نقولا ناصر
(استمرار الرهن العربي ـ الفلسطيني لمصير القدس لانتظار ما سوف تستقر عليه العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية هو حكم مسبق على المدينة بالتهويد)
يبدو مصير القدس العربية – الإسلامية، ومعها مصير "الدولة الفلسطينية" المأمولة فلسطينيا وعربيا، ومصير "حل الدولتين" المطلوب دوليا، ومصير "عملية السلام" العربية – الإسرائيلية الجارية منذ عشرين عاما برعاية أميركية – أوروبية بدعم "الإجماع" العربي، وكذلك الاستقرار المنشود في الشرق الأوسط لكنه مفقود منذ ظهرت إلى الوجود دولة المشروع الصهيوني في فلسطين التي يعتبر كثيرون من صناع القرار الأميركي ـ ومنهم وزيرة الخارجية الحالية هيلاري كلينتون ـ ظهورها اعظم إنجاز للبشرية في القرن العشرين الماضي، تبدو جميعها معلقة ـ ـ عربيا وفلسطينيا ــ على مصير "الأزمة الدبلوماسية" الحالية بين الحكومتين الأميركية والإسرائيلية حول الاستعمار الاستيطاني اليهودي لشرقي القدس المحتلة.
غير أن استمرار الرهن العربي ـ الفلسطيني لمصير القدس لانتظار ما سوف تستقر عليه العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية هو حكم مسبق على المدينة بالتهويد، وبالتالي هو نذير يهدد كل الوضع الراهن في المنطقة بأوخم العواقب، لأنه لا ينبغي الخلط أبدا بين اختلاف الإدارة الأميركية الحالية مع حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين أي خلاف استراتيجي ليس منظورا إلى أمد طويل في علاقات الجانبين الاستراتيجية الثابتة، والأجدى أن يتم رهن مصير القدس بالعلاقات العربية ـ الأميركية، لتتحول القدس إلى الفيصل بين استمرار هذه العلاقات وتطورها وبين تدهورها أو حتى انقطاعها.
إن الرسالة التي يبعثها هذا الرهان العربي، الذي يتلخص بالاستجابة لأفعال الغير دون أي فعل ذاتي، تطمئن واشنطن بان علاقاتها العربية على ما يرام، وليس فيها ما يستدعي أي تغيير في سياستها الخارجية الإقليمية.
إن حزمة "إجراءات تعزيز الثقة" التي سميت ب"تفاهمات" واقترحتها إدارة أوباما وعاد بها الخميس الماضي رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ليعرضها على حكومته المصغرة فترفضها لا جديد فيها والهدف منها العودة إلى مرجعيات "عملية السلام" القديمة إياها التي فشلت.
أما الخطة التي تقترحها قمة سرت العربية فإنها ليست بحاجة إلى تعليق، وهي تتلخص في صندوق للقدس بحاجة إلى "تصريح إسرائيلي" للدخول، وتهديدات بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي التي ما زالت فتواها حول جدار الضم والتوسع حبرا على ورق دون أي استثمار سياسي لها، وتنظيم مؤتمر دولي لن يختلف عن المؤتمرات المماثلة السابقة إلا برعاية الجامعة العربية له، وتاليف لجنة للقدس وتسمية مفوض لها في الجامعة العربية بينما لجان القدس تنتشر كالفطر، وحث اليونيسكو على إرسال بعثة دائمة إلى المدينة، وحث باراك أوباما على الالتزام بدعوته إلى تجميد الاستيطان، وحث الولايات المتحدة على تعليق حقها في النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي في حال ذهبوا إليه للشكوى أو الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إن رفضت واشنطن الاستجابة لطلبهم، ... لكن لا شيء يتعلق بالعلاقات العربية الأميركية سوى تعزيزها بالتأكيد، بينما كانت القدس وسوف تظل ضحية لهذه العلاقات ما لم تتغير جوهريا.
وبسبب عوامل الجغرافيا السياسية وكذلك عوامل الديموغرافيا السياسية، وليس فقط بسبب المضاعفات الاستراتيجية لما ينتهي إليه مصير بيت المقدس على أمنه الوطني أو بسبب دوره الخاص في المدينة المقدسة المنصوص عليه في معاهدة السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فإن الأردن يكاد يكون "البارومتر" الإقليمي العربي – الإسلامي الذي يقيس درجة حرارة الصراع الدائر حاليا حول القدس، وفي هذا الإطار فقط يفهم حديث الملك عبد الله الثاني مؤخرا عن القدس ك"خط أحمر"، وتحذيره خلال حديثه الأخير إلى رؤساء تحرير الصحف الأردنية من أن "إسرائيل تلعب بالنار"، وتحذيره في كل الاجتماعات مع المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين والدوليين من أن استمرار الاعتداء على القدس "سيشعل المنطقة بكاملها"، و"يهدد العلاقات الأردنية الإسرائيلية" وهي "علاقات باردة" كما وصفها في مقابلة مع صحيفة إسرائيلية منذ اشهر اقتبس الملك منها في حديثه، ليضيف بأن "كل الخيارات السياسية والقانونية والدبلوماسية مفتوحة" من أجل "منع" دولة الاحتلال "من الوصول إلى غايتها" في القدس.
لكن لا الأردن منفردا ولا الدول العربية مجتمعة تبدو، اعتمادا على إمكانياتها الذاتية، قادرة على منع دولة الاحتلال الإسرائيلي من تهويد القدس، وهو غايتها، ولذلك فإنها تستجير بالمجتمع الدولي وبقيادته الأميركية، كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأن كليهما ما زال ومنذ عام 1967 يمثل الغطاء للاحتلال الإسرئيلي، وعامل الضغط الرئيسي لمنع أي مقاومة عربية له، والدرع السياسي والدبلوماسي لحماية استمراره، ومورد الدعم المالي والعسكري الذي تستقوي به دولة الاحتلال لمواصلته، لتجد الدول العربية نفسها اليوم أسيرة رهان على مجتمع دولي لا يجير، تقوده الولايات المتحدة، وأسيرة علاقاتها الأميركية التي أصبحت ضامنة للأمن الوطني لكثير منها، وأسيرة بالتالي للتناقض بين هذه العلاقات العربية ـ الأميركية الآسرة وبين طموحها الصادق إلى "إزالة آثار" الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وهي آثار تحولت إلى حقائق مادية على الأرض تفجر الآن ما يمكن تسميته بأزمة القدس العربية الراهنة.
وهكذا يكاد الأردن يكون أيضا نموذجا للدول العربية المحاصرة بين جنوحها إلى سلام تسعى إليه صادقة لكنها ما زالت حتى الآن تفتقد شريكا إسرائيليا لها فيه وبين علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، ومحاصرة بين قرار السلام العربي الذي صنعته فعلا وبين عجزها عن التراجع عنه، ومحاصرة بين استمرار تمسكها بقرارها كالقابض على الجمر وبين عجزها عن تنفيذه، ومحاصرة بين قرارها هذا وبين العجز الأميركي عن الضغط الأميركي على دولة الاحتلال للاستجابة له، ولذلك ما زال الأردن ومعظم الدول العربية حريصون على تجنب أي إشارة ولو تلميحا إلى مسؤولية الولايات المتحدة المباشرة عن الوضع الراهن.
والولايات المتحدة الأميركية حرصت على استغلال هذه العلاقات تحديدا لكي لا تترك لهذه الدول خيارا آخر غير السعي إلى السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى لو ترسخت لديها القناعة، بالتجربة الملموسة، بأن السلام مع هذه الدولة هو مجرد سراب ووهم، حتى بينها وبين الأردن ومصر الموقعتين معها على معاهدتي سلام، ومع ذلك ما زالت واشنطن تصر على استمرار بيع الوهم لهذه الدول، التي تصفها واشنطن ب"المعتدلة" والتي مكنتها علاقاتها الأميركية من أن تصبح صانعة للقرار العربي في الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما زالت هذه الدول تصر على شراء الوهم الأميركي حتى بعد أن ثبت بالملموس أنه بضاعة فاسدة مفسدة عن سابق قصد.
ويبدو أن الدول العربية تركت لدولة الاحتلال الإسرائيلي مهمة تحميل المسؤولية للولايات المتحدة عن الوضع الراهن. ففي معرض دفاعه عن رفضه التجاوب مع المقترحات الأميركية لتحريك عملية السلام، قال نتنياهو أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن ما سبق له أن بعثه في رسالة إلى هيلاري كلينتون، ومن شبه المؤكد أنه قاله أيضا للرئيس باراك أوباما، بأن مشروع الاستيطان الإسرائيلي وبخاصة في القدس المحتلة "لم يكن أبدا نقطة نزاع بيننا وبين الولايات المتحدة طوال 42 سنة من البناء في الأحياء اليهودية لعاصمة إسرائيل". وقد صدق نتنياهو، فهذه حقيقة معروفة كالسر المكشوف، لكن الرسميين العرب لأسباب غنية عن البيان يتحاشون حتى الإشارة إليها.
وفي هذا السياق لا يسع المراقب إلا أن يستذكر إشادة أوباما وكلينتون وغيرهما من كبار مسؤولي الإدارة الأميركية بالقرار الذي اتخذه نتنياهو أواخر العام المنصرم بتجميد مؤقت للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية "باستثناء القدس" ليتساءل: ألم تكن هذه الإشادة الأميركية ضوءا أخضر أميركيا لاستثناء القدس سمح بموافقة نتنياهو على قرارات بناء أكثر من خمسة آلاف وحدة استيطانية جديدة في المدينة خلال فترة التجميد المؤقت، كان قرار بناء (1600) وحدة في مستعمرة رامات شلومو آخرها، وهو القرار الذي أراد البعض في قمة سرت العربية مقايضة سحبه بالموافقة على إطلاق "مباحثات التقارب" غير المباشرة، إذا صحت الأخبار المتسربة من أروقة القمة؟!
في افتتاحية لها يوم الجمعة الماضي، قالت النيويورك تايمز إن "المنازعات" الأميركية مع دولة الاحتلال جعلت الرئيس الأميركي أوباما "يبدو ضعيفا، وأعطت الفلسطينيين والقادة العرب عذرا للانسحاب من مباحثات التقارب" التي اقترحتها إدارة أوباما. لكن لا الفلسطينيين ولا القادة العرب يظهرون إي مؤشر إلى أنهم سوف يسحبون موافقتهم على المقترح الأميركي.
إذ بالرغم من مضي اكثر من أربعة شهرا مما سمته النيويورك تايمز ب"المنازعات" الأميركية ـ الإسرائيلية حول الاستيطان في القدس التي انتهت حتى الآن بثبات دولة الاحتلال على موقفها وبتراجع الإدارة الأميركية أمامها، وبالرغم من أن ثلاثة أسابيع مضت على مواجهة علنية بين أوباما وبين رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بلغت ذروتها في واشنطن الأسبوع الماضي قد انتهت باجتماع حكومة نتنياهو "السباعية" المصغرة التي قررت بأن نتنياهو "لن يغير سياسته" في القدس، وبالرغم من أن الأمل الذي داعب مخيلة الكثيرين في الحكومات العربية بأن يختار نتنياهو العلاقات الاستراتيجية مع الولايات إن خير بينها وبين انفراط ائتلافه الحاكم قد تبدد بعد أن اختار نتنياهو ائتلافه نافيا وجود "أي نية" لديه لفرطه، على ذمة هآرتس يوم الجمعة، التي نسبت إليه تحديه الصريح والمباشر للإدارة الأميركية بنفيه أيضا أنه يواصل تهويد القدس بضغط من شركائه في الائتلاف الحاكم، بقوله: "أنا لست بحاجة إلى شركاء الائتلاف للضغط علي لمواصلة البناء في القدس، لأنني أنا نفسي أخطط لمواصلة البناء في القدس كما فعل كل رؤساء الوزراء من قبلي"، بالرغم من ذلك وغيره فإن القرار الفلسطيني والعربي ما زال يراهن على الولايات المتحدة والسلام!
وهذا قرار عربي "بالإجماع". وهذا الإجماع قد تأكد يوم الأربعاء الماضي، على سبيل المثال، بتأكيد الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تقود بلاده معسكر الممانعة للمخططات الأميركية ـ الإسرائيلية الإقليمية، على مبادرة السلام العربية ورفض إلغائها لأن "إلغاءها يعني التنكر للمرجعيات"، مع ان هذه المرجعيات غير ملزمة لأحد حتى الآن إلا لأصحاب المبادرة أنفسهم الذين أجمعوا عليها طوعا ومن جانب واحد والتالي فإنها ستظل قائمة سواء سحب القادة العرب مبادرتهم أم لم يسحبوها.
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق