صبحي غندور
حسناً ما شهده العراق من إصرار على إتمام العملية الانتخابية في موعدها وبمشاركة شعبية واسعة شملت كلّ مناطق العراق وأطيافه الدينية والأثنية. وكان اصطفاف الناخبين أمام المراكز الانتخابية في العراق وخارجه يعطي صورةً مشرقة عن الأمل بميلاد عراق جديد يعتمد الحياة السياسية الديمقراطية بديلاً عن العنف المسلح والحكم الديكتاتوري والتسلط الفئوي، وبأن يكون ذلك الخيار الديمقراطي المجمع عليه هو أيضاً من أجل عراق حرّ موحّد، عربيّ الهويّة والدور، خالٍ من أي احتلال أو هيمنة أجنبية.
لكن هل من الممكن فعلاً بناء هذه الآمال الكبيرة نتيجة "التوافق" على "العملية الإنتخابية" فقط؟! وهل "تتوافق" أيضاً كلّ القوى التي شاركت في الانتخابات، أو التي ستفوز بعدد جيد من المقاعد النيابية، على مضمون هذه الآمال؟!
أهميّة هذا السؤال تعود إلى عدم الحسم بعد لمبادئ الوطن العراقي وللدولة العراقية. فمفهوم "الدولة" القائم على ثلاثية: "الأرض والشعب والحكم"، ما زال موضع نقاش لدى القوى العراقية المتنافسة، التي ينزع بعضها إلى "نظام الفيدرالية" وإلى اللامركزية السياسية، وهو أمر يمسّ جوهر وحدة الأرض والشعب والحكم.
أيضاً، صحيحٌ أنّ إنهاء الاحتلال الأميركي للعراق هو ليس الآن موضع نقاشٍ أو خلاف بين العراقيين، لكن الوفاق الوطني العراقي على مستقبل العراق هو الغائب المطلوب كحالٍ بديل لما بعد انسحاب القوات الأميركية، ولوضع ركائز الدولة العراقيّة الجديدة.
فأيُّ عراقٍ للمستقبل، هو السؤال الذي لم يجد بعدُ إجابةً شافية يتّفق عليها الجسم السياسي العراقي المريض!.
إنّ العراق اليوم هو ساحة صراع بين أميركا وإيران، وبين أتباع نظام قديم وعسكر نظام جديد، وهو أيضاً ساحة لجماعات إرهابية تكفيرية قدِمَت من أكثر من مكان لتقاتل في العراق أيّا من كان من غير أتباعها. كما أنّ العراق مختبر هام لمشروع التقسيم الطائفي والإثني الذي تعمل إسرائيل له منذ عقود في المنطقة، وقد حاولت تنفيذه أكثر من مرّة في لبنان، ولها (لإسرائيل) الكثير من العملاء الذين يتحرّكون اليوم في العراق.
العراق هو أيضاً منطقة صراع هامّة بين كل القوى المجاورة له، وما يحدث على أرضه يعني مباشرةً دول المنطقة كلّها، ولا يعقل أن تكون هذه القوى والدول بعيدة عن التأثّر بأحداثه أو التأثير فيها إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
فالصراع هو مستمر الآن على "هُويّة العراق" كما هو في عموم المنطقة العربية، وهو صراع سياسي دولي/إقليمي في إطاره العام الجاري حالياً، لكنْ يريد البعض تحويله إلى صراعات طائفية وأثنية في أكثر من مكان، وفي ظلّ اختلال صمّام الأمان لوحدة الأوطان وانعدام المرجعية العربية الفاعلة وغياب المشروع العربي الواحد لمستقبل الأمَّة وأوطانها.
إنّ الاحتلال الأميركي هو الذي دمّر مقوّمات الدولة العراقية وأوجد فيها الفراغ الرسمي الأمني والسياسي ممّا شجّع القوى المحلّية على التنافس والانقسام، والقوى الإقليمية على التدخّل لأسباب مختلفة في شؤون العراق.
وخلاصة أوضاع العراق الآن أنّ النظام السابق كان مسؤولاً عن إحضار الاحتلال الأجنبي، والاحتلال بدوره كان هو المسؤول عن حال التدمير والانقسام والمآسي والصراعات الإقليمية الراهنة في العراق. فمأساة العراقيين هي حصيلة مزيج مركّب من خطايا الماضي والحاضر معاً. وفي الحالتين، تغييبٌ للمصالح الوطنيّة العراقيّة، وإضعافٌ واستنزاف للمجتمع العراقي، وتفكيكٌ لوحدة الكيان والشعب معاً. فمزيج الخطايا هذا لم يولّد حالة عراقيّة صحيّة وصحيحة. لكن السؤال هو ليس عن الماضي والحاضر، بل عن كيفيّة رؤية مستقبل العراق، وهو أمر مهمّ الآن للعراقيين وللعرب والعالم كلّه. وهنا تكمن أهميّة اتفاق العراقيين على رفض سلبيات الماضي والحاضر معاً، وعلى وضع الأسس السليمة لبناء عراق جديد ديمقراطي موحّد واضح الهويّة والانتماء والدور في محيطه العربي والإسلامي.
وكم هو مؤسف ومحزن معاً أن تقترن الديمقراطية في المنطقة العربية بسمات الاحتلال الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والعرقي من الداخل، وبنموّ المشاعر المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة. وقد كانت هذه أيضاً هي سمات صراعات حصلت في أجزاء عديدة من الأرض العربية: دعوة للتدخّل الأجنبي المباشر وحماية بعض الداخل من بعضه الآخر بقوات أجنبية، ثمّ عمليات سياسية ديمقراطية تغذّي الفرز الطائفي والمناطقي أكثر ممّا هي تعبير صحّي سليم عن تعدّدية في المجتمع وتنوّع في التركيبة السياسية والعقائدية.
إنّ الممارسة الديمقراطية السياسية السليمة يُعبّر عنها عمليّاً في المجتمعات التي لا تخضع للاحتلال أو الهيمنة الخارجية، وتكون العملية الديمقراطية مرتبطة بكيفية اختيار الحكومات (السلطة التنفيذية) وبالرقابة عليها (السلطة التشريعية) وبالمحاسبة لها (السلطة القضائية)، وبحقوق المواطنين المتساوية في المشاركة بالحياة السياسية والاجتماعية، وبضمان الحرّيات العامّة للأفراد والجماعات.
فالحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين المواطنين، هي حرّية الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره الوطني.
أيضاً، في الممارسات الديمقراطية الغربية كلّها كان الحرص ولا يزال هو على وحدة الأوطان ورفض حركات الانفصال فيها. هكذا كانت التجربة الديمقراطية الأميركية التي رفضت انفصال الجنوب عن الشمال عام 1860، وخاضت الديمقراطية الأميركية حرباً أهلية قاسية لضمان وحدة الأراضي والولايات الأميركية .. أيضاً، لم تقبل الديمقراطية البريطانية بانفصال أيرلندا الشمالية، ولا قبلت الديمقراطية الأسبانية بانفصال إقليم الباسك، ولا الروسية باستقلال الشيشان ..
لقد أخذ العرب الكثير عن الغرب وثقافته وصناعاته ونمط عيشه، لكنّهم لم يأخذوا بدروس التجارب التاريخية التي قام عليها هذا الغرب. فالتحرّر من الاحتلال الأجنبي لا يكفي لبناء أمّة عظيمة، بل هو مدخل للتحدّي الأكبر أي بناء أوضاع دستورية سليمة في كلّ وطن، ثمّ تكامل واتّحاد الأوطان المتجانسة بهدف حماية الديمقراطية ووحدة الأوطان ولضمان مسيرة التقدّم والتطوّر في عالمٍ تعوّد دوماًً فيه القويّ الكبير على ابتلاع الصغير الضعيف!
فالمشكلة عربياً هي ليست فقط في كثرة المخطّطات والمشاريع الدولية والإقليمية التي تستهدف البلاد العربية. أساس المشكلة هو في واقع الحال العربي الذي نجح وينجح في معارك التحرّر الوطني من الاحتلال الأجنبي إلا أنّه يفشل في بناء أوطان ومجتمعات صحّية قائمة على أنظمة سياسية سليمة، وعلى حسمٍ لهُويّة الأوطان ولمفهوم المواطنة.
هاهو "الانتداب الأجنبي" الذي خرج من أوطان عربية مركولاً من قبل أهل الدار، يعود الآن من نوافذ عديدة في المنزل العربي المصدّع والمهدّد بالانهيار.
الخميس، مارس 11، 2010
مواطن حرّ.. في وطن حرّ
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق