في تسعينات القرن الماضي أقام اتحاد الصناعيين الإسرائيليين في تل أبيب مركزا سمي بمركز المبادرات القطرية، وانبثقت فكرة المركز من منطلق صناعي، حيث تفيد الدراسات أن ما يقارب 60% من المنتجات المستهلكة في السوق مخصصة للطفل..! وبالتأكيد غالبية هذه المنتجات هي من إنتاج الكبار، ولا نعرف إن كان الأطفال هم بحاجة حقيقية لهذه المنتجات؟ أم غير ذلك..؟ أم هم بحاجة إلى أشياء أخرى.. نجهلها نحن الكبار.. ولم نستطع سبر غور الأطفال واكتشاف مكنوناتهم..؟ يحتوي المركز على قاعات للمحاضرات مجهزة بأحدث التقنيات العلمية الحديثة من أجهزة عرض ووسائل أخرى.. بالإضافة إلى غرفة اتصال تمكن المشارك من الوصول لأي معلومة أو توضيح لأي شيء يحتاجه، سواء كانت صناعية أو زراعية أو علمية أو غير ذلك.. وخصص داخل المركز قسما من الورش المتعددة تمكن المشارك من صناعة أي شيء يريد.. ويشرف على المركز طاقم من المدربين ذوي خبرة كبيرة ومستوى عال من التأهيل والثقافة..
تقوم كل مدرسة بشكل اختياري إرسال فريقا من طلاب المدرسة إلى المركز، يقوم المركز بتدريب الفريق بشكل نظري وعملي بشكل مكثف على أساليب حل المشكلات، والبحث العلمي،والسيطرة، والاستقصاء، والاستنتاج بالإضافة إلى تعريفهم بعلوم عديدة، وكذلك علوم إدارية وتجارية، وتعريفهم على المنشآت الصناعية المختلفة في إسرائيل، بعدها يطلب من الفريق أن يعد نفسه كشركة إنتاجية، أو تجارية كما يرغبون، وتسجل رسميا باسمهم جميعا.. من ثم يقوم الطلبة بطرح مشكلة، أو مشاكل هم يعانون منها للبدء في بحث الحلول لتلك المشكلة بالشكل العلمي سواء كان الحل ماديا أم غير ذلك.. إحدى الفرق المدرسية طرحت مشكلة يعاني منها المدرس بالدرجة الأولى ومن ثم الطلبة، هذه المشكلة هي: استخدام المعلم " للسبورة الطباشيرية " حيث يعاني المدرس والجميع من مشكلة صحية وبيئية مرهقة.. بعد طرح المشكلة من قبل الفريق أقر الجميع بضرورة إيجاد سبورة بمواصفات أخرى تقضي على مشاكل الأولى وبالتالي ستخفف كثيرا من الأعباء الكثيرة عن كاهل المدرس.. العمل الدءوب لتلك المجموعة أفضى بإنتاج سبورة ضوئية لا يستخدم المعلم فيها الطباشير حيث تمكن المعلم أو الطالب الكتابة عليها كيفما يشاء ويمحي ما يكتب عليها بسرعة كبيرة وبدون جهد يذكر، وبدون تلوث أيضا... وبعد نجاح هذا الفريق بالتغلب على المشكلة سجل له براءة اختراع للسبورة، ثم قام أحد الصناعيين بشراء الاختراع ودفع للفريق مبلغا قدره مليون ونصف من الدولارات، وبالطبع قام هو بصناعتها بشكل تجاري كبير دخلت اليوم في كثير من المدارس، وفي أنحاء مختلفة من العالم...
هذا التطبيق، وهذه التجارب لم تكن إسرائيلية فقط ! بل هي موجودة في كثير من الدول المتقدمة، لكنني لم أعلم حتى الآن بوجود مثل هذه التجارب وهذا التأهيل في دول عربية مثلاً.. كأن مجتمعاتنا وصلت حد الكمال، أو أن أطفالنا أصحاء يتربون في مؤسسات عالية التأهيل، وتخلو من أية مشاكل تذكر!! إضافة لتلك التجارب الرائدة في عالم التأهيل والتربية أو التعليم. مازالت إسرائيل تتربع على عرش المصروفات التي تصرفها الدول على التعليم، فعام 1999 بلغ حجم الإنفاق على التعليم في إسرائيل 6.6% مقابل 5.3 % في أمريكا و 3.8% في اليابان من مجمل الإنتاج القومي لتلك الدول، وفي عام 2001 بلغت مصروفات ثلاثين دولة من الدول المتطورة في العالم إلى 6.2% من إنتاجها القومي، في حين بلغ ما أنفقته إسرائيل على هذا القطاع في نفس العام إلى 8.2% من إنتاجها القومي..(جهاز التعليم في إسرائيل: د. خالد أبو عصبة ـ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار ـ ط 1 ، رام الله: 2006 ) . من هنا يتضح أهمية الاستثمار في قطاع التعليم، وكلما استثمرت الدولة أكثر في هذا القطاع كلما كانت النتائج أفضل خاصة في الدول التي لا تمتلك ثروات طبيعية لأن الدخل فيها يعتمد على الكادر البشري وإسرائيل واليابان خير دليل على ذلك..
لو تفحصنا ظروفنا الاقتصادية في غزة والضفة (الدولة الفلسطينية المقترح إقامتها في العهد القريب) فلن نجد أي من الثروات الطبيعية التي قد تغطي مصروفات الدولة، ومن هنا لا يمكن أن يكون لها أي مستقبل يذكر.. ومهما يكن من أمر فلا يوجد حلولا يمكنها أن تغير واقع هذا الشعب الذي مورس ضده الظلم والقهر لأكثر من قرن من الزمان، وما لم تتغير وسائل الإنتاج في هذا المجتمع فلا أمل في التغيير، ولا يوجد دولة بأكملها تعيش على التسول..! وإن وجد فستبقى هزيلة لا يمكنها لأن تستمر طويلا، وتجربة مشروع السلطة الفلسطينية على مدى الأعوام الخمسة عشر الماضية أثبتت أنها لا يمكن أن تلبي حاجة مجتمعنا بسبب اعتمادها على تمويل الدول المانحة، وارتباطها الكامل بإسرائيل... إذن لا يوجد مفر لنا من تغيير السياسة الاقتصادية القائمة، وإن أردنا أن نكون أقوياء فلا بد من الاعتماد على تأهيل الثروة البشرية التي لا نمتلك غيرها، ويجب أن ينصب كل الجهد في المرحلة الأولى على قطاع التعليم بدء من المفاهيم السائدة والفلسفة التربوية القائمة وانتهاء بمجانية التعليم حتى مرحلة الجامعة وما بعدها.. فالانفجار المعرفي المتسارع والتقدم التكنولوجي الهائل الذي شهدته العقود الأخيرة وما يتوقع أن نشهده في العقود المقبلة هو من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات عامة ومجتمعنا الفلسطيني خاصة . لم يكن في يوم ما التغير الثقافي والعلمي والتكنولوجي سريعا وعميقا وشاملا كما هو عليه الآن، ولا يمكن للتعليم الاستجابة لهذا التغير إلا بإستراتيجية تربوية شاملة ومنفتحة ومرنة وعلمية ومنظمة ومتكاملة.. إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف والأساليب والاتجاهات والمسارات ، إستراتيجية تأخذ الاحتمالات والمتغيرات المستقبلية ، كما تأخذ الماضي والحاضر في حساباتها، حيث أصبح من الضروري أن يبقى الإنسان متعلما طيلة حياته حتى يواكب التقدم والتغير، وبات التعليم المستديم مطلبا ضروريا لجميع الناس.. للمتعلمين وغير المتعلمين، للصغار والكبار، للذكور والإناث.. وعلى مدى حياتهم .
إن التعليم المدرسي وحتى التعليم الجامعي وحدهما غير قادرين على تلبية الحاجات المعرفية والتوافقية لإنسان هذا العصر ولا بد والحالة هذه من الاستعانة بروافد تعلمية وتربوية أخرى موازية ومكملة للمؤسسات التربوية المدرسية النظامية والتي يتوقع منها أن تقوم بتعزيز مردودها، وتوسيع مضامينها ومناهجها وبرامجها، والعمل على تعميقها . وما كنا نتغنى به: بأن لدينا أعلى نسبة متعلمين في العالم سقطت مع أول محك لنا في إدارة شؤوننا وتحقيق استقلالنا، وطغى على السطح الزبد.. وبرزت الأمية الحرفية والثقافية العالية في مجتمعنا، كما ظهر لدينا نقص خطير في الكوادر المتخصصة وفي جميع المجالات.. وما كان علينا إلا أن نتخبط بفوضى وعشوائية في إدارة شئوننا الحياتية العامة، وعم الفساد في معظم مؤسساتنا بما فيها المؤسسة التربوية ...
إننا نحتاج إلى ثورة في البناء .. أكبر من ثورة شعبنا الطويلة والمستمرة والشاقة، ثورة في بناء الإنسان الفلسطيني ( الثروة البشرية ) التي لا نملك ثروة غيرها. وكان علينا منذ وقت طويل إعادة النظر ومراجعة الحسابات حول مفاهيم وطرق خاطئة عديدة.. فالاهتمام أولا وقبل أي شيء بصناعة الإنسان .. الإنسان الفلسطيني الذي يجب أن يتميز عن غيره بعقل جبار ، وثقافة عالية المستوى كي نستطيع بناء دولتنا المستقلة، واستعادة حقوقنا المسلوبة .. علينا إعادة النظر في تصرفات كل مؤسساتنا ونبني فلسفتنا بشكل يؤدي إلى تحقيق أهدافنا....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق