فايز رشيد
السفير
لعل الأدق تعبيرا هو: ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحتفل بذكراها الستين بدلا من عيدها الأربعين. ذلك أنها امتداد لحركة القوميين العرب، التي تأسست في نهاية الأربعينيات على يد مؤسسها القائد جورج حبش ورفاقه. حركة القوميين العرب استطاعت أن تكون الحاضنة للحركات الوطنية في الكثير من المناطق والبلدان العربية، وهي مثلث في إيجابياتها وسلبياتها تجربة فريدة في النضال الوطني التحرري، وزاوجت بين الوطني والقومي في معادلة فريدة وناجحة. وان كنا في هذا اليوم نستذكر الجبهة الشعبية في ذكرى انطلاقتها، فإننا نقف أمام تاريخ حافل مجيد من العطاء والنضال والتضحيات والإسهام الكبير في الكفاح الوطني الفلسطيني، وتاريخ من الدروس الفذة التي اختطتها في المسيرة النضالية ليس على المستوى الوطني أو العربي وانما أيضا على صعيد حركة التحرر الوطني العالمية.
لقد أعطت الجبهة الشعبية للماركسية (مثلما قال الشهيد جورج حاوي، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني) بُعدها العربي، وبذلك شكلت خصوصية فريدة في حركة اليسار العربي، واستطاعت ومن خلال طرحها الفكري الإنساني، استقطاب العديد من المناضلين على صعيد العالم، كم حددت صورة دقيقة لكيفية إقامة التحالفات على الصعيد الدولي. لقد زاوجت الجبهة الشعبية بين الإيمان النظري ووضع البرامج، وبين التطبيق العملي على صعيد الواقع، وفي العلاقة مع جماهيرها الفلسطينية والجماهير العربية في الساحات التي كانت فيها، وحيثما هي موجودة حاليا.
قدمت الجبهة الشعبية مئات الشهداء، بدءا من صفوفها القيادية الأولى: أمينها العام السابق: الشهيد أبو علي مصطفى، وصفها القيادي الأول: غسان كنفاني، غيفارا غزة، وديع حداد، صابر محيي الدين، أبو أمل، أبو منصور وغيرهم مرورا بمستوياتها الكادرية، وصولا الى مقاتليها ومناضليها. لقد قال العدو الصهيوني عن عضو مكتبها السياسي: الشهيد محمد الأسود (غيفارا) بأنه الذي كان يحكم القطاع في الليل، ولعل تجربة المقاومة في جبال الخليل في مرحلة ماضية تسجل للجبهة الشعبية بأحرف من نور، وكذلك هي تجربتها المقاومة في (بيت فوريك)، وغور الأردن، والقدس وجنوب لبنان، كذلك هي التجربة النضالية لأعضائها في سجون العدو الصهيوني، وعلى رأسهم أمينها العالم الحالي: أحمد سعدات، الذي جرى اختطافه (ورفاقه) غدرا من سجن أريحا، وما يمثله حاليا من صلابة فولاذية، ان في مواجهة المحققين، أو في الصمود الأسطوري في السجن وكذلك في محاكم العدو الصهيوني.
لعل من أكثر القضايا التي تتمايز بها الجبهة الشعبية: الصدق مع الذات ومع الجماهير الفلسطينية، ان على الصعيد السياسي أو الفعلي النضالي، فهي المتوائمة مع أطروحاتها الاستراتيجية ونهجها التكتيكي، وهي التي تعترف بأخطائها علنا وفي ما يصدر عنها من أدبيات بعد إجراء محطاتها القيادية للوقفات التقديمية النقدية، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك: موضوع خطف الطائرات، الذي أوقفته بعد بضع سنوات، وبعد أن استنفد غرضه في الفترة التي مارسته خلالها. ولعل من أكثر ما تتمايز به الجبهة الشعبية في علاقاتها مع الفصائل الفلسطينية الأخرى هو تطبيقها المبدئي لقانون تحالف ـ صراع ـ تحالف، فبرغم أنها كانت رأس المعارضة الفلسطينية منذ انطلاقة الثورة الحديثة وحتى هذه المرحلة. ان في منظمة التحرير أو خارجها، لم يسجل على الجبهة الشعبية أنها دفعت سلاحا في وجه رفاق الدرب الآخرين، ولم تلوث بنادقها بالدماء الفلسطينية، بل أدركت على الدوام حقيقة التناقض التناحري، وفقط تمارسه ضد العدو، وحقيقة التناقضات الثانوية والتعارضات مع الفصائل الاخرى، في إطار من وضوح المواقف وبعيدا الحسابات الذاتية والمصالح، ان في علاقاتها التحالفية الفلسطينية أو العربية. ولعل التجربة الأبرز في تحالفات الجبهة الشعبية مع حركة التحرر الوطني والوطني الديموقراطي العربية، هي تحالفها مع الحزب الشيوعي اللبناني، الذي وبحق شكل بدوره تمايزا كبيرا وواضحا في حركة اليسار العربية، على الصعيدين السياسي والنضالي المقاوم.
ومن المستحيل الكتابة عن الجبهة الشعبية دون التطرق الى مؤسسها وأمينها العام الأسبق: الدكتور جورج حبش (أمد الله في عمره) أحد رموز النضال الفلسطيني والعربي والأممي، والذي ضرب أروع الأمثلة في التخلي عن منصبه، وبذلك ساهم ايضا في تمايز الجبهة، وكذلك البعض من قادتها التاريخيين مثل: أبو ماهر اليماني وصلاح صلاح وغيرهم، والذين أعطوا ذات الدرس.
في ذكرى انطلاقتها.. كل التحية لقيادات وكوادر ومناضلي الجبهة الشعبية حيثما كانوا، فبنضالاتهم يكرسون الأصالة الوطنية الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق