صبحي غندور
هل نضجت الآن عناصر التسوية الشاملة للصراع العربي/الإسرائيلي، وهل كان ما حدث في غزّة من عدوان إسرائيلي وحشي هو الثمن الفلسطينيّ الباهظ الذي جرى دفعه لتسهيل التسوية الشاملة؟!
فالظروف القائمة الآن تساعد كلّها على عقد مؤتمر دولي جديد في الربيع القادم يجعل من المبادرة العربية للسلام أساساً لهذا المؤتمر، وبغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية القادمة.
فإدارة باراك أوباما بدأت عهدها بتأكيد الاهتمام بملفّات الصراع العربي/الإسرائيلي، وبالنّظرة الإيجابية للمبادرة العربية، وبأنّها ستعطي أولوية لهذا الأمر من خلال اختيارها السناتور جورج ميتشل ليكون موفداً خاصّاً لمعالجة ملفّات هذه الصراع، كما سبق له أن فعل ونجح بشأن الأزمة الأيرلندية.
أيضاً، فرغم حجم الدمار والإجرام الذي مارسته إسرائيل في غزّة، بقي الموقف الدولي عموماً متماسكاً خلف الأسس التي قد يقوم عليها المؤتمر الدولي القادم، كما بدا ذلك في قرار مجلس الأمن رقم 1860، وبما استتبعه من تحرّك أوروبي مع مصر وإسرائيل، ثمّ في مضامين كلمات باراك أوباما وهيلاري كلينتون عن نهج الإدارة الجديدة في الشرق الأوسط.
حتى على المستويين العربي والفلسطيني، فقد استمرّ النهج الذي يراهن حصراً على أسلوب المفاوضات مع إسرائيل، والذي يتمسّك بشرعية قيادة السلطة الفلسطينية وحدها ويرفض أسلوب المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل.
أمّا إسرائيلياً، فإنّ المسؤولين عن قرار الحرب على غزّة (أولمرت – باراك – ليفني) هم أنفسهم الذين كرّروا التصريحات في الأشهر الأخيرة عن "إيجابيات" تراها إسرائيل الآن في المبادرة العربية للسلام، بل شجّعوا على حملة الإعلانات الإيجابية داخل إسرائيل حول هذه المبادرة العربية!!
إنّ "توفير" الأجواء المناسبة للمؤتمر الدولي على قاعدة المبادرة العربية قد حصل الآن. ورحم الله شهداء غزّة الأبرار وكان الله بعون آلاف المصابين والمشرّدين، فمن هذه الدماء البريئة يتمّ الآن صناعة الصيغ المناسبة للتسوية الشاملة.
وستكون الأولوية الآن حتماً إنهاء الانقسام داخل الجسم الفلسطيني وفق ترتيبات تفرز حكومة وحدة وطنية، تكون على الأرجح حكومة غير سياسية، وتشرف على إعادة إعمار غزّة (من أموال عربية ودولية وبلا أيّة مسؤولية إسرائيلية)، وتتولّى أيضاً مسألة فتح المعابر بمشاركة المراقبين الأوروبيين، مع توافق على هدنة أمنية جديدة مع إسرائيل وربّما على تأجيل الانتخابات الفلسطينية إلى العام القادم.
أمّا المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل، فستكون من مسؤولية قيادة السلطة لا غيرها بحيث يكون قرار المقاومة الفلسطينية إعطاء مهلة زمنية لهذه المفاوضات في ظلّ المتغيّرات الحاصلة الآن واحتمالات الجدّية في تنفيذ مضامين المبادرة العربية.
فالحرب على غزّة وضعت جميع الأطراف أمام خلاصات جديدة: لا إمكانية لإنهاء المقاومة ولا لتجاوزها أو تجاهلها.
في المقابل: لا إمكانية لتغيير جذري في الموقف الرسمي العربي أو الفلسطيني، ولا لتجاوز دور قيادة السلطة أو تجاهل الدعم الدولي والعربي لها!!
هي الآن معادلة توازن "اللاءات" بعدما ثبت أيضاً في الحرب الإسرائيلية على غزّة استحالة فتح جبهات أخرى أو أيضاً تجاهل الغليان الشعبي الكبير الذي حدث في معظم البلدان العربية وخارجها.
وهذه "الضوابط" العسكرية والشعبية شكّلت حالة من "الخطوط الحمراء" لدى الأطراف المختلفة عربياً وفلسطينياً، إذ تبيّن أنّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها من قبل الداعمين للمقاومة، كما ظهرت حدود أخرى أمام من يرفضون نهج المقاومة.
في المحصّلة، يبدو أنّ إدارة باراك أوباما، التي لن تأخذ حتماً بنهج إدارة بوش في الشرق الأوسط، ستعود في سياستها بالمنطقة إلى النهج الذي كانت عليه الإدارة الأميركية في فترتيْ بيل كلينتون من تشجيع على تسويات سياسية، كما حدث في الاتفاق الفلسطيني/الإسرائيلي في أوسلو وما بعده، وكما جرى بين الأردن وإسرائيل في اتفاق وادي عربة، وفي دعم المفاوضات بين سوريا وإسرائيل حتى نهاية عهد كلينتون، وطبعاً مع ضغوط مارستها واشنطن في تلك الحقبة على عدّة أطراف عربية لمباشرة خطوات التطبيع مع إسرائيل دون انتظار لمصير المفاوضات.
الأمر المختلف الآن، أنّ اتفاقات أوسلو وما بعدها لم تثمر سلاماً ولا انسحاباً إسرائيلياً ولا دولة فلسطينية، وبأنّ نهج المقاومة هو الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من لبنان أولاً في العام 2000 ثمّ من غزّة في العام 2005.
أيضاً، لم تكن أميركا في حقبة كلينتون بعقد التسعينات متورّطة عسكرياً في حروب بالمنطقة، ولا كانت إيران قوّة مؤثّرة وفاعلة في أوضاع المنطقة كما هي عليه الآن، ولا كانت هناك مبادرة عربية للسلام مُجمَع عليها من قبل الحكومات العربية، ولا كان هناك هذا الانقسام الحاد في الجسم الفلسطيني بل في الرأس الفلسطيني.
هذه كلّها متغيّرات قائمة الآن تدفع أوباما إلى التعامل معها في الشرق الأوسط، فسياسته حيالها حتماً لن تكون استمراراً لسياسة إدارة بوش، لكنّها أيضاً لن تنفصل عن الرؤية الأميركية العامّة للشرق الأوسط، وهي الرؤية التي أنتجت خلال عهد جيمي كارتر اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والتي وضعت بعهد جورج بوش الأب ضوابط المفاوضات العربية الإسرائيلية في مؤتمر مدريد، ثمّ رعت خلال عهد بيل كلينتون الاتفاقات والمفاوضات.
إنّ العائق الأكبر، بالمفهوم الأميركي/الأوروبي/الإسرائيلي المشترك، أمام التسوية الشاملة الآن هو الحالة الفلسطينية وما فيها من رأسين للجسم الفلسطيني، ومن رفض الرأس الفلسطيني في غزّة التخلّي عن العمل المسلّح والاعتراف بإسرائيل.
فالجبهتان المصرية والأردنية هما في حالة معاهدات مع إسرائيل التي أحيت من جديد المفاوضات على الجبهة السورية عبر تركيا، أما الجبهة اللبنانية فقد جرى إخراجها من حلبة الصراع العسكري بالقرار 1701 بعد حرب صيف 2006، وبالتالي أصبحت الظروف مهيّأة لمؤتمر دولي من أجل تسوية شاملة لكن بعد حلّ "مشكلة الرأس الفلسطيني" في غزّة.
وقد كان أمام الحكومات العربية فرصة كبيرة لكي تعيد النظر في خلافاتها وأوضاعها المزرية على أكثر من صعيد، وبأن تجعل من الحرب الإسرائيلية على غزّة مدخلاً لتضامن عربي يفرض على إسرائيل التنازلات ويعاقبها بالحدّ الأدنى سياسياً واقتصادياً، ويدفع الأطراف الفلسطينية إلى توحيد موقفها السياسي على قاعدة الجمع بين "اليد التي تحمل البندقية، واليد التي تحمل غصن الزيتون".
لكنّ ذلك لم يحصل حتى الآن، وقد تنجح إسرائيل في حرق كلّ أشجار زيتون فلسطين لكنّها ستعجز دوماً عن قطع اليد التي تحمل البندقية.
قرأت مؤخّراً وثيقة جرى تداولها على شبكة الإنترنت، وفيها رسالة من عبد القادر الحسيني، الذي كان يقود مقاتلين فلسطينيين خلال حرب 1948، إلى أمين عام جامعة الدول العربية، يقول فيها: "أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصارهم بدون عون أو سلاح". وتاريخ الرسالة كان 6 نيسان/أبريل 1948، وبعد فترة وجيزة سقطت البلدة التي كان فيها الحسيني ثمّ حدثت مجزرة دير ياسين!!
الخميس، يناير 29، 2009
ثمنٌ فلسطينيٌّ باهظ من أجل التسوية الشاملة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق