محمود كعوش
في الذكرى السابعة والخمسين لثورة تموز 1952 المجيدة:
عبد الناصر...عاش لفلسطين وقضى شهيداً من أجلها
عبد الناصر...عاش لفلسطين وقضى شهيداً من أجلها
كما كان الحال عليه على مدار أعوام العقود الأربعة الأخيرة استقبل العرب، الذين ما زالوا يمتلكون الجرأة وقدرة الثبات على مواقفهم القومية والمجاهرة بها، الذكرى السابعة والخمسين لثورة 23 يوليو/تموز المجيدة وانبثاق الفكر الناصري هذا الشهر بكثير من الأسى والمرارة بسبب حالة الضعف والوهن والتردي التي تعيشها الأمة العربية ومضي النظام الرسمي العربي في انبطاحه واستسلامه للإرادة الإسرائيلية - الأميركية المشتركة. ولعل ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق وما يتساقط فيهما من شهداء تلو الشهداء وما يحاك من مؤامرات ضد لبنان وأقطار عربية أخرى خير أمثلة على هذه الحالة.
وفي هذه المناسبة أرى أن من المفيد التذكير بأن قائد هذه الثورة المجيدة وصاحب هذا الفكر العظيم الراحل الكبير جمال عبد الناصر كان هو السباق بين الحكام العرب في الدعوة لعقد مؤتمرات القمة العربية من أجل القضية الفلسطينية منذ عام 1964، وقد مضى في تبنيها حتى رحيله في عام 1970. ومن المفيد التذكير أيضاً بأن علاقته بهذه القضية، التي تصدرت على الدوام أولوياته القومية باعتبارها قضية العرب المركزية، عادت إلى فترة مبكرة جداً من حياته الدراسية والعسكرية والسياسية.
فبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947 تشكلت لدى جمال عبد الناصر قناعة مفادها "أن ما يحدث في مصر وما يحدث في فلسطين هو جزء من مخطط استعماري يستهدف الأمة العربية كلها". وانتقلت تلك القناعة إلى إخوانه من الضباط الأحرار، بحيث استقر رأيهم منذ اجتماعهم الأول على ضرورة مساندة المقاومة الفلسطينية من خلال الانضمام إلى فرق المتطوعين العرب التي كانت قد بدأت تتشكل في العاصمة السورية دمشق وعواصم ومدن عربية أخرى كثيرة.
وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين وأظهرت انحيازاً فاضحاً إلى جانب الصهاينة في عدوانهم السافر والمتواصل على الفلسطينيين، رأى عبد الناصر أن لحظة الدفاع عن الحقوق العربية قد أزفت لأن ما حدث في فلسطين مثل انتهاكاً صارخاً للعدالة الدولية والكرامة الإنسانية في آن معاً. وأتبع ذلك بخطوة عملية تمثلت بطلب الحصول على إجازة من الجيش المصري ليتمكن من الانضمام إلى صفوف المتطوعين. لكن شاءت الصدفة أن تأمر الحكومة المصرية الجيش بالتحرك العاجل للمشاركة في حرب الدفاع عن عروبة فلسطين قبل أن يُبت بذلك الطلب. وكان لعبد الناصر ما أراد، فخاض غمار تلك الحرب وتردد اسمه بشكل مدو في معارك أسدود والنقب وعراق المنشية، كما اكتسب شهرة كبيرة في حصار الفالوجة. وتقديراً لبطولاته وتميزه في ساحات الوغى وتقديراً لوطنيته، منحته القيادة وسام النجمة العسكرية.
واستناداً لما جاء في "فلسفة الثورة" و"الميثاق الوطني" فإن عبد الناصر بعدما اكتشف أمر الأسلحة الفاسدة وعرف الطريقة التي كان يتم بها تسيير المعارك وانتبه إلى أن القيادة العليا للجيش المصري كانت تهتم باحتلال أوسع رقعة أرض ممكنة من فلسطين دون النظر إلى قيمتها الإستراتيجية أو إلى أثرها في إضعاف مركز الجيش، وسع من دائرة نشاطاته في تنظيم الضباط الأحرار.
وأثناء حصار الفالوجة تولدت لدى عبد الناصر قناعة راسخة بأن الحصار لم يكن يقتصر على تلك البلدة الصغيرة أو فلسطين أو قطر عربي بعينه وإنما كان يشمل الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي ولد لديه قناعة موازية مفادها أن "المواجهة الحقيقية للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية إنما تبدأ في الحقيقة من داخل الوطن".
وعلى ضوء ذلك خلص عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار إلى أن "القاهرة حيث الانتهازيون وعملاء الاستعمار يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويشترون الأسلحة الفاسدة للجيش المصري هي نقطة البداية وليست فلسطين"، وهو ما يستدعي القول منا دون تردد أو حرج أن "حرب فلسطين 1948 بما ترتب عليها من نتائج وإفرازات وإرهاصات أسهمت إسهاماً كبيراً ومباشراً في قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 المجيدة، إلى جانب عوامل أخرى عديدة خاصة بمصر".
عُرف عن عبد الناصر وقوفه بثبات وصلابة إلى جانب الثورة الفلسطينية المسلحة التي اعتبرها أنبل ظاهرة في الأمة العربية، وتصديه بعزم وإصرار لخصومها الداخليين وأعدائها الخارجيين. وكما هو معروف فإنه أشرف على توقيع "اتفاقية القاهرة" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية في نوفمبر/تشرين الثاني 1969 حفاظاً على الثورة الفلسطينية واستمرار مسيرتها النضالية.
وأثناء أحداث أيلول 1970 في الأردن لم يدخر عبد الناصر جهداً إلا وبذله من أجل وقف تلك الأحداث المريعة والمرعبة. وحتى يضع حداً لنزف الدم الأخوي الأردني ـ الفلسطيني دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي انتهى إلى توقيع اتفاقية جديدة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية، سُميت هي الأخرى "اتفاقية القاهرة".
وبعد توقيع تلك الاتفاقية ووداعه القادة العرب اطمأن على الثورة الفلسطينية وخفق قلبه الكبير بحبها لآخر مرة وتوقف يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970 . رحم الله جمال عبد الناصر القائد والأب والأخ والرفيق. لقد عاش للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وقضى شهيداً من أجلهما. نفتقدك. كم نفتقدك!!
يبقى عزاءُنا أنه وبرغم مرور سبعة وخمسين عاماً على انبثاق الفكر الناصري وتسعة وثلاثين عاماً على غياب صاحبه وبرغم كل ما تعرضت له الأمة من كوارث ومصائب ونائبات، لم يزل هذا الفكر يفرض نفسه بزخم واندفاع لافتين للنظر بين الجماهير العربية التي تحتضنه وتدافع عنه متحدية كل صنوف القمع والقهر التي تتعرض لها من قبل أنظمة الحكم في عواصم الوطن من محيطه إلى خليجه.
وهذا ما يستدعي بإلحاح إعادة طرح السؤال التالي للمرة الألف بعد المليون: ترى ألا تقتضي الحكمة أن يعترف حكام الأمة الآن وبعد كل هذا المخاض العربي الطويل بحالة التميز التي شكلتها ثورة 23 يوليو/تموز 1952، بفكرها وتجربتها وزعامة جمال عبد الناصر التي تجاوزت البعدين العربي والإقليمي لتشمل البعد الدولي ، بحيث يمكن أن نتوقع مع قادم الأيام أن يخطوا خطوة إلى الأمام تحفزهم على تقييمها ونقدها بشكل بناء وموضوعي لأخذ العبر من إيجابياتها وتقويم سلبياتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناء عليها، لإخراج الأمة مما هي عليه من تفكك ووهن وضعف واستكانة؟ أعتقد أن ذلك عين الحكمة.
كاتب وباحث عربي
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
وفي هذه المناسبة أرى أن من المفيد التذكير بأن قائد هذه الثورة المجيدة وصاحب هذا الفكر العظيم الراحل الكبير جمال عبد الناصر كان هو السباق بين الحكام العرب في الدعوة لعقد مؤتمرات القمة العربية من أجل القضية الفلسطينية منذ عام 1964، وقد مضى في تبنيها حتى رحيله في عام 1970. ومن المفيد التذكير أيضاً بأن علاقته بهذه القضية، التي تصدرت على الدوام أولوياته القومية باعتبارها قضية العرب المركزية، عادت إلى فترة مبكرة جداً من حياته الدراسية والعسكرية والسياسية.
فبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1947 تشكلت لدى جمال عبد الناصر قناعة مفادها "أن ما يحدث في مصر وما يحدث في فلسطين هو جزء من مخطط استعماري يستهدف الأمة العربية كلها". وانتقلت تلك القناعة إلى إخوانه من الضباط الأحرار، بحيث استقر رأيهم منذ اجتماعهم الأول على ضرورة مساندة المقاومة الفلسطينية من خلال الانضمام إلى فرق المتطوعين العرب التي كانت قد بدأت تتشكل في العاصمة السورية دمشق وعواصم ومدن عربية أخرى كثيرة.
وعندما أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين وأظهرت انحيازاً فاضحاً إلى جانب الصهاينة في عدوانهم السافر والمتواصل على الفلسطينيين، رأى عبد الناصر أن لحظة الدفاع عن الحقوق العربية قد أزفت لأن ما حدث في فلسطين مثل انتهاكاً صارخاً للعدالة الدولية والكرامة الإنسانية في آن معاً. وأتبع ذلك بخطوة عملية تمثلت بطلب الحصول على إجازة من الجيش المصري ليتمكن من الانضمام إلى صفوف المتطوعين. لكن شاءت الصدفة أن تأمر الحكومة المصرية الجيش بالتحرك العاجل للمشاركة في حرب الدفاع عن عروبة فلسطين قبل أن يُبت بذلك الطلب. وكان لعبد الناصر ما أراد، فخاض غمار تلك الحرب وتردد اسمه بشكل مدو في معارك أسدود والنقب وعراق المنشية، كما اكتسب شهرة كبيرة في حصار الفالوجة. وتقديراً لبطولاته وتميزه في ساحات الوغى وتقديراً لوطنيته، منحته القيادة وسام النجمة العسكرية.
واستناداً لما جاء في "فلسفة الثورة" و"الميثاق الوطني" فإن عبد الناصر بعدما اكتشف أمر الأسلحة الفاسدة وعرف الطريقة التي كان يتم بها تسيير المعارك وانتبه إلى أن القيادة العليا للجيش المصري كانت تهتم باحتلال أوسع رقعة أرض ممكنة من فلسطين دون النظر إلى قيمتها الإستراتيجية أو إلى أثرها في إضعاف مركز الجيش، وسع من دائرة نشاطاته في تنظيم الضباط الأحرار.
وأثناء حصار الفالوجة تولدت لدى عبد الناصر قناعة راسخة بأن الحصار لم يكن يقتصر على تلك البلدة الصغيرة أو فلسطين أو قطر عربي بعينه وإنما كان يشمل الوطن العربي كله من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي ولد لديه قناعة موازية مفادها أن "المواجهة الحقيقية للاستعمار والصهيونية والرجعية العربية إنما تبدأ في الحقيقة من داخل الوطن".
وعلى ضوء ذلك خلص عبد الناصر وإخوانه من الضباط الأحرار إلى أن "القاهرة حيث الانتهازيون وعملاء الاستعمار يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويشترون الأسلحة الفاسدة للجيش المصري هي نقطة البداية وليست فلسطين"، وهو ما يستدعي القول منا دون تردد أو حرج أن "حرب فلسطين 1948 بما ترتب عليها من نتائج وإفرازات وإرهاصات أسهمت إسهاماً كبيراً ومباشراً في قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 المجيدة، إلى جانب عوامل أخرى عديدة خاصة بمصر".
عُرف عن عبد الناصر وقوفه بثبات وصلابة إلى جانب الثورة الفلسطينية المسلحة التي اعتبرها أنبل ظاهرة في الأمة العربية، وتصديه بعزم وإصرار لخصومها الداخليين وأعدائها الخارجيين. وكما هو معروف فإنه أشرف على توقيع "اتفاقية القاهرة" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانية في نوفمبر/تشرين الثاني 1969 حفاظاً على الثورة الفلسطينية واستمرار مسيرتها النضالية.
وأثناء أحداث أيلول 1970 في الأردن لم يدخر عبد الناصر جهداً إلا وبذله من أجل وقف تلك الأحداث المريعة والمرعبة. وحتى يضع حداً لنزف الدم الأخوي الأردني ـ الفلسطيني دعا إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي انتهى إلى توقيع اتفاقية جديدة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية، سُميت هي الأخرى "اتفاقية القاهرة".
وبعد توقيع تلك الاتفاقية ووداعه القادة العرب اطمأن على الثورة الفلسطينية وخفق قلبه الكبير بحبها لآخر مرة وتوقف يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1970 . رحم الله جمال عبد الناصر القائد والأب والأخ والرفيق. لقد عاش للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وقضى شهيداً من أجلهما. نفتقدك. كم نفتقدك!!
يبقى عزاءُنا أنه وبرغم مرور سبعة وخمسين عاماً على انبثاق الفكر الناصري وتسعة وثلاثين عاماً على غياب صاحبه وبرغم كل ما تعرضت له الأمة من كوارث ومصائب ونائبات، لم يزل هذا الفكر يفرض نفسه بزخم واندفاع لافتين للنظر بين الجماهير العربية التي تحتضنه وتدافع عنه متحدية كل صنوف القمع والقهر التي تتعرض لها من قبل أنظمة الحكم في عواصم الوطن من محيطه إلى خليجه.
وهذا ما يستدعي بإلحاح إعادة طرح السؤال التالي للمرة الألف بعد المليون: ترى ألا تقتضي الحكمة أن يعترف حكام الأمة الآن وبعد كل هذا المخاض العربي الطويل بحالة التميز التي شكلتها ثورة 23 يوليو/تموز 1952، بفكرها وتجربتها وزعامة جمال عبد الناصر التي تجاوزت البعدين العربي والإقليمي لتشمل البعد الدولي ، بحيث يمكن أن نتوقع مع قادم الأيام أن يخطوا خطوة إلى الأمام تحفزهم على تقييمها ونقدها بشكل بناء وموضوعي لأخذ العبر من إيجابياتها وتقويم سلبياتها ووضعها موضع التطبيق العملي والبناء عليها، لإخراج الأمة مما هي عليه من تفكك ووهن وضعف واستكانة؟ أعتقد أن ذلك عين الحكمة.
كاتب وباحث عربي
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق