زهير الخويلدي
" أما الرياضيات فهي نظر في الحساب والهندسة وليس في مقتضيات الهندسة والحساب ما يخالف العقل والحق ولا هي مما يمكن أن يقابل بإنكار وجحد"[1]
أبو حامد الغزالي، مقاصد الفلاسفة.
منذ البواكير الأولى لإنبجاس القول الفلسفي مع الإغريق أو الهنود أو الحكماء العرب بدت فكرة السببية متعلقة بالطموح الكبير الذي تبديه همة الفكر نحو جعل المسائل الكلية: الأصل والتكوين وصيرورة الكائن أمورا معقولة ومدركة من طرف الإنسان. وظهر البحث العقلي عن الأسباب الأصلية والتطلع المعرفي نحو العلل النهائية أمرا متأصلا في الطبيعة البشرية ومنغرسا في الروح التائقة نحو المطلق.
بيد أن الإنسان لم يدرك مباشرة عن طريق الحواس والذهن سوى جزء بسيط من الواقع، وبالتالي كان البحث بواسطة الأسباب منذ البدء وسيلة محبذة لتجاوز هذه المحدودية وبلورة إستراتيجية معرفية وتقنية تقدر على سبر الكون في مجموعه. هذا التوجه لم يكن عن طريق إبداع الأساطير الكونية والحكايات الكبرى التي تظهر القدرات الخارقة للبشر ونماذج خرافية من السيطرة على المكان والتجوال في الزمان وإنما من خلال اختراع نظريات علمية وتصورات فلسفية تعتمد على التجريد الرياضي والتثبت التجريبي وتعتقد أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة وأن الوقائع تنتظم وفق نظام معين وأن انبثاق وتتابع الظواهر يشبه انبثاق وترابط الأفعال الإرادية للبشر.
إن فهم مصطلح السببية Causalité ودوره في نظرية المعرفة وفي مستوى سيطرة الإنسان على الطبيعة وعزوه الفضاء وتفجير الذرة والتحكم في الخلايا المنتجة للحياة يتطلب تقصي جنيالوجي لوضعها السابق في ركام الميتافيزيقا و استعمالها المكثف من قبل العلماء في الاختراعات والإنشاءات الصناعية من قبل التقنيين، دون أن نهمل فترات الأزمة التي تعرضت لها والانتقادات التي وجهت إليها. فما نقصد بالسببية؟ ماهي طبيعة السببية؟ ماهو أصلها أو مصدرها؟ وماهي قيمتها؟ ما الفرق بينها وبين العلية والضرورة والحتمية والجبرية؟ هل هي عقيدة دينية أم فكرة فلسفية؟ هل هي قانون علمي أم مبدأ أنطولوجي؟ هل حتمية صارمة أم نموذج إرشادي يوجه البحث العلمي لا غير؟ هل هناك سببية خاصة وجزئية وقطاعية أم أنه لا توجد سوى سببية كونية كلية وواحدة؟ كيف يمكن رسم تاريخ مختصر للنظريات الفلسفية لفكرة السببية؟ ما حقيقة الانتقادات الموجهة ضدها؟ وهل بالفعل مجرد عادة في القول والعمل كما يري الغزالي وهيوم أم أنها سنة من سنن الكون وضرورة طبيعية كما يؤكد ابن رشد واسبينوزا؟ ما طبيعة الأزمة التي تعرضت إليها؟ وهل يمكن للفلسفة والعلم أن يتخليا عنها؟ ألا تتحول السببية إلى عائق ابستيمولوجي تحول دون التقدم والتطور؟ وهل يقتضي منطق الكشف العلمي تحطيمها والاستغناء عنها واستبدالها بأوليات جديدة؟
ما نراهن عليه هو تفادي الربط بين الإيمان بالسببية على صعيد الوجود والمعرفة والقيم والتسليم بالقضاء والقدر والارتماء في الخرافة والغيب والتأكيد على أن الإنسان خالق أفعاله وهو مكلف بعقله مستخلف في الأرض وبالتالي فهو مسؤول عما يأتيه في الأرض من أعمال سواء كانت محمودة أو مذمومة.
ماهي المنزلة الميتافيزيقية للسببية؟
يقول أفلاطون: " كل ما يولد هو يولد بالضرورة بفعل سبب... لأنه من المستحيل أن يولد أي شيء كان دون سبب"[2]
بادئ ذي بدء يمكن أن نشير إلى أن مصدر النظريات الفلسفية هو في الغالب النظريات السابقة عن الفلسفة وخاصة التصورات الدينية والميثولوجية، فالمفهوم السحري عن القدرة puissance عند المانا والذي حلله كل من فرايزر ودوركايم وموس يمكن أن نعتبره واحد من أصول فكرة السببية في أشكالها الأولى.
وحتى إن التفت الإنسان البدائي فيما بعد إلى الآلهة فذلك نتيجة إحساس وفهم معينين للسببية. وقد افترض الإغريق فوق هذه الآلهة نفسها قدرة مطلقة لا تقهر أطلقوا عليها اسم القدر وافترضوا أنها تتحكم في الأحداث التي تحصل للبشر وحتى في مصير الآلهة نفسها. ففي التفكير الأسطوري يعتبر غضب الآلهة سبب هذا العنف الذي يجعل المرء في حالة من عدم الرضى بمنزلته في الكون و يسبب غفوة الناس. فضربات القدر لها أسبابها والقدر نفسه يتحكم في الآخرين بالأسباب. غير أن فهمنا للسببية على أنها قدر يقتضي وجود فكرة الكلية واستمرارية السلاسل والتساوي بين السبب والنتيجة ولكن توجد على الأقل فكرة تعاقب الأشياء وهي فكرة ضرورية حسب هارتمان لتشكل مفهوم السببية العلمية فيما بعد.
إن الانطلاق من فكرة القدر يمكننا من إدراك مصدر فكرة السببية فقد أعلن أنكسماندر "أن كل شيء يحدث بالاعتماد على القدر". غير أن هذه الضرورة المطلقة بعيدة كل البعد عما نعنيه اليوم بالسببية التي ربما تكون قريبة مما يعنيه الذريون بالصدفة عند تفسيرهم لحدوث الأشياء في العالم. إن ديموقريطس لا يرى في وجود قطيعة بين الأحداث بل استمرارية وحلقة متسلسلة ، إذ كل شيء يفسر من خلال أساس صلب وبواسطة قانون معين ومنطق خفي. انه منذ أن شرع العالم في التواجد فإن كل شيء يحدث وفق ضرورة معينة.
لقد أشار علينا سقراط بأنه عثر في يوم من الأيام على كتاب الطبيعة لأناكساغور ووجد فيه أن مبدأ النوس Nous هو الذي ينظم كل الأشياء وقد نقد اعتماد الطبيعيين على الأسباب الميكانيكية واقترح نظرية الغائية التي تتأسس على الإرادة الموجودة في الطبيعة البشرية. إلا أن أفلاطون في محاورة الفيدون يرى أن الأسباب الغائية لا تسمح بتفسير شامل للأشياء ويلتجئ إلى شكل جديد للسبيبية صاغه فيما بعد أرسطو اسم العلة الصورية. ويقصد أن الأفكار هي الماهيات والأسباب الصورية للأشياء غير أن نظرية الأشكال الصورية عند أفلاطون خاضعة للأسباب الغائية .
اللافت لنظر أن هناك تفسيرات متعددة لفكرة السببية عند أفلاطون ففي محاورة المينون يقول أن المعرفة العلمية هي معرفة ثابتة وبالاعتماد على العلم يقع تثبيت المحسوس بواسطة التفكير في السبب وفي المحاورات الأخيرة يعلن أفلاطون صراحة عن فكرة السببية، ففي الفيلاب يرى من الضروري أن كل شيء يصير ولا بد أن يكون وراء صيرورته سبب ويفرق بين الأسباب الأصلية الأولى لتكون الشيء وتكون الأسباب الثانوية التي ترتبط بالمادة وهي أسباب عمياء لامعقولة ونجد هذا التمييز بين الأسباب الأولى والأسباب الثانوية وارتباطها بالعقل في الطيماوس.
ورغم كل شيء فإن أفلاطون لم يبدع إلا إرهاصات ومبادئ جنينية لفكرة السببية وأرسطو هو الذي أسس أول نظرية حول السببية عندما ميز بين أربعة من الأسباب الصورة –المادة –الغاية –الفاعل . اذ يأخذ مثال التمثال ويرى أن علته المادية هي البرنز والعلة الصورية هي الإله أو الإنسان الذي يحاكيه النحات والعلة الفاعلة هي ضربات المطرقة والعلة الغائية هي الغائية التي وجد من أجلها التمثال (التعبد –التذكر). ويترتب عن ذلك أن الإغريق لم يستنبطوا نظرية في السببية من الطبيعة بل من أثار الإنسان ومن نظره وتأمله لهذه الآثار على الرغم من أن اعتبار الطبيعة لم يكن غائبا عن أنظار أرسطو الذي حاول بالإضافة إلى ذلك أن يوجد قدرة صانعة تحاكي الشخص الإنساني.
لكن إذا أخذنا الأشياء في نموها أي في "الكيف" و"اللماذا" فلا بد أن نعود إلى العلة الفاعلة التي تفسر تكون التمثال في الزمان والعلة الغائية التي تفسر لماذا صنع التمثال، كما أن الصورة المادية تتناقض مع العلل الصورية والغائية والفاعلة لأن هذه الأخيرة ليست مفارقة للشيء بل هي محايثة.
تتعلق نظرية السببية بمجمل فلسفة أرسطو وبمنطقه لأن السبب يلعب نفس الدور في القياس أو علم النفس بما أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي نفسها الموجودة بين الغاية والوسيلة في الفعل الإرادي والقائمة بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل في الميتافيزيقا. إذ أن الفاعل هو الذي يدفع بالشيء من القوة إلى الفعل ولكن الفعل ليس إلا السبب الصوري وفي المجال العملي ولكي نفسر ظاهرة الكسوف والخسوف يلتجئ أرسطو إلى العلة الغائية لأن هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها بالعلة الفاعلة، فالتغير الطبيعي والإنتاج الصناعي يحدثان من الصورة.
غني عن البيان أن أرسطو هو الواضع الأول لنظرية متكاملة عن فكرة السببية وحتى الفلسفات الرواقية والأبيقورية فإنها وقعت في العديد من النقائض . إذ أكدت الرواقية على العقل و اللوغوس والأسباب ونظرت إلى الأشياء باعتبارها في نفس الوقت منطقية وطبيعية، فالسبب يعطي الشكل للمادة وسنجد أن الرواقيين يثبتون السببية الكونية التي قال بها أنكسيمندر عندما يتطرقون إلى القدر ويتبنون كذلك الأفكار الميتافيزيقية لأرسطو . ولكن لهم السبق في القول بأن كل شيء في العالم هو منغلق عن الأشياء الأخرى ولكنهم يرون أن كل شيء متعلق بالكل وبالنسبة إليهم "كل شيء يمكن أن يكون علامة على كل شيء" ويمكن على هذا النحو أن نعتبر أن إثبات الرواقية للسببية هو تدمير للمفهوم الحقيقي لها.
هذا التناقض نجده كذلك عند الأبيقوريين فهم يقولون من جهة أن لا شيء يصدر عن اللاوجود متبعين ديموقريطس ولكنهم يؤكدون على أن تواجد بعض الفترات الزمنية القصيرة والخاطفة التي تغادر فيها الذرات الخط المستقيم لتلتقي ببعضها البعض و بهذا فهم يثبتون السببية ونقيضها في نفس الوقت. وبالتالي لا نجد حقيقة كونية بل نظرية في الصدفة وحتى الشكاك مثل بيرون وسكستوس وأنسيدام فإنهم أكدوا على لاكفاية مبدأ السببية لأن السبب لا يوجد لا عندما يحدث الأثر ولا عندما يعاصره فهي ليست شيئا لأنه يسبق النتيجة / الأثر بل ينبغي أن يحدث في نفس الوقت مع الأثر لكن إذا كان السبب والأثر متعاصرين فمن يقول لنا من بين هذين الحدثين من هو السبب ومن هو النتيجة؟ وينتهي الريبيون إلى أن فكرة السببية هي مجرد فكرة أو ابتداع من ابتداعات الفكر وقد واصل الغزالي النقد الريبي بتأكيده أن فكرة السببية هي من إبداع الفكر بينما الأمر الذي يوجد في الواقع هو التتابع والتعاقب والتكرار لا غير.
اذ يقول الغزالي في هذا الإطار:" "إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر."
نستخلص من ذلك أن البذور الجنينية لفكرة السببية الحديثة مزروعة في الفكر الفلسفي القديم، ففلسفة اسبينوزا مثلا قد احتوت على كل النظريات القديمة : الهندسة الاقليدية والتصور الرواقي والأبيقوري للكون، لذلك أنتج اسبينوزا مفهوما للسببية هو في نفس الوقت ضرورة عقلانية حيث أن خصائص شكل هندسي ما مستنبطة من ماهية هذا الشكل وسببية محايثة للعالم أي للطبيعة، غير أن الطبيعة من حيث وجهها الإبداعي هي الإله ،وفي مستوى ثالث يؤكد اسبينوزا أن كل واقعة معينة هي مسببة من قبل واقعة معينة تسبقها وهي تشير بذلك إلى التصور الذري لسببية.
ما نلاحظه أنه بعد القديس توماس الإكويني لم يحافظ الفكر البشري إلا على نوعين من الأسباب الأربعة الأرسطية فهو قد تخلص من العلتين الغائية والمادية واعتمد على العلة الفاعلة والصورية فإذا كان العصر الأول لنظرية السببية يعود إلى أرسطو وعلله الأربعة فإن العصر الثاني الذي أبقى على علتين " الفاعلة والصورية" قد بدأ مع علم القرن 17 ولعل تصور الإله على أنه إله صانع أو علة غائية مثل التصور الأرسطي والقبول بفكرة إله خالق من عدم قد أعطى قيمة كبيرة للعلة الفاعلة فكأن العلم والفلسفة قد توحدا ليتفقا على إعطاء العلة الفاعلة المنزلة الأولى، وسنجد في العصور الحديثة أن العلة فهمت من خلال معنيين الأول تنص فيه على التعاقب الزمني للأثر بالمقارنة مع السبب أو الضرورة العقلانية بين الأثر والسبب في الأول نحن أمام التصور التجريبي أما في الثاني فنحن أمام التصور العقلاني لسببية.
إن" السبب في اللغة: اسم لما يتوصل به إلى المقصود وفي الشريعة: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه"[3]. من هذا المنطلق تعرف السببية هي العلاقة الثابتة بين السبب والمسبب وبالتالي تحدث جميع التغيرات وفقا لقانون الارتباط بين السبب والنتيجة، وتعني أن لكل ظاهرة سببا يقف وراءها وبالتالي ما من شيء إلا وكان لوجوده سبب أي مبدأ يفسر وجوده. هناك ترادف بين السببية والعلية ولكن العلة هي ما يحصل به الشيء وينتج المعلول بلا واسطة بينما السبب هو ما يحصل عنده الشيء ولا به وبالتالي يفضي إليه بواسطة. لكن كيف كانت النقلة من الفلسفة إلى العلم تحولا من العلة إلى السبب؟ ولماذا لم يعد الباحث يكتفي بالتفتيش عن علل الظواهر وصار يهتم بالقوانين وبالعلاقات الثابتة التي تربط بينهما؟
[1] أبو حامد الغزالي، مقاصد الفلاسفة. تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2002. ص. 09.
[2] أفلاطون،محاورة الطيماوس ،a 28 .
[3] الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 120
" أما الرياضيات فهي نظر في الحساب والهندسة وليس في مقتضيات الهندسة والحساب ما يخالف العقل والحق ولا هي مما يمكن أن يقابل بإنكار وجحد"[1]
أبو حامد الغزالي، مقاصد الفلاسفة.
منذ البواكير الأولى لإنبجاس القول الفلسفي مع الإغريق أو الهنود أو الحكماء العرب بدت فكرة السببية متعلقة بالطموح الكبير الذي تبديه همة الفكر نحو جعل المسائل الكلية: الأصل والتكوين وصيرورة الكائن أمورا معقولة ومدركة من طرف الإنسان. وظهر البحث العقلي عن الأسباب الأصلية والتطلع المعرفي نحو العلل النهائية أمرا متأصلا في الطبيعة البشرية ومنغرسا في الروح التائقة نحو المطلق.
بيد أن الإنسان لم يدرك مباشرة عن طريق الحواس والذهن سوى جزء بسيط من الواقع، وبالتالي كان البحث بواسطة الأسباب منذ البدء وسيلة محبذة لتجاوز هذه المحدودية وبلورة إستراتيجية معرفية وتقنية تقدر على سبر الكون في مجموعه. هذا التوجه لم يكن عن طريق إبداع الأساطير الكونية والحكايات الكبرى التي تظهر القدرات الخارقة للبشر ونماذج خرافية من السيطرة على المكان والتجوال في الزمان وإنما من خلال اختراع نظريات علمية وتصورات فلسفية تعتمد على التجريد الرياضي والتثبت التجريبي وتعتقد أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة وأن الوقائع تنتظم وفق نظام معين وأن انبثاق وتتابع الظواهر يشبه انبثاق وترابط الأفعال الإرادية للبشر.
إن فهم مصطلح السببية Causalité ودوره في نظرية المعرفة وفي مستوى سيطرة الإنسان على الطبيعة وعزوه الفضاء وتفجير الذرة والتحكم في الخلايا المنتجة للحياة يتطلب تقصي جنيالوجي لوضعها السابق في ركام الميتافيزيقا و استعمالها المكثف من قبل العلماء في الاختراعات والإنشاءات الصناعية من قبل التقنيين، دون أن نهمل فترات الأزمة التي تعرضت لها والانتقادات التي وجهت إليها. فما نقصد بالسببية؟ ماهي طبيعة السببية؟ ماهو أصلها أو مصدرها؟ وماهي قيمتها؟ ما الفرق بينها وبين العلية والضرورة والحتمية والجبرية؟ هل هي عقيدة دينية أم فكرة فلسفية؟ هل هي قانون علمي أم مبدأ أنطولوجي؟ هل حتمية صارمة أم نموذج إرشادي يوجه البحث العلمي لا غير؟ هل هناك سببية خاصة وجزئية وقطاعية أم أنه لا توجد سوى سببية كونية كلية وواحدة؟ كيف يمكن رسم تاريخ مختصر للنظريات الفلسفية لفكرة السببية؟ ما حقيقة الانتقادات الموجهة ضدها؟ وهل بالفعل مجرد عادة في القول والعمل كما يري الغزالي وهيوم أم أنها سنة من سنن الكون وضرورة طبيعية كما يؤكد ابن رشد واسبينوزا؟ ما طبيعة الأزمة التي تعرضت إليها؟ وهل يمكن للفلسفة والعلم أن يتخليا عنها؟ ألا تتحول السببية إلى عائق ابستيمولوجي تحول دون التقدم والتطور؟ وهل يقتضي منطق الكشف العلمي تحطيمها والاستغناء عنها واستبدالها بأوليات جديدة؟
ما نراهن عليه هو تفادي الربط بين الإيمان بالسببية على صعيد الوجود والمعرفة والقيم والتسليم بالقضاء والقدر والارتماء في الخرافة والغيب والتأكيد على أن الإنسان خالق أفعاله وهو مكلف بعقله مستخلف في الأرض وبالتالي فهو مسؤول عما يأتيه في الأرض من أعمال سواء كانت محمودة أو مذمومة.
ماهي المنزلة الميتافيزيقية للسببية؟
يقول أفلاطون: " كل ما يولد هو يولد بالضرورة بفعل سبب... لأنه من المستحيل أن يولد أي شيء كان دون سبب"[2]
بادئ ذي بدء يمكن أن نشير إلى أن مصدر النظريات الفلسفية هو في الغالب النظريات السابقة عن الفلسفة وخاصة التصورات الدينية والميثولوجية، فالمفهوم السحري عن القدرة puissance عند المانا والذي حلله كل من فرايزر ودوركايم وموس يمكن أن نعتبره واحد من أصول فكرة السببية في أشكالها الأولى.
وحتى إن التفت الإنسان البدائي فيما بعد إلى الآلهة فذلك نتيجة إحساس وفهم معينين للسببية. وقد افترض الإغريق فوق هذه الآلهة نفسها قدرة مطلقة لا تقهر أطلقوا عليها اسم القدر وافترضوا أنها تتحكم في الأحداث التي تحصل للبشر وحتى في مصير الآلهة نفسها. ففي التفكير الأسطوري يعتبر غضب الآلهة سبب هذا العنف الذي يجعل المرء في حالة من عدم الرضى بمنزلته في الكون و يسبب غفوة الناس. فضربات القدر لها أسبابها والقدر نفسه يتحكم في الآخرين بالأسباب. غير أن فهمنا للسببية على أنها قدر يقتضي وجود فكرة الكلية واستمرارية السلاسل والتساوي بين السبب والنتيجة ولكن توجد على الأقل فكرة تعاقب الأشياء وهي فكرة ضرورية حسب هارتمان لتشكل مفهوم السببية العلمية فيما بعد.
إن الانطلاق من فكرة القدر يمكننا من إدراك مصدر فكرة السببية فقد أعلن أنكسماندر "أن كل شيء يحدث بالاعتماد على القدر". غير أن هذه الضرورة المطلقة بعيدة كل البعد عما نعنيه اليوم بالسببية التي ربما تكون قريبة مما يعنيه الذريون بالصدفة عند تفسيرهم لحدوث الأشياء في العالم. إن ديموقريطس لا يرى في وجود قطيعة بين الأحداث بل استمرارية وحلقة متسلسلة ، إذ كل شيء يفسر من خلال أساس صلب وبواسطة قانون معين ومنطق خفي. انه منذ أن شرع العالم في التواجد فإن كل شيء يحدث وفق ضرورة معينة.
لقد أشار علينا سقراط بأنه عثر في يوم من الأيام على كتاب الطبيعة لأناكساغور ووجد فيه أن مبدأ النوس Nous هو الذي ينظم كل الأشياء وقد نقد اعتماد الطبيعيين على الأسباب الميكانيكية واقترح نظرية الغائية التي تتأسس على الإرادة الموجودة في الطبيعة البشرية. إلا أن أفلاطون في محاورة الفيدون يرى أن الأسباب الغائية لا تسمح بتفسير شامل للأشياء ويلتجئ إلى شكل جديد للسبيبية صاغه فيما بعد أرسطو اسم العلة الصورية. ويقصد أن الأفكار هي الماهيات والأسباب الصورية للأشياء غير أن نظرية الأشكال الصورية عند أفلاطون خاضعة للأسباب الغائية .
اللافت لنظر أن هناك تفسيرات متعددة لفكرة السببية عند أفلاطون ففي محاورة المينون يقول أن المعرفة العلمية هي معرفة ثابتة وبالاعتماد على العلم يقع تثبيت المحسوس بواسطة التفكير في السبب وفي المحاورات الأخيرة يعلن أفلاطون صراحة عن فكرة السببية، ففي الفيلاب يرى من الضروري أن كل شيء يصير ولا بد أن يكون وراء صيرورته سبب ويفرق بين الأسباب الأصلية الأولى لتكون الشيء وتكون الأسباب الثانوية التي ترتبط بالمادة وهي أسباب عمياء لامعقولة ونجد هذا التمييز بين الأسباب الأولى والأسباب الثانوية وارتباطها بالعقل في الطيماوس.
ورغم كل شيء فإن أفلاطون لم يبدع إلا إرهاصات ومبادئ جنينية لفكرة السببية وأرسطو هو الذي أسس أول نظرية حول السببية عندما ميز بين أربعة من الأسباب الصورة –المادة –الغاية –الفاعل . اذ يأخذ مثال التمثال ويرى أن علته المادية هي البرنز والعلة الصورية هي الإله أو الإنسان الذي يحاكيه النحات والعلة الفاعلة هي ضربات المطرقة والعلة الغائية هي الغائية التي وجد من أجلها التمثال (التعبد –التذكر). ويترتب عن ذلك أن الإغريق لم يستنبطوا نظرية في السببية من الطبيعة بل من أثار الإنسان ومن نظره وتأمله لهذه الآثار على الرغم من أن اعتبار الطبيعة لم يكن غائبا عن أنظار أرسطو الذي حاول بالإضافة إلى ذلك أن يوجد قدرة صانعة تحاكي الشخص الإنساني.
لكن إذا أخذنا الأشياء في نموها أي في "الكيف" و"اللماذا" فلا بد أن نعود إلى العلة الفاعلة التي تفسر تكون التمثال في الزمان والعلة الغائية التي تفسر لماذا صنع التمثال، كما أن الصورة المادية تتناقض مع العلل الصورية والغائية والفاعلة لأن هذه الأخيرة ليست مفارقة للشيء بل هي محايثة.
تتعلق نظرية السببية بمجمل فلسفة أرسطو وبمنطقه لأن السبب يلعب نفس الدور في القياس أو علم النفس بما أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي نفسها الموجودة بين الغاية والوسيلة في الفعل الإرادي والقائمة بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل في الميتافيزيقا. إذ أن الفاعل هو الذي يدفع بالشيء من القوة إلى الفعل ولكن الفعل ليس إلا السبب الصوري وفي المجال العملي ولكي نفسر ظاهرة الكسوف والخسوف يلتجئ أرسطو إلى العلة الغائية لأن هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها بالعلة الفاعلة، فالتغير الطبيعي والإنتاج الصناعي يحدثان من الصورة.
غني عن البيان أن أرسطو هو الواضع الأول لنظرية متكاملة عن فكرة السببية وحتى الفلسفات الرواقية والأبيقورية فإنها وقعت في العديد من النقائض . إذ أكدت الرواقية على العقل و اللوغوس والأسباب ونظرت إلى الأشياء باعتبارها في نفس الوقت منطقية وطبيعية، فالسبب يعطي الشكل للمادة وسنجد أن الرواقيين يثبتون السببية الكونية التي قال بها أنكسيمندر عندما يتطرقون إلى القدر ويتبنون كذلك الأفكار الميتافيزيقية لأرسطو . ولكن لهم السبق في القول بأن كل شيء في العالم هو منغلق عن الأشياء الأخرى ولكنهم يرون أن كل شيء متعلق بالكل وبالنسبة إليهم "كل شيء يمكن أن يكون علامة على كل شيء" ويمكن على هذا النحو أن نعتبر أن إثبات الرواقية للسببية هو تدمير للمفهوم الحقيقي لها.
هذا التناقض نجده كذلك عند الأبيقوريين فهم يقولون من جهة أن لا شيء يصدر عن اللاوجود متبعين ديموقريطس ولكنهم يؤكدون على أن تواجد بعض الفترات الزمنية القصيرة والخاطفة التي تغادر فيها الذرات الخط المستقيم لتلتقي ببعضها البعض و بهذا فهم يثبتون السببية ونقيضها في نفس الوقت. وبالتالي لا نجد حقيقة كونية بل نظرية في الصدفة وحتى الشكاك مثل بيرون وسكستوس وأنسيدام فإنهم أكدوا على لاكفاية مبدأ السببية لأن السبب لا يوجد لا عندما يحدث الأثر ولا عندما يعاصره فهي ليست شيئا لأنه يسبق النتيجة / الأثر بل ينبغي أن يحدث في نفس الوقت مع الأثر لكن إذا كان السبب والأثر متعاصرين فمن يقول لنا من بين هذين الحدثين من هو السبب ومن هو النتيجة؟ وينتهي الريبيون إلى أن فكرة السببية هي مجرد فكرة أو ابتداع من ابتداعات الفكر وقد واصل الغزالي النقد الريبي بتأكيده أن فكرة السببية هي من إبداع الفكر بينما الأمر الذي يوجد في الواقع هو التتابع والتعاقب والتكرار لا غير.
اذ يقول الغزالي في هذا الإطار:" "إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر."
نستخلص من ذلك أن البذور الجنينية لفكرة السببية الحديثة مزروعة في الفكر الفلسفي القديم، ففلسفة اسبينوزا مثلا قد احتوت على كل النظريات القديمة : الهندسة الاقليدية والتصور الرواقي والأبيقوري للكون، لذلك أنتج اسبينوزا مفهوما للسببية هو في نفس الوقت ضرورة عقلانية حيث أن خصائص شكل هندسي ما مستنبطة من ماهية هذا الشكل وسببية محايثة للعالم أي للطبيعة، غير أن الطبيعة من حيث وجهها الإبداعي هي الإله ،وفي مستوى ثالث يؤكد اسبينوزا أن كل واقعة معينة هي مسببة من قبل واقعة معينة تسبقها وهي تشير بذلك إلى التصور الذري لسببية.
ما نلاحظه أنه بعد القديس توماس الإكويني لم يحافظ الفكر البشري إلا على نوعين من الأسباب الأربعة الأرسطية فهو قد تخلص من العلتين الغائية والمادية واعتمد على العلة الفاعلة والصورية فإذا كان العصر الأول لنظرية السببية يعود إلى أرسطو وعلله الأربعة فإن العصر الثاني الذي أبقى على علتين " الفاعلة والصورية" قد بدأ مع علم القرن 17 ولعل تصور الإله على أنه إله صانع أو علة غائية مثل التصور الأرسطي والقبول بفكرة إله خالق من عدم قد أعطى قيمة كبيرة للعلة الفاعلة فكأن العلم والفلسفة قد توحدا ليتفقا على إعطاء العلة الفاعلة المنزلة الأولى، وسنجد في العصور الحديثة أن العلة فهمت من خلال معنيين الأول تنص فيه على التعاقب الزمني للأثر بالمقارنة مع السبب أو الضرورة العقلانية بين الأثر والسبب في الأول نحن أمام التصور التجريبي أما في الثاني فنحن أمام التصور العقلاني لسببية.
إن" السبب في اللغة: اسم لما يتوصل به إلى المقصود وفي الشريعة: عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه"[3]. من هذا المنطلق تعرف السببية هي العلاقة الثابتة بين السبب والمسبب وبالتالي تحدث جميع التغيرات وفقا لقانون الارتباط بين السبب والنتيجة، وتعني أن لكل ظاهرة سببا يقف وراءها وبالتالي ما من شيء إلا وكان لوجوده سبب أي مبدأ يفسر وجوده. هناك ترادف بين السببية والعلية ولكن العلة هي ما يحصل به الشيء وينتج المعلول بلا واسطة بينما السبب هو ما يحصل عنده الشيء ولا به وبالتالي يفضي إليه بواسطة. لكن كيف كانت النقلة من الفلسفة إلى العلم تحولا من العلة إلى السبب؟ ولماذا لم يعد الباحث يكتفي بالتفتيش عن علل الظواهر وصار يهتم بالقوانين وبالعلاقات الثابتة التي تربط بينهما؟
[1] أبو حامد الغزالي، مقاصد الفلاسفة. تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2002. ص. 09.
[2] أفلاطون،محاورة الطيماوس ،a 28 .
[3] الشريف الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 120
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق