صبحي غندور
سيترك، حتماً، انتصار الرئيس الأميركي أوباما في الحصول على موافقة مجلس النواب الأميركي على قانون الرعاية الصحية، انعكاساتٍ هامّة على صعيد برنامجه في السياسة الخارجية. فالرئيس، الذي بدا في السنة الماضية ضعيفاً بسبب عدم إقرار الكونغرس لمشروع القانون رغم وجود غالبية من حزب الرئيس فيه، أصبح الآن حين يخاطب زعماء آخرين في العالم أكثر "هيبة".
لكن هل لهذا "الانتصار الصحّي/السياسي" لأوباما في مواجهة ضغوط ونفوذ شركات التأمين الأميركية أن يدفعه أيضاً لخوض معركة المواجهة مع نفوذ جماعات الضغط الإسرائيلي في واشنطن؟ أشكّ بذلك. فالعلاقات الأميركية/الإسرائيلية ليست وليدة "جماعات الضغط" بل هي قائمة على مصالح مشتركة تتجاوز الرؤى الخاصّة للحاكمين في "البيت الأبيض". وما يحدث الآن من تباين في المواقف بين واشنطن وتل أبيب سببه طبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية وليس تحولاً في الرؤية الإستراتيجية الأميركية لإسرائيل.
أعتقد أنّنا سنشهد في الفترة القريبة القادمة مزيداً من التحرّك الأميركي لإعادة إحياء مسارات التفاوض من أجل تسوية شاملة في منطقة الشرق الأوسط، تكون الأولويّة فيها طبعاً للتعامل مع الملف الفلسطيني، رغم العقبات الإسرائيلية المتتالية.
فإدارة أوباما تأمل بإحياء التفاوض من جديد على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي لأنّه المدخل الأساس لعملية تسوية شاملة في المنطقة تريدها واشنطن لترتيب علاقاتها الجديدة مع كلٍّ من إيران وسوريا، وهما دولتان مجاورتان للعراق ولهما تأثير كبير في مستقبل أوضاعه السياسية والأمنية، كما لكلٍّ من طهران ودمشق علاقات خاصّة مع قوى المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، فلا يمكن تحقيق استقرار سياسي وأمني في العراق ولبنان ومنطقة الخليج العربي من دون التفاهم الأميركي مع إيران وسوريا، ثمّ لا يمكن تحقيق هذا التفاهم بلا تسوية للصراع مع إسرائيل تشمل الجبهتين السورية واللبنانية.
إنّ التعنّت الإسرائيلي في رفض وقف بناء المستوطنات دلالة كبيرة على مدى الضعف العربي الراهن وعدم وجود تأثير عربي ضاغط على واشنطن يوازي الضغوطات الإسرائيلية القائمة الآن على إدارة أوباما.
فالأطراف العربية بمختلف مواقعها جاهزة الآن للدخول في تسوية شاملة بينما هي غير مستعدّة للبديل المطلوب في حال عدم حصول التسوية أو مع استمرار "الليونة" الأميركية مقابل التصلّب الإسرائيلي. ولعلّ الانقسامات والصراعات العربية هي أفضل دعم تحصل عليه حكومة نتنياهو في الظرف الحالي.
إنّ مسألة المستوطنات هي رمز الآن لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، والاستهتار الإسرائيلي من جهة أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقود طويلة. فإذا كانت الإدارة الأميركية (ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية) غير قادرة على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن على إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلة؟!
كم هو مهمٌّ الآن أن يتذكّر العرب أنَّ إسرائيل لم تنسحب من سيناء إلا نتيجة حرب أكتوبر عام 1973 واستخدام التنسيق العربي المشترك بأوجهه السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وكم هو مهمٌّ الآن أيضاً أن يتذكّر العرب أنَّ إسرائيل لم تنسحب من جنوب لبنان إلا نتيجة المقاومة الوطنية والتضامن اللبناني والإقليمي معها، وما كان للمقاومة الفلسطينية فيما بعد من دور في إجبار إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة، بينما لم تؤدِّ "اتفاقيات أوسلو وأخواتها" إلا لمزيدٍ من العدوان الإسرائيلي والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني.
لقد جاءت غالبية الإسرائيليين بحكومة يمينية متطرّفة لا تقبل بحلّ الدولتين ولا يعترف بعضها بالاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وهي حكومة تريد أولاً التصادم العسكري مع إيران والاستمرار في الحروب على حركات المقاومة بفلسطين ولبنان، ولا تريد أصلاً الدخول في تسوية شاملة أو في اعتماد المبادرة العربية كخطّة للسلام.
وحاول نتنياهو قبض الثمن الباهظ من واشنطن، سياسياً وعسكرياً ومالياً لإسرائيل، قبل إعلان قبوله بمبدأ حلّ الدولتين، وقد جعل القبول بهذا المبدأ مرتهناً بشروط إسرائيلية، ولسوف تزداد لائحة الشروط كلما ازدادت المطالب الأميركية منه. لكن حتى لو تجاوبت إسرائيل الآن بشكل محدود مع ما تريده واشنطن، فإنّ ما قد يحصل هو العودة إلى المماطلة في تنفيذ التعهّدات والغرق في التفاصيل بحيث يتمّ مع مرور الزمن تعطيل الأهداف.
وفي ظلّ حضور الضغط الإسرائيلي الفاعل داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونغرس والهيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و"السلطة الرابعة" أي الإعلام. والمعضلة هنا أنّ الفرز لا يكون فقط بين حزب ديمقراطي حاكم وحزب جمهوري معارض بل يتوزّع "التأثير الإسرائيلي" (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من "الديمقراطيين" يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا "اللوبي" أو ذاك علماً أنّ تعثّر "الرؤى الأوبامية" ليس سببه حصراً حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي"، فهناك طبعاً "مصالح أميركية عليا" ترسمها قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.
أيضاً، هناك اختلال كبير في ميزان "الضغوطات" على الإدارة الأميركية لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي" وغياب "الضغط العربي" الفاعل، ممّا يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدَف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما أنّ السلطة الفلسطينية هي "الحلقة الأضعف" في المنطقة.
إن إدارة أوباما، التي تعاني من انقسامات سياسية حادة داخل المجتمع الأميركي، تتعامل الآن مع واقع عربي فيه انقسام بين حكومات عربية، بعضها أقام معاهدات وعلاقات مع إسرائيل وبعضها الآخر لم يفعل ذلك بعد ويدعم قوى المقاومة ضدّ الإحتلال الإسرائيلي، وبين المحورين محور ثالث يترنّح ما بين الإثنين!. أيضاً، تتعامل إدارة أوباما مع ملف فلسطيني هو جوهر الصراع في المنطقة لكنّ المعنيين بهذا الملف ينقسمون الآن بين "مفاوض فقط" وبين "مقاوم فقط" وعلى أرض فلسطينية محتلة تئنّ هي نفسها من انقسام جغرافي وسياسي بين "حكومة التفاوض" و"حكومة المقاومة"!. ولم نلمس حتى الآن مواقف أميركية عملية حاسمة في مواجهة تمرّد "الخادم الإسرائيلي" على "سيّده الأميركي"، بل نرى أن حجم الضغوط الإسرائيلية من داخل أميركا تزداد يوماً بعد يوم على الرئيس أوباما. فما الذي سينتجه هذا المزيج من وقائع الحال عربياً وأميركياً؟!
الحكومات العربية هي الآن أمام مسؤولية تاريخية لكي تعيد النظر في خلافاتها وأوضاعها المزرية على أكثر من صعيد، وبأن تجعل من الهمجية والعنجهية الإسرائيلية مدخلاً لتضامن عربي يفرض على إسرائيل التنازلات ويعاقبها بالحدّ الأدنى سياسياً واقتصادياً، ويدفع الأطراف الفلسطينية إلى توحيد موقفها السياسي على قاعدة الجمع بين "اليد التي تحمل البندقية، واليد التي تحمل غصن الزيتون"، وإلاّ فإن الخيار الآخر هو التسليم بما سيتمّ التفاهم الأميركي/الإسرائيلي عليه بلا أيّ وزنٍ عربيٍّ فاعل في ميزان صنع القرار الأميركي.
الخميس، مارس 25، 2010
وحدة حال أميركي عربي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق