سجعان قزي
ما هو مصير دولة نصف شعبها مهاجر والنصف الباقي شارد في الولاءات، سيادتها قرارات دولية واستقلالها إغاثة إقليمية، انتشار مؤسساتها الأمنية والعسكرية رهن وفاق يبدأ من واشنطن وينتهي في طهران مروراً بالشام؟
ما هو مصير دولة موقفها السياسي أسير الأثلاث، وقراراتها تسويات تفاقم الأوضاع، سياسيّوها لا يتكلمون بعضهم مع بعض وإن تكلموا فيتشاتمون، تعيينات مؤسساتها القضائية قيد التوقيف بانتظار رضا الطوائف، وطوائفها شَرِهة لا تشبع من ثروات الأرض؟
ما هو مصير دولة أموالها هِبات وودائع ومساعدات، واقتصادها عجز تجاري واستيراد، أراضيها برسم البيع المشبوه تارة للتوطين وطوراً لجمهوريات انفصالية ؟
ما هو مصير دولة يتسول عدد من قادتها على أبواب سفارات، وعدد آخر على أبواب متمولين. مفاهيم العزة اختلطت بين أسيادها: فمن يُـذَلُّ في الخارج يَـذُلّ هنا وكأن العبد هناك سيد هنا؟
ما هو مصير دولة تعتبر المراوحة نجاحاً، والهروب إلى الأمام حنكة سياسية، وعدم التفجير سلاماً، وتعتقد إنجازاً أن تنتهي جلسة مجلس وزرائها بدون اشتباك؟
ما هذا الشعب الذي يختلف على تحديد أعدائه وأصدقائه، ولا يتفق على أبطاله ورموزه، عدو فئة حليف فئة أخرى، وبطل طائفة خائن لدى طائفة أخرى؟
ما هذا الشعب الذي يستعمل ذات الأحرف ويحكي ذات اللغة ولا يفهم بعضه على البعض الآخر؟.
كان فكرنا استقلالياً في زمن الاحتلال، فصار تبعياً بعدما حظينا بالاستقلال. دفعنا ثمن حريتنا مرات لأننا لم نُرفق حريتنا بالكرامة والعنفوان. دفعنا مراراً ثمن اقتناء وطن لأننا لم نحصِّن وطننا ببناء دولة. نريد الغالي مَجّاناً وندفع غالياً ثمن كل رخيص. نرفض تكرار التضحيات كما يرفض تلميذ إعادة صفه لأنه رسب. المجتمع الدولي يطالب بتغير سلوك هذا النظام أو ذاك، ونحن نحتاج إلى تغيير سلوك مجتمعنا أفراداً وجماعات لتنتظم الحال.
هناك لبنانيون يظنون الإنسان أصبح مواطناً دولياً، فتركوا لبنان نحو العواصم الكبرى بعيداً عن الجذور وذكرى الآباء والأجداد. وهناك لبنانيون محتاجون تعساء تركوا لبنان بحثاً عن العمل ولم ينسوا الوطن. وهناك لبنانيون معاندون صامدون بقوا في لبنان للدفاع عن الوطن وجعله دولة قادرة على استقبال العائدين ممن رحلوا.
ممنوع على اللبناني أن يجاهر بأي مقاومة: لا ضد الفلسطيني حين حاول إبدال فلسطين بلبنان، فهو صاحب قضية؛ ولا ضد السوري حين احتل البلاد، فهو شقيق وجار؛ ولا ضد لبنانيين أشركوا في ولائهم، فهم شركاء في الوطن؛ ولا حتى ضد إسرائيل، فاحترام اتفاق الهدنة أجدى وكذلك إجراء المفاوضات.
لماذا إذن كل هذا السيل من الشهداء والضحايا والمعوقين؟
في مراحل معينة، أوهمونا بأن استقلال لبنان واستقراره يمران بالاعتراف بالدور الفلسطيني في لبنان فاعترفنا، ثم بالدور السوري فاعترفنا، ثم بالدور الإسرائيلي فاعترفنا، ثم بالتدويل فاعترفنا، ثم بالهوية العربية فاعترفنا، وأخيراً بالدور الإيراني فاعترفنا. لكن لم نجن من كل هذه الاعترافات، المنـتَـزَعة بالإكراه، سوى حروب جديدة، وانقسامات إضافية، ومزيد من تباعد اجتماعي وحضاري.
بلغت كراهية بعضنا بعضاً حدَّ تفضيل الغريب على اللبناني الآخر. يذكرني، هذا، بعبارة للكاتب الفرنسي ألبير كامو Albert Camus في "يوميات جزائرية بين 1939 و 1958" حيث جاء: "نكره أخصامنا السياسيين حتى ننتهي بتفضيل الديكتاتورية الخارجية عليهم". في حروبهم عبر التاريخ تواطأ فرنسيون مع الخارج. سعى كل فريق فرنسي إلى الحصول على دعم أطراف أوروبيين، فتدخّـل البريطانيون والبروسيون والنمساويون والروس. لكن حين توحدت فرنسا، اتحد الشعب وأنهى أدوار الأوربيين في شؤونه. نحن اللبنانيين لم نؤمن، بعد، بأن لبنان تحرّر وتوحّد، وبأنه قادر على أن يكون أقوى من الجميع، من الخارج وتدخلاته، من الحاضر وأحداثه، من الأزمات والحروب، من المؤامرات والمخططات. قراءة سريعة لتاريخ لبنان تكشف باليقين أن كلهم مروا وزالوا، وبقي لبنان.
في العقود الماضية كانت الدولة في لبنان غطاء وهمياً لتمزُّق الوطن. اليوم أصبح الوطن غطاء وهمياً لتمزق الدولة. في السابق دفع الوطن ثمن تعدد الولاءات، اليوم تدفع الدولة ثمن تعدد الهيمنات. كذا نتنقل، نحن اللبنانيين، بين وَهْم وآخر، وبين خيبة وأخرى. نبحث عن ذاتنا بعد فقدانها.
كان لبنان رجاء الشرق. وكان العالم العربي كله يحلم بأن يشبه لبنان، فصرنا اليوم ننظر في مرآة غيرنا لعلنا نرى أثراً منا، ونفتش عن مصالحنا في مشاريع غيرنا.
نحن شعب تعيس نغطي حزننا بفرح مُفرط وبنمط حياة يلهينا عن مشاكلنا الأساسية والعميقة. نحن سكارى نداوي أحزاننا بالخمرة حتى الثمالة. ومن منا لا يحتسي الخمرة يداوي أمراضه بالتديّـن حتى التطرف. فقدنا حضارتنا وراء أكياس الرمل، وثقافتنا على خطوط التماس. نحن نحتاج، أكثر من الفلسطينيين، إلى وكالة غوث اللاجئين، بل إلى وكالة غوث المحبطين. لا تقوم أمة بدون الحرية والمساواة والأخوة. غير أن حريتنا فوضى، مساواتنا غائبة، وأخوّتنا زائفة. لا قيمة لأي علاقة ثنائية ما لم تصب في العلاقة الجماعية أو تنبع منها.
هل يستطيع اللبنانيون أن يتفقوا على تحديد الإرث اللبناني والتراث، قبل البحث حاضراً عن حقوقهم في الوطن وصلاحياتهم في الدولة؟ ما هو إرث لبنان لكي نكون ورثته؟ أليس الإرث هو ما بقي من أثار الفاتحين وما أبدع اللبنانيون؟ أين تماثيل عظمائنا؟ أين الشوارع بأسمائهم؟ حتى هذه الساعة لم تعلن الدولة شارعاً باسم بشير الجميل، فيما شوارع "آل الأسد" ونُصُبهم ومُجمّـعاتهم تَـعُـمُّ البلد. ماذا بقي من الثقافة اللبنانية؟ ماذا بقي من الحضارة اللبنانية؟ ماذا بقي من لغتنا وأدبنا وشعرنا وفننا وأغانينا؟ وبِمَ استبدلنا ما خسرناه؟
حين خسرت فرنسا وهجها الثقافي عوّضته بالتكنولوجيا، وحين خسرت اليابان وألمانيا سيطرتهما العسكرية عوضتهما بنهضة اقتصادية. أما نحن، فننتظر عودة الماضي عوض أن نبتدع المستقبل. لم نفلح في إرساء وجودنا على ضمانات ذاتية، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا وطنياً ولا مالياً ولا زراعياً ولا صناعياً. نَـدين للخارج باستقرارنا في كل هذه المجالات محكومين بتبعية دائمة لأكثر من طرف غريب. نحن بحيرة تصبّ فيها أنهر صغيرة بدون تحفُّـظ وبدون احترام.
لا يمكن هذا الواقع أن يستمر إذا أردنا أن نكون دولة مستقلة وحرة. الاستقلال ليس قراراً سياسياً بل مجموعة مكونات يجب أن تتوفر في الدولة والمجتمع بعد الاستقلال ليبقى الاستقلال.
بعض ثرواتنا وردت من ربح غير مشروع، وغالبية مظاهر الثروة أتت من حسابات مثقلة بالديون. الشرفاء يعيشون حياة البساطة، والوصوليون يعيشون حياة بورجوازية تكشفها تصرفاتهم غير المنسجمة مع تقاليد هذه الطبقة. كانت الأخلاق والمبادئ معيار قيمة الإنسان، فأصبحت المظاهر السطحية هي المعيار. هل بقيت لدينا أحلام أم صرنا أسرى حاجاتنا اليومية؟ لقد فقدنا من حقل نظرنا المدى التاريخي والبعد المستقبلي. لو عاد أفلاطون لوجد لبنان نقيض جمهوريته الفاضلة، ولو رجع أرسطو لوجده نقيض سُلّم قيمه.
لا الوطنية متعافية ولا المواطنية، فاللبنانيون انتقلوا من اللاوطنية إلى الوطنية من دون المرور بالمواطنية. لقد ظلوا في الحالة الطائفية وأضافوا إليها حالة مذهبية. وما دام اللبنانيون انتقلوا إلى الوطنية وبقوا في طائفيتهم (لا طوائفهم)، فالحالة الوطنية ستبقى هشة، من دون مناعة مما يُعرِّضها للوقوع مجدداً في تفسيرات متعددة وولاءات مختلفة. إن الشعور المواطني أضمن أحياناً من الشعور الوطني. الأول لا يخلو من مذاق عصبي، بينما الثاني وجداني، عقلاني، ومسؤول.
أوروبا المتحدة تُبنى رغم كل العراقيل والصعوبات، لأن شعوبها صمّمت على ذلك. أما نحن في لبنان، فكلما واجهتنا مشكلة نشكك بالكيان. نحب أن نعيش معاً ولا نريد أن نحكم معاً. إن الإرادة الوطنية المشتركة غير موجودة، والشراكة الوطنية مشروع هيمنة مُضمَر. إن الهيمنة لا تؤدي إلى التقسيم، إنها التقسيم، فحين تسيطر على حصتي تقسِّم.
نكبة لبنان أنه محكوم بالوحدة مع وقف التنفيذ، وبالتقسيم مع وقف التنفيذ، ومأساته أنه ينفذ عقوبة أقسى من الاثنين هي الحروب والأزمات المتلاحقة. كنا في الماضي مختلفين على الجوهر (الكيان) ومتفقين على الوجود (التعايش). اليوم أصبحنا متفقين على الكيان ومختلفين على الوجود، مما ولّد بيننا انقساماً إضافياً حول الدولة. ورغم ذلك نتحاشى مواجهة الحقيقة ونخشى تقرير مصيرنا. نقاوم العالم ولا نقاوم أنفسنا، ننتصر على قوة غيرنا وننهزم أمام ضعف أنفسنا. ننتظر الاضمحلال التدريجي على النهضة التاريخية.
هذا ليس قدرنا. الحلول متوافرة. يكفي أن نُقبِـل إليها، ولا نتصرف كمريض يهرب من الطبيب ويمتنع عن تناول دواء ينقذ حياته. لنقل كلمة واحدة فتحيا بها أنفسنا: أي لبنان نريد؟
نحن المسيحيين، أجبنا عن السؤال. سنة 1920 اخترنا لبنان الكبير، وسنة 1943 اخترنا الميثاق الوطني والاستقلال، وسنة 1982 اخترنا الوحدة والحكم القوي. لكن أجوبة المسيحيين لم تُماثِلْها أجوبة آخرين، فتفجّرت على أرضنا أزمات وحروب.
في 14 آذار سنة 2005 توحّد الجواب بين المسيحيين وفئات إسلامية ودرزية واسعة. لكن الجواب ظلّ غنائياً، ودهَمته الأحداث. فلنطرح السؤال من جديد. إذا توحّدت الأجوبة الجديدة، نبني دولة موحدة ومركزية، وإذا اختلفت نبني دولة اتحادية، وإذا تناقضت فهـيّوا إلى التقسيم. لكن... ماذا نقسِّم؟ غابة الأرز؟ أعمدة بعلبك؟ مغارة جعيتا؟ تراث صيدا وصور؟ الأبجدية الفينيقية؟ فكر فلاسفتنا وقصائد شعرائنا؟ أسواق بيروت وما بقي من قرميدها؟ أجساد أبنائنا؟ نحن قاومنا لمنع التقسيم، قاومنا من أجل وطن كامل لا من أجل محافظة أو قضاء أو قرية.
إن لم يكن طبيعياً أن نتجه نحو التقسيم، فالطبيعي أن يطرح اللبنانيون في المراحل التاريخية المفصلية أسئلة مصيرية. إن الدول الكبرى تطرح اليوم مصيرها، فكيف بدول مثلنا؟ سنة 2006 طرحت الصحافة الفرنسية مسألة "مصير الأمة الفرنسية" واشترك في إبداء الرأي مفكرون وسياسيون كبار، وجاءت الأجوبة كلها تعزز وحدة فرنسا.
هـيّـا نعزز لبنان الرسالة، لكن أيستطيع أن يكون لبنان رسالة في محيط التطرف والجهادية والإرهاب والفكر الانتحاري؟
مجلة المسيرة
السبت، يناير 17، 2009
أنّـى لـ"لبنان الرسالة" أن يحيا في هذا المحيط؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق