خدر خلات بحزاني
القول إن المجتمع الإيزيدي هو مجتمع زراعي ـ رعوي ليس قولاً جديداً، ولكن الجديد هو اكتشاف البصمات والآثار المترسخة في هذا المجتمع الزراعي رموزاً وطقوساً واحتفالات، وان هذا الكشف بحد ذاته يتيح لنا الاطلاع على العمق التاريخي الذي تمتد الجذور الإيزيدية في ممارساتها الطقسية والرمزية المتعلقة بالزراعة وشؤونها..
ونحن نعلم علم اليقين إن الديانة الإيزيدية لم تظهر في ليلة وضحاها ولم تتبلور في عقد أو عقدين من الزمان اسوة بغيرها من الديانات، وإذا كنا نجهل التاريخ الحقيقي لانبعاث الديانة الإيزيدية، فإننا على الأقل ندرك إنها تملك من العمق التاريخي ما لا تملكه غيرها من الديانات الأخرى، وقبل أن يتهمنا البعض بالمبالغة نقول بأن كوردستان هي الموطن الأول والأخير للإيزيدية ـ الذين يشكلون جزءاً مهماً وأصيلاً من أبناء هذه المنطقة، وان شمالي العراق الحالي بالذات قد استقطب العديد من البعثات الأثرية الأوربية والأمريكية واليابانية وغيرها..
وقد كان ((شمال العراق مسرحاً للثورة النيولثية (حوالي 7000 ق. م) وهو أهم العصور في سلّم التطور الإنساني ـ قبل أن تهب رياح هذه الثورة على أوربا مثلاً بنحو 3500 سنة، فعلى سفوح جبال كوردستان التي ترويها الأمطار الأطلسية كل شتاء توقف الإنسان على أن يكون صياداً متجولاً ومعتمداً على مهارته وحظه في كسب قوته ورزقه، فأصبح مزارعاً مرتبطاً بقطعة ارض صغيرة يحصل منها على غذائه المعتاد، ومن الطين بنى بيته، واخترع أدوات جديدة لانجاز مختلف أعماله، ومن الخراف والماشية امن مصدراً سهلاً ودائماً للحليب واللحوم والصوف والجلود.. وفي نفس الوقت تطورت توجهاته الاجتماعية لان زراعة الأرض والدفاع عنها يستلزم تعاوناً اجتماعيا وثيقاً..
وما لبثت عدة عوائل أن تجمعت مع بعضها البعض مكوّنه (النطفة) الأولى التي ينشأ عنها جنين المنظمة الاجتماعية ، وستحصل بعد ذلك ثورات أخرى، فيحلّ المعدن محل الحجر، وتتحول القرى إلى مدن ثم تتحد هذه الأخيرة مع بعضها البعض مكونة ممالك ما تلبث أن تصبح إمبراطوريات، غير إن أسس الحياة الجوهرية وعمل الإنسان المنحني إلى أرضه الأم تحت رحمة الفصل الأربعة لم تتغير منذ تلك الأيام البعيدة جدا))(1).
ومع التطورات والتغيرات التي نتجت عن تلك التحالفات السكانية فقد تطورت أيضا الأفكار الدينية وتشعبت وتعمقت دلالاتها وأصابها التغيير حيناً، رغم أنها احتفظت بطابع عبادة قوى الطبيعة وتمسكت به، بل يمكننا القول إن (عبادة قوى الطبيعة) كانت العمود أو المتكأ الذي اتكأت عليه جميع المعتقدات والأفكار الدينية (بأعيادها واحتفالاتها وأساطيرها) للشعوب التي قطنت ارض ميزوبوتاميا.
وبناءا على ما تقدم، فانه يمكننا القول وبكل ثقة إن الإيزيدية الذين ترعرعوا على ارض كوردستان هم احد تلك الأقوام الذين ما زال عنصر (تقديس) وليس عبادة قوى الطبيعة يجد له صدىً في ثنايا طقوسهم الدينية والاجتماعية، وأيضا يمكننا القول وبثقة أيضا إن الأعياد الإيزيدية الكثيرة والمتنوعة والتي يمكننا أن نصفها بأنها ذات مفاهيم فلسفية عميقة الغورـ إذا ما تمعّنا ودققنا في طقوس وتوقيتات تلك الأعياد وبما يتعلّق بها من ممارسات وشعائر، وان يقيننا في كون الأعياد الإيزيدية تمتلك عمقاً تاريخياً هو تشابهها الكبير مع الكثير من عادات (الشعوب الغابرة) و إن ذلك التشابه رغم بعض التباينات دليل أكيد على النضوج الفكري الذي توّصل إليه الإيزيديين كفكر ديني عبر تاريخهم الطويل نسبياً، وكما سيظهر من سياق مقالنا.
وإذا شئنا الحديث عن الممارسات والطقوس الإيزيدية الدينية وغير الدينية ذوي المفاهيم الزراعية، فانه لابد لنا من الشرح والإطالة التي لا مفر منهما، لكون إن الزراعة ذات أبعاد واسعة جداً، والزراعة التي اقصدها كانت هاجساً يومياً وليست موسمياً كما قد يتصور البعض.
وهكذا فان الأساطير والأعياد والفلسفة الزراعية عند الإيزيدية سنتناولها وسنعطيها حقها لان الإيزيديون هم القوم الوحيدون الذين لم ينقرضوا مثلما انقرضت واندثرت حضارات الأقوام التي شملتها دراستنا باستثناء العبرانيين، علماً بأن محدودية معلوماتنا عن الأقوام الأخرى مرجعها هو قلة المراجع المتوفرة بالإضافة إلى إن تلك المراجع ركزت اهتمامها على الجوانب الرئيسية وأهملت التفاصيل اليومية.
الأعياد الإيزيدية:
ولنبدأ بالأعياد الإيزيدية، ولكن من المهم أن ننوّه بأننا سنحدد تواقيت تلك الأعياد بالتقويم الشرقي الذي يتخلّف عن التقويم الغربي بـ (13) يوما، والبداية تكون مع بداية رأس السنة الإيزيدية (سه ر سال) والتي تقع في أول يوم أربعاء من شهر نيسان الشرقي، ومما لا جدال عليه إن التاريخ السنوي للاحتفال بالـ (سه ر سال) له علاقة واضحة بقدوم الخيرات والرفاه حيث إن الأرض تبدأ بتغيير جلدها الذي أقحلته ثلوج وصقيع الشتاء وتتحول الأرض إلى بيادر وحقول خضراء وو..الخ.
ويعتقد الإيزيديون بان (طاووس ملك) قد نزل إلى الأرض في مثل هذا اليوم بأمر من الله سبحانه وتعالى، وان الأرض تجمّدت تكريما لقدوم طاووس ملك وازدهت الحقول وانبثقت الأزهار والورود بمختلف الأصناف والألوان، وعليه فانه يتوجب على كل عائلة إيزيدية آن تسلق كمية من البيض، مع إضافة الأصباغ الملونة في إشارة بسيطة لتجمّد الأرض البيضوية الشكل، والألوان المضافة هي تجسيد لألوان الأزهار والورود التي تفتحت بمناسبة قدوم طاووس ملك، بالإضافة إلى انه يتوجب أيضا على الأسر الإيزيدية ـ الفتيات تحديداً ـ على الانطلاق إلى الحقول والجبال القريبة لغرض جلب باقات من أزهار (شقائق النعمان) الحمراء اللون، وهذا العمل يكون بيوم واحد قبل عيد (سه ر سال) ويتم إلصاق هذه الباقات على أبواب الدور وغرف المنازل بواسطة لبخة من الطين مع إضافة القليل من قشور البيض الملون.
كما إن بعض الفلاحين يتوجهون إلى حقولهم وبجعبتهم كمية من البيض المسلوق، حيث يتوجب عليهم تناول البيض وسط حقولهم ورمي القشور الملونة بين زروعاتهم، اعتقادا بحلول البركة بين زروعاتهم جراء عملهم هذا، كما إن تقديم الذبائح من الثيران والدجاج أمر لابد منه في هذا اليوم المبارك.هذا وتعقب احتفالات الـ (سه ر سال) بأيام قليلة احتفالات أخرى هي التي يسميها الإيزيدية بـ (الطوافات) جمع طوّافة ـ وحسب اعتقادنا إن كلمة طوّافة مشتقة من كلمة (التطواف) وهي عادة قديمة لدى العديد من الشعوب، حيث كان التطواف حول المعابد والمزارات من التقاليد المعروفة آنذاك، نعود ونقول إن طواقات الإيزيدية عبارة عن احتفالات دينية شعبية عفوية، وهي في مجملها تعبير عن الأفراح والتقدم بالشكر لله جل جلاله على الخيرات التي بدأت تمتلئ بها الحقول والمزارع، وان التعبير عن الفرح بهذه الخيرات الإلهية يكون بواسطة الدبكات الكوردية التي يتميز بها الإيزيدية حيث يشترك الجميع من الرجال والنساء والشباب والشابات بالرقصات الجماعية بمصاحبة (الطبل والزرناية) هذه الرقصات التي تقام في كل يوم (طوّافة) في أية قرية إيزيدية وبمشاركة عدد لا باس به من إيزيدية القرى القريبة والمجاورة.
عيد خدر الياس:
يقع هذا العيد في أول يوم خميس من شهر شباط الشرقي، وان الحديث عن عيد (خدر الياس) أو (خدر لياس) حسبما يلفظه الإيزيدية حديث طويل وعريض وذلك لكون إن شخصية (خدر الياس) لها ما يماثلها وما يتطابق معها في العديد من الأديان والمعتقدات، القديمة منها والجديدة.
مثلاً هو (الخضر) عند العرب المسلمين، ويسمى (خواجة خضر) عند الهنود المسلمون، وعند الأكراد هو (خدرى زينده Xidirê Zêndê) أي خدر الخالد الحي، ويسمى عند النصارى (جرجي أو جرجيوس) وعند بني إسرائيل (ارميا) بينما يرى آخرون انه (إيليا) بسبب التشابه اللفظي بين (إيليا و الياس) وعند بعض العرب (شيخ البحر) وعند آخرين (راعي المياه) (2).
والإيزيديون يصومون ثلاثة أيام قبل حلول يوم العيد، وبالأخص منهم من يحمل اسم خدر أو الياس. هذا وتكون الحبوب وبذور بعض البقوليات هي المادة الرئيسية لصناعة السويق أو الـ (پـوخين، پـيخون Poxîn ـ Pêxan) الذي لابد منه في يوم العيد هذا، حيث يتم طحن الحبوب المقلية وإضافة السكر أو مستخلص التمر (الدبس) من اجل صناعة (حلاوة) العيد.
في الحقيقة لا نريد التوسع أكثر في الحديث عن عيد خدر الياس (3) ولكن من الواضح إن لهذا العيد الذي يقع عقب نهاية موسم نثر البذور علاقة واضحة بالمعتقدات الزراعية وان قلي بعض البقوليات كالحمص والباقلاء وحبوب القمح إشارة واضحة إلى انتهاء موسم نثر البذار اسنادا إلى المقولة الإيزيدية الشعبية المعروفة (خدر لياس سال خلاص Xidir lias sal xilas) ما معناه مع قدوم خدر الياس يكون الموسم الزراعي قد انتهى حيث تقترب دورة السنة الزراعية من نهايتها مع اقتراب الاعتدال الربيعي بعد بضعة أيام، يليها أيضا (يوم نوروز) رأس السنة الكوردية حسب التقويم الكوردي.
عيد الجماعية:
من المعروف إن عيد الجماعية (جه ژنا جه مايـئ Cema) يعد أطول الأعياد الإيزيدية قاطبة، ويبدأ هذا العيد في 23 أيلول الشرقي من كل عام ويستمر لمدة سبعة أيام ويشتمل على الكثير من الطقوس والمراسيم التي تقام في معبد لالش النوراني طوال أيام العيد، وقد حظي عيد الجماعية بدراسات كثيرة ومتنوعة من قبل عدد من الباحثين والاختصاصيين منذ عشرينيات القرن المنصرم وحتى الآن.
ومما لاشك فيه إن توقيت هذا العيد ومراسيم تقديم الثور (للشيخ شمس) في اليوم السادس من العيد قد نال من الدراسة والتقييم ما لم ينله موضوع آخر نظراً لكون انه كان هناك الكثير من الأعياد والاحتفالات التي كانت تقام بين العديد من أبناء الشعوب والديانات القديمة تتوافق مع عيد الجماعية بشكل مذهل.مثلا انه يتطابق زمنياً مع أعياد جوبتير العظمى عند الرومان، ومع عيد الجمع العبراني، وعيد الجمع الكنعاني، ومع أعياد مثرا (Mithra) السنوية، ومع أعياد رأس السنة السومرية والبابلية حسب التقويم الأقدم لأبناء ميزوبوتاميا حيث كانت السنة تقسّم عند الشعوب الهندو ـ إيرانية إلى (360) يوما (12) شهراً و (30) يوماً لكل شهر والى فصلين فقط تسمى بـ (فصول الإله)، الفصل الأول من الربيع إلى الخريف، والفصل الثاني من الخريف إلى الربيع (3) حيث انه من المحتمل إن السومريون الذين وفدوا على جنوب العراق في بدايات الألف الثالث قبل الميلاد قد جلبوا تقويمهم القديم معهم من بلادهم الجبلية.
هذا، وان مراسيم تقديم الثور كضحية في اليوم السادس من العيد لها من المعاني والدلالات ذات الارتباطات العميقة الصلة بعلم الفلك ودورة الطبيعة وتبدلاتها الفصلية، حيث ان برج الثور كان يقابل الشمس مع مطلع كل خريف آنذاك، وكان يتوجب على الشمس أو على (اله الشمس) أن يتجاوز أو يقضي على الثور بنوره الوهاج لكي ينتهي موسم الجفاف والذبول ويبدأ موسم الأمطار والخيرات، وقد صوّر السومريون المشهد على شكل ثور راكع تحت قوة اله الشمس ـ شمش ـ الهائلة وهناك عقرباً ينهش أعضاء الثور التناسلية ـ الخصيتان تحديداً ـ وتجري منهما الدماء التي تسقي الزروع بمختلف أنواعها علماً بأن الثور حسب المفهوم الإغريقي القديم يمثل شهر تشرين الأول في علم النجوم، وهو نفس الثور الذي كان يتم تقديمه إلى الإله (ابولو Appolo) اله الشمس وأيضا هو نفس الثور الذي يصرعه (مثرا) اله الشمس في نفس التوقيت الميزوبوتامي ـ الروماني.. الخ.. وكل هذا من اجل القضاء على موسم الجدب والذبول والجفاف واستقبال موسم الأمطار التي لابد منها من اجل ارواء الناس وزراعاتهم وبالتالي تعميم الرفاه والنعم على الإنسان والحيوان والنبات.
عيد صوم ئيزيد:
يقع هذا العيد في أول يوم جمعة من كانون الأول الشرقي بعد صام لثلاثة أيام، حيث يكون الصيام في أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، واليوم الرابع (الجمعة) يكون هو يوم العيد، إن اختيار هذه الأيام الثلاثة ذات النهارات القصيرة لتكون أياماً للصيام لم يكن عبثاً وليس من باب الصدفة كما قد يتصور البعض.
..يُتبع بالقسم الثاني والأخير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:(*):
هذه المادة هي جزء من دراسة مقارنة موسعة للكاتب كانت تحت عنوان (الزراعة.. أعيادها، فلسفتها، أساطيرها.. وأشياء أخرى) وشملت (سكان العراق القديم، معتقدات الإغريق، الحيثيون والخوريون، مصر الفراعنة، الأموريون والكنعانيون، العهد القديم، وعند الإيزيدية) تم نشرها في مجلة لالش العدد 20 الصادرة في تشرين الاول 2003 عن مركز لالش الثقافي والاجتماعي / دهوك.
1 ـ للمزيد، راجع: العراق القديم، جورج رو، دار الشؤون الثقافية العامة، ترجمة حسين علوان حسين، ص79، بغداد/ 1986.
(2) ـ للمزيد، راجع ابو داسن، حول حقيقة الخدر، مجلة روز، العدد 4ـ5 مركز الايزيدية خارج الوطن، المانيا 1998.
(3) ـ للمزيد، كامل خديدا، خدر لياس، دراسة مقارنة، مجلة لالش، العدد 11 ص 65 وما بعدها..
Khederas@hotmail.com
Khederas@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق