الكولونيل شربل بركات
منذ نشأة لبنان الحديث تحت ظل الوصاية الفرنسية اختار اللبنانيون النظام الوحدوي تماثلا، ربما، بالنظام الفرنسي، وقد استقى المشرعون الذين وضعوا دستور البلاد أغلب مواده من دستور الجمهورية الثانية الفرنسية. يومها ألغيت خصوصية المناطق والمقاطعات، التي كانت تشكل نوعا من الضمانات لبعض الفئات التي اعتبرت لبنان موئلها وحصنها، لصالح الدولة الموحدة التي تعتمد الديمقراطية العددية، من حيث المبدأ، كشكل للتعبير عن رغبات الشعب وتحقيق أمانيه. ولكن الأحداث التي تلت، وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، حيث حاولت ألمانيا النازية تحريك مشاعر العداء لليهود في فلسطين لإثارة القلاقل ضد الإنكليز بواسطة الأحزاب القومية، أعادت طرح المواضيع الدينية والحساسيات الطائفية، وكانت قيامة لبنان المستقل، سنتين بعد تحريره من سلطة حكومة فرنسا- فيشي (التابعة للألمان) وتجاوزا لهذه الحساسيات، تستند على حقوق الطوائف وتمثيلها لمنع الشعور بالغبن أو الاستقواء، فكان ميثاق 1943 الذي اعتمد كأساس في توزيع السلطات.
ولكن انسحاب الإنكليز من فلسطين وقيام دولة إسرائيل (الدينية) أطلقا العنان للأحزاب القومية التي، وبعد اندحار ألمانيا النازية، خلطت أكثر فأكثر بين الشعور الديني والشعور القومي. ثم جاءت الحرب الباردة بين الشرق والغرب وانتشار الشيوعية لتزيد من عدم الاستقرار وتمعن في تفتيت المجتمع. وكانت الانقلابات في الدول المجاورة؛ مصر أولا ثم سوريا والعراق، مادة خصبة لتخبط المجتمعات وتنازع السلطة بين شعارات قومية ومخاوف فئوية من ازدياد التعسف وسيطرة الغرائز وفقدان الحقوق. في هذه المعمعة حاول لبنان السير بين نقاط الحداثة، أي التشبه بالدول الغربية في مواضيع القوانين والحقوق والواجبات وخاصة حرية الرأي، وبين الشعور القومي المتعاظم كلما أراد أحد الديكتاتوريين العرب في الجوار تحسين صورته القومية للتغطية على فشله العملي في إدارة الشؤون الوطنية. وكانت الحرب الخاسرة في 1967 والتي دعيت بالنكسة قمة هذا الفشل لتزيد مشاكل لبنان فيتركز نجاح المشروع القومي العربي على إسقاط الصيغة اللبنانية، ويكثر المنظرون وينتشر الحاقدون وعملاء التخريب...
ثلاثين سنة تتنازع لبنان حروب الآخرين عليه وبأبنائه، وثلاثين سنة يصمد لبنان بواسطة إيمان بنيه وحقيقة تجذرهم فيه، ولكن وبعد كل الجهود تلك، وبعد انسحاب العناصر الخارجية، وبعد سقوط الديكتاتوريات والشيوعية، وبعد فشل النظريات القومية، وبعد ظهور بوادر دولة الفلسطينيين، ما هو الخطر المحدق اليوم، وما هي المخاوف، وهل هناك حلول؟
بعد خروج السوريين الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على لبنان طيلة ثلاثين سنة، كان من الواجب أن يخرج لبنان قويا بتماسك بنيه واتعاظهم من تجارب الماضي وتفهمهم بأن أحدا منهم لن يقدر على أن يقوم بالوطن وحده ولا أن يستفرد بالقرار وأن لبنان إن لم يكن واحة لقاء وحوار فهو لن يكون وأن مفهوم ساحة القتال التي أرادها له المغرضون قد آن أوانه وحل التخلص منه. ولكن بقايا العهد الماضي ورواسب الحقد الأعمى وجشع البعض القاتل مع قصر نظر الزعماء الذين اعتادوا تنفيذ الأوامر ولم يشعروا بعد بأنهم قادرون على اتخاذ القرارات وأن العالم يقف بجانبهم، لا زالت مجتمعة تمنع قيام الوطن وتمنع مؤسساته من النهوض؛ فها هو مجلس النواب معطل وهو من خوله الشعب مراقبة سير الدولة، وها هي الحكومة ممنوعة عن العمل وهي أداة التنفيذ لكل ما من شأنه دعم حياة المواطنين اليومية، وها هو منصب الرئاسة، رمز الدولة، فارغ ولا قدرة على انتخاب من يشغله. فهل ينجح الحقد في تفشيل قيامة هذا الوطن وماذا يراد له؟
يدّعي حزب الله بأنه حرر البلاد من إسرائيل ولكنه يريد أن يبقي إسرائيل هذه سيفا مسلطا على رقاب اللبنانيين لكي يحق له أن يفرض نفسه على طائفته أولا وعلى الآخرين بنتيجة التركيبة اللبنانية التي تمنع الاستفراد وتفرض التوافق لمنع الاستبداد والظلم. وحزب الله يحكم دويلته وينشر قواته ويجاهر بامتلاك الصواريخ وبقدرته على شن الحروب، وهو يقيم شبكاته الهاتفية وجباياته الخاصة وعلاقاته الدولية وأجهزة مخابراته، وهو يشرّع ويحلّل ويحرّم كيفما أراد ودون الرجوع إلى حق أو قانون. وبعض المخيمات تقيم دويلاتها على أراضيها؛ فهي تمتلك السلاح وتدرب العناصر وتحمي القتلة وتمنع على الدولة أن يكون لها مخبر أو عنصر أمن فيها، وهي تستقبل وتودع الموفدين، وقد خرج أحدها على الدولة في نهر البارد ويهدد آخر بإغلاق المطار في أية لحظة وتقطيع أوصال البلاد.
أما المناضل الآخر الذي يعتبر أن إهانة خروجه من القصر على يد سوريا لن تغفر إلا يعودته إليه، فهو يريد أن يستولي على رأس الدولة بمساعدة دويلة حزب الله وغطاء النظام الذي كان أخرجه بالقوة. فكيف يستمر الوطن والصيغة والنظام، وماذا على اللبنانيين أن يفعلوا للتخلص من كل هذه؟
يوم أطلق سمير جعجع مشروعه حول الدولة الفدرالية قامت قيامة اللبنانيين والدول المجاورة وكأنه مسّ المحرمات، ولكن أن يقوم حسن نصر الله وحزبه باحتلال الساحات وتهديد الحكومة ومنع انتخاب الرئيس وتعطيل البلاد وبنفس الوقت يجري تحسيناته على الأسلحة والتجهيز والإدارة وطرق الاتصال البرية والهاتفية ويقيم تحالفاته الخارجية، فماذا بقي من سلطة الدولة عليه، والواقع يقول بأن دولته تفرض على لبنان ما تريد وهو لم يعد أبدا جزءا من الدولة وليس فقط عبئا عليها، وهو لم يشكل كانتونا أو مقاطعة كما في الدول الاتحادية، ولا هو قسّم واستقل بقسم منها وإنما قد احتل قسما من لبنان وهو بصدد التوسع للإجهاز على الدولة بمنعه قيام مؤسساتها وتهديده بالحرب عليها. فماذا تنتظر هذه الدولة؟
يقول البعض بأن الأكثرية تخاف من الحرب الأهلية ولذا فهي لم تقم بواجباتها في انتخاب الرئيس وهي تحاول استرضاء حزب الله عله يقبل بأي حل آخر. والحقيقة التي لا يقبل اللبنانيون بأن يجاهروا بها، هي بأن حزب الله أصبح منذ أن تفرد بالرأي (وهو كذلك منذ نشأته)، مجموعة خارجة على القانون ويجب أن تعامل على هذا الأساس وإلا فإن كل حل يبقيها مستقلة هو مشروع حرب أهلية جديدة. فهل يسعى الزعماء اليوم إلى التحضّر لحروب جديدة لا يشعرون بأنهم جاهزون لها اليوم؟ وما هي مسخرة زج الجيش في موضوع سياسي كموضوع انتخاب رئيس؟
إن قيامة لبنان تتطلب نظاما مفهوما وواضحا ولا يمكن أن يكون هناك بلدا مستقلا إذا لم تكن حكومته سيدة أمرها فإما أن تتسلم هذه الحكومة البلاد لأنها تشكل الأكثرية المنتخبة وعليها واجب فرض الأمن والاستقرار بقدراتها الخاصة أو بالاستعانة بالمجتمع الدولي، وإلا فلتعلن عجزها أو تعلن قسمت البلاد بينها وبين حزب الله ولتترك للناس حرية الخيار، وهنا أليس مشروع الدولة الاتحادية أفضل بكثير من مشاريع التقاتل؟
كندا/تورونتو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق