وجيهــة الحويــدر
كان الجندي الاسرائيلي"جلعاد" بعدته وعتاده يتلصص بحذر في زقاق ضيق مليء بالبيوت المهترئة، يفتش عن اي محارب فلسطيني لكي يرديه قتيلا، ويكمل المهمة التي ارسل من اجلها. صار "جلعاد" ينظر يميناً وشمالاً.. ويحدّق بين فينة واخرى في حيطان البيوت، كانت الجدران مليئة بالشعارات النضالية، واسماء وصور لشباب فلسطينيين ربما قتلوا في احدى معاركهم مع اسرائيل. يحاول ان يـُبعد ناظريه عنهم من اجل ان يركّز على مهمته اكثر، لكي لا يباغته احد من حيث لا يدري وينال منه.
في الجهة المعاكسة من ذاك الزقاق ثمة "عماد" مقاتل فلسطيني متلثم، ايضا يتلصص بهدوء كي يتمكن من قنص اي جندي اسرائيلي دخيل على حيه الخاوي على عروشه، ولكي يحقق الهدف الذي اتى من اجله.
كان "عماد" يشعر ان عدوه ليس ببعيد، لذلك كان يحسب كل خطوة يتخذها، لأنه يعلم جيدا ان عدوه اكفأ منه في مهارات القتال، وانه محمل بأسلحة اكثر تطورا من سلاحه "الكلاشكوف" الرديء الصنع. لكن المكان في صالح "عماد" لأنه تربى في هذا الحي، ويعرف كل شبر فيه، بعكس "جلعاد" الذي يتخبط ولا يدري ما ينتظره في الجهة الآخرى.
كانا يمشيان بخفة ويحاولان ان لا يحدثا صوتاً، فالارض كانت مليئة بالمنشورات التي نثرتها الطائرات الاسرائيلية، بعضها تـُطالب فيها سكان الحي بإخلائه، والبعض الآخر تقدم للفلسطينيين فيها عروضاً من اجل الإفشاء عن مواقع المقاتلين، وعن هوياتهم لكي تنال منهم اما تقتلهم او تعتقلهم.
"جلعاد" و"عماد" صارا يقتربان من بعضهما اكثر فأكثر بدون علم اي منهما بالآخر، بسبب ضيق الزقاق وتعرجه كان من الصعب ان يتعرفان على من يمشي في الطرف المعاكس.
فجأة شعر كل واحد منهما ان عدوه في المكان فدّب في داخلهما خوف شديد، صارت دقات قلبهما تتسارع من شدة الفزع، وبدون اي تفكير تحرك فيهما موروث عتيق، همجية رجل الكهف، وتأججت في نفوسهما نزعة القتل المختزلة في داخلهما منذ قرون سحيقة، وبدون ادنى تفكير كليهما ضعطا على زناد البندقية وبادرا بطلق الرصاص بدون ان يرا بعضهما..كلاهما اتيا بنية القتل والانتقام، لذلك الامر لا يحتمل التردد او حتى التريث ولو للحظة.
وفي اثناء اشتباكهما وتبادل اطلاق الرصاص بدون توقف، صار ازيز طائرة اسرائيلية يقترب اكثر فاكثر منهما، توقف "عماد" خوفاً على روحه من القصف الجوي، وبالتالي "جلعاد" كفا عن مواصلة القتال ولاذا الاثنان بالفرار عن المكان.
اقتربت الطائرة شيئا فشيئا وبدأت برمي القنابل على الزقاق فتهدم مسجد الحي المقابل لمكان اختبأ فيه "عماد" و"جلعاد" خلف حيطانه. تحول جزء كبير من المسجد الى ركام، واشتعلت النيران في محتوياته..ثم غادرت الطائرة بعد ان تيقن طاقمها ان المكان لا حياة فيه..
مر زمن طويل على القصف، بعدها استطاع "عماد" ان يحرك نفسه من تحت الآتربة وقد اصيب بكدمات وحروق بليغة. "جلعاد" كان ملقي على الطرف الآخر بعد ان نالت منه "النيران الصديقة" وسببت له ايضا اصابات وحروق بليغة..
لم يعد اي منهما قادر على حمل سلاحه لقتل الآخر من شدة الآلام التي شعرا بها.. كانا يتأوهان بإستمرار.. شابان غضان امامهما جميع ابواب الحياة مفتوحة، لكن الزمن اختار لهما ان يترعرعان على ارض لم يتوقف فيها سفك الدماء منذ قرون عديدة ..وشاء لهما القدر ان يلتقيان في احلك الأزمنة..
اقتربت ساعات المساء لكن الشمس مازالت تقاوم الظلام كي لا يسدل رداءه على المكان...غيوم تبدو كأنها تسللت بين الحيطان وتخللت اطلال مبان متناثـرة ..هبت نسمة حميمة وهطلت زخات مطر بارد على جسدي "عماد" و "جلعاد" فخففت عليهما اوجاع حروقهما..
سكتت تأوهاتهما لوهلة، حينها تحركت غريزة حب الحياة في "جلعاد"، وربما لأنه هو من يقف على ارض اشد صلابة.. فتح بصعوبة حقيبته واخرج منها علبة الاسعافات الأولية حيث كان يوجد فيها مراهم للحروق.. اخذ واحد ورمى بالآخر الى "عماد" وقال له بلغة عربية متعثرة:
-ضعه على حروقك..
"عماد" لم يشك للحظة بأن ذلك مرهم للحروق، لانه كان يساعد طاقم الاطباء في المستشفى في الايام الاولى من الحرب، حيث كان يُطلب منه ان يجلب ادوية ومراهم ومضمدات من سيارات الاعانات الطبية التابعة للامم المتحدة..
شكر "عماد" "جلعاد" بصوت متعب وبلغة عبرية واضحة وقال:
- تودا رابا
اخذ المرهم بحذر شديد خوفاً ان يكون "جلعاد" يدبر له مكيدة، لكن "جلعاد" كان مشغولاً في حروقه وأوجاعة وليس لديه اي نية لقتل "عماد."
بعدها شرب "جلعاد" مضاد حيوي ورمى بالباقي "لعماد" واخبره انه في حاجة له كي لا يصاب بالتهابات بسبب الحروق..
شرب "عماد" وعلامات التساؤل تحوم حوله..مدّ عماد يده وسحب قنينة الماء الملقية على الارض، وشرب نصفها واغلقها ورمى بها الى "جلعاد" قائلا له:
-اشرب ماء كي لا تصاب بالجفاف!
ابتسم "جلعاد" واخذ يشرب حتى آخر قطرة فيها.
انتهيا من معالجة جسديهما، شعرا براحة واحسا حتى لو شفيا لن يقدم اي منهما على قتل الآخر، وكأن الالم الذي استطعماه علمهما انهما حقيقة ليسا بأعداء، وان الحياة قصيرة وتستحق ان يعيشاها معاً، وانه لا معنى لحرب لا نهاية لها...
صارا يحدّقان في بعضهما البعض، واكتشفا انهما يتشابهان كثيرا، الاثنان شابان وسيمان، واجسامهما متقاربة في الحجم. كليهما لهما شعر اسود وتقاسيم ناعمة..وربما كل واحد منهما لديه ام واب ينتظران عودته، وحبيبة تحلم بأن تكون زوجة له في يوم ما.. ربما كليهما لديهما نفس الاحلام ..سيكملان دراستهما لتعلم الموسيقى، "عماد" سيجيد العزف على طبول "درمز" ويطرب الناس بصوته الجميل، و"جلعاد" سيحسن العزف على آلة الجيتار.. وربما يشكلان فرقة في يوم ما في مكان ما، و يقيمان حفلات غنائية رائعة معاً...
وبعد لحظات عبر خلالها صمت مبهم، "عماد" كسره بسؤال مهم وبصوت مليء بالحسرة:
- لماذا؟؟
"جلعاد" نظر في وجه "عماد" وعرف ماذا يعني بلماذا؟؟ هذا السؤال الذي لا يتجرأ اي محارب في اي معركة على طرحه حين يكون على الجبهة، ومن يفعل تـُلصق به تهمة الخيانة الوطنية، ويُعاقب بالسجن لسنوات طويلة..
سؤال "عماد" "لجلعاد" في غاية الأهمية..لماذا الحروب؟؟ لماذا البشر لا يستخدمون قدراتهم الذهنية لحل مشاكلهم العالقة..؟؟ خاصة في زمن توفرت لدى الانسان جميع سبل التواصل والمحادثة، لماذا الحروب؟؟ لماذا لا توجد لغة سواها بين المتنازعين..؟؟ لماذا في الصراعات الذكورية تتعطل لغة الحوار، ويصبح السلاح هو الحل المطروح دائما على الطاولة؟؟ لماذا الأوطان اهم من البشر وثقافة القتل هي السائدة؟؟ لماذا تمكن العلماء من اختراق الفضاء، وفشلوا في ايجاد حل لإشكالية النزعة القتالية في الذكور؟؟
لم يجب "جلعاد" على السؤال... لكن بادر "عماد" بسؤال ربما اهم في تلك اللحظات.. فقال له:
- انا لا اريد قتلك.. هل تريد انت قتلي؟؟
اجاب "عماد" بدون تردد ..
- بالطبع لا...لن اقتل احدا بعد اليوم..لدي منحة من دولة اوروبية للدراسة..سأذهب حالما تحط الحرب رحاها... لن اضيع يوم واحد في التفكير في الانتقام والقتل..
اجابه "جلعاد" بهدوء:
-وانا ايضا.. سأسافر للدراسة.. ولن امس بعد اليوم اي سلاح، ولن ادع احدا يدفعني الى الانتقام مرة اخرى..
ثم سكت وكأنه تذكر انه لا يعرف اسم من يتحدث اليه فسأله:
-ما اسمك؟
اجابه: عماد... وانت ما اسمك؟
ابتسم وقال: جلعاد..
ضحكا بقلب ابيض كيف ان اسمائهما تتشابه بقدر ما هما يتشابهان...
بعدها زحفا بإصرار كل منهما بإتجاه الآخر، واقتربا من بعضهما البعض شيئا فشيئا ومد كل منهما يده المحروقة للآخر ...وبصوت واحد مليء بنبرات كلها صدق وامانة وقالا:
-سلام... شالوم...سلام...شالوم...
هناك تعليق واحد:
على من تقرعي مزاميرك يا وجيهة؟
إرسال تعليق