د. عبدالله المدني
قبل سنوات تلقيت دعوة من القائم بأعمال السفارة البنغلاديشية لدى البحرين لمقابلته في مبنى السفارة بقصد التعارف، وكان مما لفت نظري قبل الدخول على الدبلوماسي البنغلاديشي وجود صورة كبيرة مثبتة على الحائط في قاعة الانتظار للبيغوم خالدة ضياء التي كانت انتخابات العام التشريعية قد جاءت بها إلى السلطة. غير أن ما استرعى انتباهي أكثر هو وجود صورة بالمقاس نفسه موضوعة على الأرض ولكأنما تنتظر دورها لكي ترفع على الحائط. ولما كانت الصورة الأخيرة لزعيمة المعارضة الشيخة حسينة واجد، فاني وجدت نفسي أسأل القائم بالأعمال بدافع الفضول عن سبب وجود صورتي السياسيتين الغريمتين معا في السفارة وعما إذا كان ذلك لا يسبب إحراجا شخصيا له.
جواب سعادة القائم بالأعمال جاء ليختزل كل ما مرت به بلاده مذاك. إذ قال: صحيح أننا نرفع اليوم صورة خالدة، لكن حسينة قد تأتي في الغد ونضطر إلى إنزال صورة الأولى ورفع صورة الثانية، وبالتالي فانه من الحكمة البقاء جاهزين لكل الاحتمالات. وبطبيعة الحال فان كل متابع لشئون هذه الدولة التي انسلخت في عام 1971 عن باكستان وبثمن باهظ تمثل في مقتل أكثر من 300 ألف بنغالي مسلم على يد إخوتهم في العقيدة من مسلمي باكستان، يدرك أنها لم تنعم بالاستقرار منذ ولادتها.
إذ لم يمر سوى ثلاث أعوام إلا ومؤسس البلاد وأول قادتها الشيخ مجيب الرحمن وكافة أفراد أسرته (باستثناء ابنته حسينة التي كانت حينئذ في ألمانيا) يلقون مصرعهم على أيدي العسكر الذين قيل أنهم ارتكبوا جريمتهم النكراء تعبيرا عن غضبهم من سياسات الشيخ مجيب التي استفرد بالحكم وحظر الأحزاب وغير الدستور من اجل إقامة نظام برلماني شبيه بالنظام البرلماني الهندي وحاول نشر ما عرف لاحقا بالفلسفة المجيبية (أو مجيباد) والقائمة على أربع دعامات هي: القومية والديمقراطية والاشتراكية والعلمانية. وقد شكل هذا الحدث في وقته صدمة للكثيرين ولا سيما مؤيدي الحزب الذي خاض الشيخ مجيب تحت لوائه آخر انتخابات تشريعية في جناحي باكستان في عام 1970 وأول انتخابات تشريعية في بنغلاديش في عام 1973 ، ألا وهو حزب رابطة عوامي. في الانتخابات الأخيرة كانت النتيجة هو حصول عوامي على 307 مقاعد من أصل 315 مقعدا، وهو ما كان يبشر بحكومة مستقرة قادرة على اتخاذ القرارات دونما صداع تسببه قوى المعارضة.
بمقتل الشيخ مجيب والقبض على العديد من مساعديه والمقربين منه آلت الرئاسة إلى أقوى شخصية في الحكومة واحد أكثر الشخصيات المحافظة داخل حزب رابطة عوامي وهي خونداكار مشتاق احمد. ورغم أن الأخير وعد بإجراء انتخابات حرة سريعة وإعادة التعددية السياسية إلى البلاد، إلا أنه لم يقدم على أية خطوة لمعاقبة الذين اغتالوا الشيخ مجيب وأفراد أسرته. وفي نوفمبر 1975 شهدت بنغلاديش سلسلة من الانقلابات الفاشلة التي استهدفت تقييد يد الرئيس مشتاق احمد لكن دون السماح لأنصار الشيخ مجيب الرحمن بجني مكاسب. وإزاء هذه التطورات اضطر الرئيس مشتاق لترك الرئاسة إلى وزير العدل " محمد صائم " الذي صار في الوقت نفسه قائدا لإدارة الأحكام العرفية التي كان من أكثر المتنفذين فيها رئيس هيئة الأركان الميجور جنرال ضياء الرحمن. وليس أدل على مدى نفوذ الأخير في سلطة الأحكام العرفية، أنه سرعان ما أزاح محمد صائم كقائد لإدارة الأحكام العرفية و حل مكانه في نوفمبر1976 ، قبل أن يزيح الأخير كرئيس للبلاد ويحل مكانه أيضا في ابريل 1977 . وبقدوم مايو 1977 بات واضحا أن الجنرال ضياء الرحمن هو الحاكم المهيمن خاصة وان استفتاء حول شخصه في ذلك الشهر عزز تلك الصفة، وان لم تمنحه الشرعية المطلوبة لعدم تنافسه مع آخرين.
وللتغلب على مسألة الشرعية الناقصة، رتب ضياء الرحمن لانتخابات رئاسية في يونيو 1978 وخاضها ببرنامج انتخابي من 19 نقطة تحت مسمى " سياسة الأمل "، كان أبرز ما جاء فيها ضرورة إحداث ثورة اقتصادية واجتماعية في بنغلاديش من خلال التركيز على التخطيط الأسري والتوسع الزراعي الهادف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطعام، هذا فضلا عن ضرورة إيجاد تصور موحد لمشكلات شبه القارة الهندية وتنسيق جهود دولها من خلال تكتل إقليمي من اجل الحلول الكفيلة بالقضاء على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. وفي هذه الانتخابات التي جرت وفق ما خطط لها الجنرال ضياء الرحمن وفاز فيها مستخدما كاريزميته وتاريخه العسكري كأحد أبطال الاستقلال، فاز حزب بنغلاديش الوطني الذي شكله ضياء خصيصا لخوض الانتخابات بمائتي وسبعة 207 مقاعد من أصل ثلاثمائة مقعد، فيما حصلت المعارضة ممثلة بحزب رابطة عوامي على تسعة وثلاثين مقعدا فقط.
وبفوز الجنرال ضياء وتعزز نفوذه ومركزه جوبه الرجل بمعارضة حادة من قادة حزب رابطة عوامي الذين نظروا إليه كعسكري لا يختلف عن الذين أرادوا الوصول إلى السلطة عبر إراقة دم الشيخ مجيب الرحمن، خصوصا وان الجنرال ضياء لم يصدر منه اية توجهات تشير إلى رغبته في إلقاء القبض على أولئك العسكر ومحاكمتهم. هذا علاوة على إهماله التام للدعامات الأربع التي أرادها الشيخ مجيب لدولة بنغلاديش.
وفي الثلاثين من مايو 1981 انتهى حكم الجنرال ضياء الرحمن فجأة باغتياله في ثانية كبرى مدن بنغلاديش (تشيتاغونغ)، وذلك في مؤامرة لا تزال تفاصيلها غامضة، وان تردد أن من ارتكبها كانوا من رموز الاستقلال والتحرير في إشارة إلى أحداث تقسيم باكستان. بعيد هذه الحادثة الدموية التي أفقدت البلاد زعيما شهد عهده نموا اقتصاديا ملموسا بفضل تضافر عدة عوامل مثل المساعدات الخارجية المعتبرة والأحوال الجوية المناسبة للزراعة والسياسات الاقتصادية الصائبة، تسلم الرئاسة بصفة مؤقتة ووفقا لمواد الدستور نائب الرئيس " عبدالستار " الذي وعد بإجراء انتخابات رئاسية في غضون 180 يوما. وباجراء تلك الانتخابات في نوفمبر 1981 فاز عبدالستار بالرئاسة، لكن الكثيرين وجدوه زعيما مسنا محاطا برمز ووزراء فاسدين وغير قادر على تنفيذ تطلعات الشعب. في الوقت نفسه طالب رئيس هيئة الأركان الليفتينانت جنرال حسين محمد ايرشاد بوضع دستور جديد لبنغلاديش يعطي دورا للجيش في إدارة البلاد. ولما كان الرئيس عبدالستار ضد تدخل العسكر في السياسة، فانه رفض طلب ايرشاد، الأمر الذي عجل في قيام الأخير بتنفيذ انقلاب عسكري في 24 مارس 1982 وإزاحة الرئيس عبدالستار وحكومته.
بدأ ايرشاد عهده بالكثير من المظاهر التي صاحبت عهد ضياء مثل إعلان الأحكام العرفية وفرض القيود على حرية التعبير والتضييق على الصحافة. وككل الحكام العسكريين، تكررت وعود ايرشاد بإجراء انتخابات عامة حرة وحددت تواريخ مختلفة لذلك، إلا أن أيا من تلك الوعود والتواريخ لم تحترم. وفي مارس 1985 قرر ايرشاد أن يستفتي الشعب حول شخصه في استفتاء عام، كان سؤاله الوحيد: نعم لايرشاد أو لا لايشاد؟ وجاءت النتيجة طبقا للبيانات الرسمية أن الرجل حصل على تأييد شعبي عارم، لكن التقارير غير الرسمية أفادت بأن صناديق الاقتراع تم ملؤها بأوراق تقول نعم لايرشاد.
أخيرا قام ايرشاد في مايو 1986 وبعدما شكل حزبا سياسيا خاصا به وبأتباعه تحت اسم حزب جاتيا بإجراء الانتخابات العامة الموعودة. فحصل الحزب الأخير على جل المقاعد (300) فيما ذهبت مائة من المقاعد للمعارضة ممثلة في حزب رابطة عوامي الذي فضل المشاركة في هذه الانتخابات على العكس من حزب بنغلاديش الوطني الذي فضلت زعيمته وأرملة مؤسسه " البيغوم خالدة ضياء" المقاطعة .
اقترب عهد ايرشاد من النهاية في خريف 1987 حينما شهدت البلاد مظاهرات شعبية كاسحة تعاون فيها لأول مرة حزبي البلاد الكبيرين رغم خلافاتهما المريرة، وهو الأمر الذي حول ايرشاد التعامل معه بالدعوة إلى انتخابات جديدة. والأخيرة جرت في مارس 1988 وشهدت عمليات تزوير ومقاطعة من حزبي رابطة عوامي وبنغلاديش الوطني. وكان لعهد ايرشاد أن يستمر بعض الوقت لولا المتغيرات العالمية في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وقيام النظام العلمي الجديد بقياد الولايات المتحدة التي شرعت تحارب الأنظمة الديكتاتورية.
وهكذا سقط نظام ايرشاد في ديسمبر 1990 لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ بنغلاديش، لئن تميزت بعودة الحكم الديمقراطي المدني التعددي، فإنها شهدت أيضا مظاهر اللااستقرار المصاحب للعنف، فضلا عن تكريس حالة العداء لشخصي المرير ما بين الشيخة حسينة واجد البيغوم خالدة ضياء وبالتالي انقسام البلاد ما بين حزبي هاتين الأرملتين. وبطبيعة الحال فقد صاحب ها الوضع مذاك سجالا ما بين حسينة وخالدة ان لجهة تداول الحكم أو تبادل الاتهامات بالفساد والمحسوبية والتزوير وتحريك الشارع ضد بعضهما البعض . فكلما جاءت الأولى إلى السلطة اتهمتها الثانية بالتزوير والفساد وأبت عليها الشارع بكل الوسائل المتاحة، والعك بالعكس.
وحينما جاء موعد الانتخابات البرلمانية المفترض في عام 2007 ، حدث الخلاف حول من يتزعم الحكومة الانتقالية التي ستشرف عليها، وكان ذلك متوقعا بسبب غياب الثقة ما بين حزبي البلاد الرئيسيين وزعيمتيهما. وقد تفاقم الأمر وقتذاك ووصل إلى التناحر في الشوارع، الأمر الذي حذا برئيس البلاد " لاجوالدين احمد " صاحب المنصب الفخري إلى فرض الأحكام العرفية، في خطوة وصفت بأن الجيش يدعمها بقوة من اجل اتاحة فترة لالتقاط الأنفاس وإحداث تعديلات دستورية مفضية إلى مكافحة أعمال التزوير في الانتخابات العامة التي كانت على الدوام ذريعة الأحزاب للتشكيك في النتائج.
في الأسبوع ما قبل الماضي انتهت الانتخابات الجديدة التي لم تأت في الواقع بجديد. فبفوز الشيخة حسينة وحزبها وحلفاء الأخير من الأحزاب السياسية الصغيرة، وتحول خالدة ضياء وحزبها وحلفائها إلى مقاعد المعارضة، وتشكيك الأخيرة في نزاهة الانتخابات، يصح أن نقول " ها هي حليمة ( بنغلاديش ) قد عادت إلى حالتها القديمة ". إن الجديد الوحيد هو أن حالة الطواريء لم تستمر هذه المرة طويلا بعكس الحقب السابقة.
د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 18 يناير 2009
البريد الالكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق