانوق ( المدخل الشمالي) والتي لجأ اهلها الى دير مار يوسف(اليوم مدرسة شاملة متطورة) ومنهم اقاربي. ولكن مصدر موثوق لا يريد أن أذكر اسمه ، قال لي بعد ان نشرت هذا المقال بصحيفة "الأهالي" المحلية ، قال لي ان الجيش حقا دخل بعض المنازل للحصول على بعض الأغذية ولكن النهب الحقيقي للأثاث ولوازم البيت قام به مواطنين عرب ...
بالمقارنة بين مصير الناصرة والمصير الماساوي لمدن حيفا و طبريا و صفد و قرى"صفورية" والمجيدل ومعلول القريبة من الناصرة، تتضح صورة مذهلة للنكبة الفلسطينية..في ذلك الوقت المبكر !!
ومن هنا تتضح حكمة وصواب موقف رئيس بلدية الناصرة عام 1948 يوسف الفاهوم وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح والصعب في اكثر الاوقات سواداً على الشعب الفلسطيني، وعلى أهل مدينته- الناصرة. ولا بد من سؤال صعب ، هل كانت مدينة الناصرة تملك القوة لصد احتلالها ؟ وهل كان الجبيش العراقي القريب مننت الناصرة جاهزا للدفاع عن المدينة ؟ وهل كانت لدي الفرق المسلحة العربية في ذلك الوقت القدرة على المبادرة .. والحديث عن 16 تموز 1948 ، اب بعد ان كانت الحركة الصهيونية قد أعلنت عن قيام دولة اسرائيل وحصلت على اعتراف المجموعة الدولية ، وصار واضحا حجم الهزيمة العربية والمصير الأسود للمشردين الفلسطينيين وللمدن الفلسطينية ، يافا والرملة واللد وحيفا وعكا وطبريا وصفد والمجدل ، وأن الجيوش العربية لم تتلق الأوامر للدفاع أو تقديم المساعدة العسكرية للمقاتلين الفلسطينيين ، وانها ممنوعة من دخول المناطق التي خصصت للدولة العبرية حسب قرار التقسيم ، والمؤسف ان الباحثين العرب مقصرون في كشف الحقائق المذهلة والمؤلمة في التاريخ الفلسطيني ، وما يكشفة مؤرخون وباحثين يهود أمثال ايلان بابه وهيلل كوهن وغيرهم أكثر صدقا وأقرب للحقيقة من كل الكتابات التهريجية العربية .. وتشكل ادانة للحركة الصهيونية أفضل من كل الحقائق العربية .
لو تصرفت الناصرة بناء على أوامر المفتي الحاج أمين الحسيني ، الذي غادر فلسطين منذ عام 1937 واستقر في القاهرة ، لكان سكان الناصرة وقراها مبعثرون في المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان والأردن ... ولبقيت فلسطين بلا نواطير الوطن المتمسكين بتراب وطنهم ، والصامدين ضد العنف والإضطهاد والإرهاب ومحاولات طمس هويتهم وتراثهم ولغتهم .
كل الدلائل تشير الى ان قرار الاستسلام ، والوصول الى وثيقة رسمية لشروط الإستسلام تضمن حقوقا أولية وتوفر الحق بالبقاء في الوطن ، التي قام فيها يوسف الفاهوم ، أنقذت الوجود الفلسطيني داخل الوطن ، وتحول العرب في داخل اسرائيل الى قوة فلسطينية تقلق الحركة الصهيونية وتقف حجر عثرة في وجه مشاريعها لجعل الدولة العبرية وقفا على اليهود فقط.
لا شك لدي ان قرار التوقيع على الإستسلام كان الخيار الأفضل وبعيد الرؤية .
وما زلت حتى اليوم اتساءل عن غياب اسم هذا القائد العَلَم يوسف محمد الفاهوم، من احداثيات الناصرة، وعدم جعله اسماً مرادفاً لاسم الناصرة في وعي الاجيال الجديدة التي تكاد تجهل المصير الاسود الذي كان ينتظر هذه المدينة واهلها، لولا القرار الحكيم والشجاع لرئيس بلديتها في عام النكبة، بأن يمنع احتلال الناصرة عسكرياً بالقوة، حتى يمنع مصيراً مشابهاً لمصير العرب في حيفا ومصير اكثر من 500 بلدة عربية هدمت وهجرت وارتكبت فيها المجازر الرهيبة.
كان قراره عكس كل توقعات القيادات "الوطنية" التي تمثلت بمفتي فلسطين الغائب في القاهرة، آمناً على نفسه، ومكتفياً باصدار التوجيهات التي لا علاقة لها بواقع الشعب الفلسطيني. لذا ليس بالصدفة، وهذا اعرفه من ذكريات كبار السن في عائلتنا، ان يوسف الفاهوم كان معارضاً ومنتقداً لسياسات الحاج امين .
صحيح انني لست مؤرخاً، ولكني ابن لهذه المدينة، التي انقذتها حكمة يوسف الفاهوم بقراره الصعب، التفاوض مع المحتل اليهودي على التسليم والحفاظ على حقوق اهل الناصرة، وعدم تهجيرهم، كما كانت تصل الاخبار المرعبة من سائر أنحاء فلسطين .
اعود بخيالي الى الوراء... وارى مصير الناصرة. مثل مصير جارتها صفورية من الشمال ومصير جارتها المجيدل من الجنوب ومثل مصير حيفا وطبريا وصفد وعكا ويافا . ان مقاتلي صفورية ومقاتلي المجيدل أبلوا بلاء بطولياً. ويبقى السؤال هل كانت قوة عربية قادرة على حماية بطولات شعب فلسطين في مقاومة عدو مدجج بالسلاح استطاع (رغم انه ليس دولة)...ان يجند مقاتلين اكثر من كل الجيوش العربية وان يمتلك سلاحاً جوياً افضل من طائرات الاستعراض العربية؟!
ونعرف اكثر من ذلك، ان الجيوش العربية التي قاتلت في فلسطين، لم تدخل المناطق ،التي أُقرت للدولة اليهودية ، حسب قرار الامم المتحدة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
هناك قصص كثيرة سمعتها من المسنين في عائلتي عن "ماكو اوامر" حتى لانقاذ مقاتلين صامدين ، كما حدث في الفولة ( العفولة ) وكان الجيش العراقي قرب جنين .. وكان رد القائد العراقي على طلب النجدة من مقاتلي الفولة البواسل " موكو أوامر " . أي ان الجيوش العربية جاءت للاستعراض وعمليا " موكو أوامر" تعني الموت للمقاتلين الفلسطينيين من جهة وتنفيذ قرار التقسيم من جهة أخرى .والغريب ان دولا عربية سلمت سلمت لليهود خلال "الحرب"(!!) وبعد الحرب مناطق شاسعة من الارض الفلسطينية، حتى التي خصصت للدولة العربية حسب قرار التقسيم .
اذن التوقيع على استسلام الناصرة كان انقاذاً لها ولأهلها،بدونه كانت الناصرة اليوم نسخة مكررة عن طبريا وصفد مثلا وليس حصرا ... مدينة يهودية مع كنائس مسيحية يديرها بعض الكهنة، حتى ليس من الكهنة العرب ، وجوامع مهدمة تبكي أهلها.
وقد استطاع يوسف الفاهوم ، أن يحصل على اتفاق استسلام يشمل بنودا تحمي أهل الناصرة وأملاكهم ، والأماكن المقدسة في المدينة وأن يعامل سكان الناصرة بمساواة كاملة .جاء في نص الاتفاق : " يتعهد القائد العسكري حاييم لاسكوف ، بصفته ممثلا لحكومة اسرائيل المؤقتة ،أن يحمي الأماكن المقدسة ، الكنائس ، الأديرة وسائر الأماكن الدينية المسيحية لمدينة الناصرة ومحيطها" : وبندا هاما آخر جاء فيه : " ان حكومة اسرائيل ، الممثلة بالقائد العسكري ، تعترف بحق مواطني الناصرة بالمساواة في الحقوق المدنية مع كل مواطني اسرائيل ، دون فرق في الدين أو الجنس أو اللغة ". وكان بندا يشترط ان يواصل رئيس البلدية يوسف الفاهوم ادارة الشؤون البلدية لصالح السكان المدنيين في الناصرة .وقد استطاع منع التسيب العسكري داخل الناصرة ، ومنع الإعتداء على حرمات البيوت للتفتيش عن أسلحة مثلا الا بوجود ممثل لرئيس البلدية .
قد يبدو ما طرحته استسلاما ... وهو موقف صعب بكل المقاييس ، ولكن الحقيقة المرة ان الناصرة وقراها ( كما هي الحال في سائر فلسطين )، تركت فريسة للأقوى دون أن يكون هناك الا خيار آخر رهيب : التشريد أو الموت !!
من المؤكد، أن تهجير الناصرة وما كان يرافق التهجير من مآسي ، يعني بقاء مجموعات سكانية فلسطينية مبعثرة بلا عمود فقري يسهل تهجيرها او تذويبها، وانهاء كامل لبقاء عربي داخل اسرائيل... وغياب مدينة مركزية ( مثل الناصرة ) التي تحولت الى علم نضالي وعاصمة سياسية للجماهير العربية !!
نحن نحاول ان نمحو من ذاكرتنا، انصع ما في تاريخنا..بدل ان نحول اسم يوسف الفاهوم الى نموذج للقائد الوطني، ومقياساً انسانياً للمخلص لقضايا شعبه..اجد اننا نُغيِّب هذه الاسماء، وكأنها تشكل "خطراً" على اسماء خَرَّبت ومزقت ولم تخدم أي قضية وطنية او سياسية او اجتماعية...انما خدمت اسمها فقط، ولو تعمقنا بفكر نقي وعقل سليم، لأكتشفنا عمق الخداع الذي عشناه وما زلنا نعيش بقاياه، في الموقف من التاريخ الماضي خلال ستين عاماً.
حان الوقت ان تصبح الناصرة، باحيائها وشوارعها ومدارسها ومؤسساتها سجلاً للأسماء العظيمة، ومبعثاً لفخرنا بمدينتنا وقوميتنا.
وعلى رأس هذا السجل، شخصية انقذت الناصرة، والناصرة تعني المقياس البارومتري للواقع العربي في اسرائيل، منذ النكبة وحتى اليوم.
الا يستحق مثل هذا الانسان، بحسه الوطني، وبعد نظره، وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح في اكثر اللحظات صعوبة ومأساوية، محكماً عقله وحكمته، الا يستحق ان نطلق اسمه على مدرسة، على شارع، على مؤسسة تعليمية عليا، لماذا نغيّبه في طي النسيان؟ هل هذه وطنية؟!
بل الا يستحق ان نسمي باسمه اكثر من موقع واكثر من مكان؟!
اليس من العار أن نتجاهل شخصيات نصراوية اخرى، رؤساء بلديات، مربين ، ادباء وعلماء انجزوا لمدينتهم وللعالم أجمع، انجازات ثقافية وعلمية وادارية، لا يمكن الاستهانة بها؟
هل نخجل ان لأبناء الناصرة مثل هذه الانجازات؟! كيف يمكن تفسير ان الناصرة لم تخلِّد ذكرى شخصية هامة وحاسمة في بقاء الناصرة، مدينة عربية؟!
اليس من العار ان الاجيال الجديدة لم تسمع بهذا الزعيم النصراوي؟! يوسف الفاهوم توفي عام 1969، أي مضت اربعة عقود على وفاته، وهي مناسبة لنحتفل بشخصية مركزية في حياة مدينة الناصرة.
ونكرمه، ونكرم أبناء عائلته، الذين اثبتوا انهم ظلوا مخلصين لتاريخ يوسف الفاهوم وصلابته وعقلانيته وبعد نظره.
لنجعل من ذكرى يوسف الفاهوم، تقليداً وطنياً نصراوياً وفلسطينياً، نجدد فيه التمسك بالعقلانية التي ميزته وبالقدرة على رؤية الاتجاه الصحيح في احلك ساعات الظلام.
لنجعل من سيرة حياة يوسف الفاهوم، ومواقفه، نموذجاً للوطنية الصادقة، وجزءاً من تاريخ هذه المدينة وصمودها واستمرارها.
nabiloudeh@gmail.com
* هل هو الاهمال المعيب أم المؤامرة المعيبة وراء التغييب الكامل خلال ستين عاماً لدور ابي عاطف؟ هل البلدية قادرة على تصحيح هذا الخطأ المخجل ؟!
منذ بداية وعيي، كان إسم يوسف الفاهوم يتردد على لسان والدي واعمامي من دار عودة، بصفته المنقذ لأهل الناصرة من التشريد ومن مواجهة آلة الحرب الصهيونية، التي لم تستطع كل الجيوش العربية مواجهتها وهزمها في حرب العام 1948.
اعرف من ذكريات والدي واعمامي ان الجيش اليهودي الذي دخل الناصرة، قام بعمليات نهب وسلب للبيوت الواقعة على اطراف المدينة خاصة منطقة الخانوق ( المدخل الشمالي) والتي لجأ اهلها الى دير مار يوسف(اليوم مدرسة شاملة متطورة) ومنهم اقاربي. ولكن مصدر موثوق لا يريد أن أذكر اسمه ، قال لي بعد ان نشرت هذا المقال بصحيفة "الأهالي" المحلية ، قال لي ان الجيش حقا دخل بعض المنازل للحصول على بعض الأغذية ولكن النهب الحقيقي للأثاث ولوازم البيت قام به مواطنين عرب ...
بالمقارنة بين مصير الناصرة والمصير الماساوي لمدن حيفا و طبريا و صفد و قرى"صفورية" والمجيدل ومعلول القريبة من الناصرة، تتضح صورة مذهلة للنكبة الفلسطينية..في ذلك الوقت المبكر !!
ومن هنا تتضح حكمة وصواب موقف رئيس بلدية الناصرة عام 1948 يوسف الفاهوم وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح والصعب في اكثر الاوقات سواداً على الشعب الفلسطيني، وعلى أهل مدينته- الناصرة. ولا بد من سؤال صعب ، هل كانت مدينة الناصرة تملك القوة لصد احتلالها ؟ وهل كان الجبيش العراقي القريب مننت الناصرة جاهزا للدفاع عن المدينة ؟ وهل كانت لدي الفرق المسلحة العربية في ذلك الوقت القدرة على المبادرة .. والحديث عن 16 تموز 1948 ، اب بعد ان كانت الحركة الصهيونية قد أعلنت عن قيام دولة اسرائيل وحصلت على اعتراف المجموعة الدولية ، وصار واضحا حجم الهزيمة العربية والمصير الأسود للمشردين الفلسطينيين وللمدن الفلسطينية ، يافا والرملة واللد وحيفا وعكا وطبريا وصفد والمجدل ، وأن الجيوش العربية لم تتلق الأوامر للدفاع أو تقديم المساعدة العسكرية للمقاتلين الفلسطينيين ، وانها ممنوعة من دخول المناطق التي خصصت للدولة العبرية حسب قرار التقسيم ، والمؤسف ان الباحثين العرب مقصرون في كشف الحقائق المذهلة والمؤلمة في التاريخ الفلسطيني ، وما يكشفة مؤرخون وباحثين يهود أمثال ايلان بابه وهيلل كوهن وغيرهم أكثر صدقا وأقرب للحقيقة من كل الكتابات التهريجية العربية .. وتشكل ادانة للحركة الصهيونية أفضل من كل الحقائق العربية .
لو تصرفت الناصرة بناء على أوامر المفتي الحاج أمين الحسيني ، الذي غادر فلسطين منذ عام 1937 واستقر في القاهرة ، لكان سكان الناصرة وقراها مبعثرون في المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان والأردن ... ولبقيت فلسطين بلا نواطير الوطن المتمسكين بتراب وطنهم ، والصامدين ضد العنف والإضطهاد والإرهاب ومحاولات طمس هويتهم وتراثهم ولغتهم .
كل الدلائل تشير الى ان قرار الاستسلام ، والوصول الى وثيقة رسمية لشروط الإستسلام تضمن حقوقا أولية وتوفر الحق بالبقاء في الوطن ، التي قام فيها يوسف الفاهوم ، أنقذت الوجود الفلسطيني داخل الوطن ، وتحول العرب في داخل اسرائيل الى قوة فلسطينية تقلق الحركة الصهيونية وتقف حجر عثرة في وجه مشاريعها لجعل الدولة العبرية وقفا على اليهود فقط.
لا شك لدي ان قرار التوقيع على الإستسلام كان الخيار الأفضل وبعيد الرؤية .
وما زلت حتى اليوم اتساءل عن غياب اسم هذا القائد العَلَم يوسف محمد الفاهوم، من احداثيات الناصرة، وعدم جعله اسماً مرادفاً لاسم الناصرة في وعي الاجيال الجديدة التي تكاد تجهل المصير الاسود الذي كان ينتظر هذه المدينة واهلها، لولا القرار الحكيم والشجاع لرئيس بلديتها في عام النكبة، بأن يمنع احتلال الناصرة عسكرياً بالقوة، حتى يمنع مصيراً مشابهاً لمصير العرب في حيفا ومصير اكثر من 500 بلدة عربية هدمت وهجرت وارتكبت فيها المجازر الرهيبة.
كان قراره عكس كل توقعات القيادات "الوطنية" التي تمثلت بمفتي فلسطين الغائب في القاهرة، آمناً على نفسه، ومكتفياً باصدار التوجيهات التي لا علاقة لها بواقع الشعب الفلسطيني. لذا ليس بالصدفة، وهذا اعرفه من ذكريات كبار السن في عائلتنا، ان يوسف الفاهوم كان معارضاً ومنتقداً لسياسات الحاج امين .
صحيح انني لست مؤرخاً، ولكني ابن لهذه المدينة، التي انقذتها حكمة يوسف الفاهوم بقراره الصعب، التفاوض مع المحتل اليهودي على التسليم والحفاظ على حقوق اهل الناصرة، وعدم تهجيرهم، كما كانت تصل الاخبار المرعبة من سائر أنحاء فلسطين .
اعود بخيالي الى الوراء... وارى مصير الناصرة. مثل مصير جارتها صفورية من الشمال ومصير جارتها المجيدل من الجنوب ومثل مصير حيفا وطبريا وصفد وعكا ويافا . ان مقاتلي صفورية ومقاتلي المجيدل أبلوا بلاء بطولياً. ويبقى السؤال هل كانت قوة عربية قادرة على حماية بطولات شعب فلسطين في مقاومة عدو مدجج بالسلاح استطاع (رغم انه ليس دولة)...ان يجند مقاتلين اكثر من كل الجيوش العربية وان يمتلك سلاحاً جوياً افضل من طائرات الاستعراض العربية؟!
ونعرف اكثر من ذلك، ان الجيوش العربية التي قاتلت في فلسطين، لم تدخل المناطق ،التي أُقرت للدولة اليهودية ، حسب قرار الامم المتحدة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود.
هناك قصص كثيرة سمعتها من المسنين في عائلتي عن "ماكو اوامر" حتى لانقاذ مقاتلين صامدين ، كما حدث في الفولة ( العفولة ) وكان الجيش العراقي قرب جنين .. وكان رد القائد العراقي على طلب النجدة من مقاتلي الفولة البواسل " موكو أوامر " . أي ان الجيوش العربية جاءت للاستعراض وعمليا " موكو أوامر" تعني الموت للمقاتلين الفلسطينيين من جهة وتنفيذ قرار التقسيم من جهة أخرى .والغريب ان دولا عربية سلمت سلمت لليهود خلال "الحرب"(!!) وبعد الحرب مناطق شاسعة من الارض الفلسطينية، حتى التي خصصت للدولة العربية حسب قرار التقسيم .
اذن التوقيع على استسلام الناصرة كان انقاذاً لها ولأهلها،بدونه كانت الناصرة اليوم نسخة مكررة عن طبريا وصفد مثلا وليس حصرا ... مدينة يهودية مع كنائس مسيحية يديرها بعض الكهنة، حتى ليس من الكهنة العرب ، وجوامع مهدمة تبكي أهلها.
وقد استطاع يوسف الفاهوم ، أن يحصل على اتفاق استسلام يشمل بنودا تحمي أهل الناصرة وأملاكهم ، والأماكن المقدسة في المدينة وأن يعامل سكان الناصرة بمساواة كاملة .جاء في نص الاتفاق : " يتعهد القائد العسكري حاييم لاسكوف ، بصفته ممثلا لحكومة اسرائيل المؤقتة ،أن يحمي الأماكن المقدسة ، الكنائس ، الأديرة وسائر الأماكن الدينية المسيحية لمدينة الناصرة ومحيطها" : وبندا هاما آخر جاء فيه : " ان حكومة اسرائيل ، الممثلة بالقائد العسكري ، تعترف بحق مواطني الناصرة بالمساواة في الحقوق المدنية مع كل مواطني اسرائيل ، دون فرق في الدين أو الجنس أو اللغة ". وكان بندا يشترط ان يواصل رئيس البلدية يوسف الفاهوم ادارة الشؤون البلدية لصالح السكان المدنيين في الناصرة .وقد استطاع منع التسيب العسكري داخل الناصرة ، ومنع الإعتداء على حرمات البيوت للتفتيش عن أسلحة مثلا الا بوجود ممثل لرئيس البلدية .
قد يبدو ما طرحته استسلاما ... وهو موقف صعب بكل المقاييس ، ولكن الحقيقة المرة ان الناصرة وقراها ( كما هي الحال في سائر فلسطين )، تركت فريسة للأقوى دون أن يكون هناك الا خيار آخر رهيب : التشريد أو الموت !!
من المؤكد، أن تهجير الناصرة وما كان يرافق التهجير من مآسي ، يعني بقاء مجموعات سكانية فلسطينية مبعثرة بلا عمود فقري يسهل تهجيرها او تذويبها، وانهاء كامل لبقاء عربي داخل اسرائيل... وغياب مدينة مركزية ( مثل الناصرة ) التي تحولت الى علم نضالي وعاصمة سياسية للجماهير العربية !!
نحن نحاول ان نمحو من ذاكرتنا، انصع ما في تاريخنا..بدل ان نحول اسم يوسف الفاهوم الى نموذج للقائد الوطني، ومقياساً انسانياً للمخلص لقضايا شعبه..اجد اننا نُغيِّب هذه الاسماء، وكأنها تشكل "خطراً" على اسماء خَرَّبت ومزقت ولم تخدم أي قضية وطنية او سياسية او اجتماعية...انما خدمت اسمها فقط، ولو تعمقنا بفكر نقي وعقل سليم، لأكتشفنا عمق الخداع الذي عشناه وما زلنا نعيش بقاياه، في الموقف من التاريخ الماضي خلال ستين عاماً.
حان الوقت ان تصبح الناصرة، باحيائها وشوارعها ومدارسها ومؤسساتها سجلاً للأسماء العظيمة، ومبعثاً لفخرنا بمدينتنا وقوميتنا.
وعلى رأس هذا السجل، شخصية انقذت الناصرة، والناصرة تعني المقياس البارومتري للواقع العربي في اسرائيل، منذ النكبة وحتى اليوم.
الا يستحق مثل هذا الانسان، بحسه الوطني، وبعد نظره، وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح في اكثر اللحظات صعوبة ومأساوية، محكماً عقله وحكمته، الا يستحق ان نطلق اسمه على مدرسة، على شارع، على مؤسسة تعليمية عليا، لماذا نغيّبه في طي النسيان؟ هل هذه وطنية؟!
بل الا يستحق ان نسمي باسمه اكثر من موقع واكثر من مكان؟!
اليس من العار أن نتجاهل شخصيات نصراوية اخرى، رؤساء بلديات، مربين ، ادباء وعلماء انجزوا لمدينتهم وللعالم أجمع، انجازات ثقافية وعلمية وادارية، لا يمكن الاستهانة بها؟
هل نخجل ان لأبناء الناصرة مثل هذه الانجازات؟! كيف يمكن تفسير ان الناصرة لم تخلِّد ذكرى شخصية هامة وحاسمة في بقاء الناصرة، مدينة عربية؟!
اليس من العار ان الاجيال الجديدة لم تسمع بهذا الزعيم النصراوي؟! يوسف الفاهوم توفي عام 1969، أي مضت اربعة عقود على وفاته، وهي مناسبة لنحتفل بشخصية مركزية في حياة مدينة الناصرة.
ونكرمه، ونكرم أبناء عائلته، الذين اثبتوا انهم ظلوا مخلصين لتاريخ يوسف الفاهوم وصلابته وعقلانيته وبعد نظره.
لنجعل من ذكرى يوسف الفاهوم، تقليداً وطنياً نصراوياً وفلسطينياً، نجدد فيه التمسك بالعقلانية التي ميزته وبالقدرة على رؤية الاتجاه الصحيح في احلك ساعات الظلام.
لنجعل من سيرة حياة يوسف الفاهوم، ومواقفه، نموذجاً للوطنية الصادقة، وجزءاً من تاريخ هذه المدينة وصمودها واستمرارها.
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق