د. أديب المقدسي
الواقع المؤلم لأبناء الطائفة العربية الأورتوذكسية في فلسطين ، ليس وليد حادث طارئ ، انما غبن تاريخي متواصل منذ مئات السنين ، منذ وصول اول بطريرك يوناني في فترة الحكم العثماني ، واحداث انقلاب عنصري مقيت باستبعاد ابناء الطائفة العرب ، واحلال استعمار ديني يوناني يتحكم بأملاك هائلة للطائفة ، ولا يقدم الا خدمات تكاد تكون نقطة في محيط بالمقارنة مع الأموال والأملاك التي تهدر بدون حساب وبدون ان تخدم مصلحة ابناء الطائفة وقضاياهم الوطنية العامة ، الدينية والاجتماعية والسياسية على حد سواء.
من معلومات أعدها مهندس اورتوذكسي مختص بقضايا الأراضي ، يظهر ان أملاك هذه الطائفة العربية ، ذات التاريخ الوطني والدور الكبير في كل الفكر القومي العربي ، في مدينة القدس الغربية ( الاسرائيلية) فقط ،
تقدر بأكبر من مساحة القدس الشرقية كلها. وان مؤسسات حكومية لدولة اسرائيل من الكنيست الى مكتب رئيس الحكومة ووزارة المعارف وقيادة الشرطة القطرية ومباني هامة كثيرة أخرى من بينها مبنى الحاخامية الرئيسي في القدس ، اقيمت على اراضي الطائفة الأورتذكسية حسب اتفاقات ايجار شكلية وقعت مع البطرك اليوناني ، بدون العودة للأبناء الطائفة العرب ، وبمبالغ بخسة جدا ولسنوات طويلة ( 99 سنة مثلا )، لا احد يعرف اذا كانت تدفع الايجارات او هي دفعة بخسة لمرة واحدة ، تجعل الحكومة الاسرائيلية تتحكم حتى بانتخاب البطريرك والمصادقة عليه ، وعمليا لا صلاحيات له بدون هذه الموافقة ، أي لا يستطيع التحكم باموال الطائفة وأملاكها ، وما يتبقى له ادارة بعض الصلوات . هذا عدا التلاعب وبيع الأراضي بلا رقابة ، وبأسعار بخسة ( كما حدث في قطعة أرض كبيرة على شاطئ البحر في مدينة يافا ، ولكنني لا املك المعلومات الكافية حول هذه المواضيع المسكوت عنها اعلاميا لأسباب لا أفهمها ) ولو كانت اراضي هذه الطائفة تحت سيطرتها لفرضت على اسرائيل شروطا وليس العكس . ولتغير كل واقع ابناء هذه الطائفة ، ولقاموا بدور وطني أبعد تأثيرا في كل القضية الفلسطينية ، وقضية تطوير المرافق الحياتية الحيوية لكل ابناء الشعب الفلسطيني .
لا أكتب من منطلقات دينية ، ولكن عندما أعرف ان القدس العربية التي كان يسكنها قبل 1948 أكثر من 90 الف مسيحي واليوم لا يتجاوز عدد سكانها المسيحيين 2000 مواطن ، فهذا تعبير عن عدة مشاكل تراكمت ضد ابناء وطننا المسيحيين ، من بينها واقع الكنيسة الغائبة عن رعاية ابناء طائفتها وتعزيز بقائهم في وطنهم ، كقوة للكنيسة نفسها ، حتى لا تتحول الى بطاركة ومطارنة وكهنة بدون جمهور ، هذا أولا.. وثانيا ، نكون بلا ضمير اذا تجاهلنا واقع الدور الذي يلعبة التطرف الاسلامي ، في دفع المسيحيين الى البحث عن فضاء آخر خارج وطنهم ، هربا من العداء الطائفي الذي لا يفيدنا تجاهله واستبداله بشعارات وطنية فارغة من المضمون لإخفاء حقائق مؤلمة وقاتلة لتطور مجتمع مدني متحرر في فلسطين ، وثالثا دور الاحتلال في شق وحدة الصف الوطنية لجميع ابناء الشعب الفلسطيني ، الى جانب التضييق على التوسع الطبيعي في البناء ، وقلة العمل ، وضيق فرص التعليم ، ومصادرة الأرض ، وتعرض المسيحيين لنفس القمع الاحتلالي خاصة في القدس العربية ، الى جانب قمع ذوي القربى من أهل الوطن ، ان ما جرى في غزة التي حررت من السلطة الفلسطينية من بطش وقتل وحرق مؤسسات فلسطينية ، هو اشارة صغيرة لتاريخ مليء بالإعتداءات الهمجية ، وما يجري في مدن الضفة الغربية يكاد يكون اذلالا رهيبا أمتنع عن نشر تفاصيله ، صونا لإمكانية تحرك السلطة واعادة النظام والاحترام ، ان لم يكن بالتثقيف والقانون ، فليكن بالعصا .
وبكل مسؤولية أقول ان التعرض لأبناء الطوائف المسيحية لا يقل خطرا وعنفا عن تصرفات الاحتلال ، بل تتجاوزه في العنف والاستهتار ، وأكتب هذا بالاعتماد على أحاديث زملاء فلسطينيين من بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وغيرها من البلدات التي تركها المسيحيين ، هربا من العنف والتعسف الطائفي الى جانب عوامل اخرى سببها الاحتلال . ان تضافر الجهود غير المنسقة بين الاحتلال والتطرف الطائفي الاسلامي ، وغياب دور فاعل ومؤثر للقيادات الدينية المسيحية ، قادا الى تصفية جزئية للوجود المسيحي في مناطق السلطة الفلسطينية والقدس العربية. والقصص التي سمعتها مؤلمة لكل شخص ذو حس انساني سليم ، واكرر بأني أمتنع عن تسجيلها ، املا في ان تأخذ السلطة الفلسطينية دورا متعاظما وحاسما في صيانة المجتمع الفلسطيني من ظواهر طائفية قاتلة للمجتمع الفلسطيني بكل طوائفه ، والأكثر تضررا في المستقبل سيكونون ابناء الطائفة الاسلامية .
توسمنا خير عندما استجابت البطريركية اليونانية لرسم الأرشمندريت عطالله حنا مطرانا .. ولكنها خطوة يتيمة يجب ان تتبعها خطوات لإعطاء ابناء الوطن مكانتهم التي يستحقونها في ادارة شؤون طائفتهم وأملاكهم ومصيرهم . ما يحدث هو تنفيس للضغط الصادق بجعل العرب مشاركين ، على الأقل .. بمصير طائفتهم .حتى اليوم تتحايل البطركية على ضرورة اقامة مجلس مدني الى جانب البطركية لإدارة سليمة لمصالح الطائفة .وبذلك تبقى الصلاحيات بأيدي لا يربطها رابط ثقافي او لغوي او اجتماعي او سياسي او حسي ، أوحتى ديني بمفهوم انساني واسع ، مع ابناء الطائفة المفروض ان البطريركية تمثلهم . والعلاقة هي علاقة مستعمر مع تابعين .
اتابع نشاطات المطران حنا عطالله ، وأعرف ان المجال امامه ضيقا بدون تجنيد واسع لأبناء الطائفة ، والسؤال الذي يفرض نفسه ، كيف يمكن ان يأخذ ابناء هذه الطائفة الوطنية دورا أوسع في القيادة الروحية للطائفة العربية الاورتوذكسية وفي الاشراف على املاكها ومصالحها المتعددة ؟ وهل من مصلحة الطائفة التنازل عن املاكها الهائلة في كل فلسطين ، في سبيل تحررها من التبعية للكهنة اليونان ؟ ما هو الدور المرجو ان يلعبه الأردن مثلا في موضوع زيادة تأثير ابناء الطائفة العرب على مجريات الأمور في البطركية الخاضعة للسيطرة اليونانية ؟ وما هو الدور الذي تستطيع السلطة الفلسطينية ان تلعبه أيضا؟
أطرح أسئلة حارقة ولا أعرف ما يعطي القانون لهذه الجهات ، ولكن وجود سلطة وطنية في الأردن ، يعطيها الحق بالتنسيق مع مجالس مدنية مسيحية اوتوذكسية ان تتخذ خطوات بعيدة المدى في التأثير على البطرك اليوناني ومجلس مطارنته . نفس الأمر مع السلطة الفلسطينية ...
وللتوضيح ، الموضوع ليس دينيا ايمانيا ، بل اجتماعي واقتصادي بالغ الخطورة والتأثير على مستقبل العرب المسيحيين من جميع الطوائف. وواضخ ان الاسقاطات الخطيرة يتأثر بها الجميع بما فيهم المسلمين أيضا . وهذا يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على النضال الوطني لجميع ابناء الطوائف العربية ضد استمرار الاحتلال وضد التلاعب المخزي بمصير جزء أصيل من العرب الوطنيين .
اذن الموضوع ليس طائفيا . بل قضية وطنية من الدرجة الأولى في أهميتها الاستراتيجية للمسيحيين اولا وللمسلمين ثانيا ، ولقضية التحرر ومستقبل الدولة التي نحلم بها . دولة دمقراطية مستقلة تحترم حقوق الانسان وحق التعددية الدينية والفكرية .
حقا انا خارج القدس العربية منذ سنوات طويلة ، ولا انتمي للطائفة الاورتوذكسية ، بل انا من بيت مسلم ، ولكني نشأت في بيت في وسط الحي المسيحي ، حيث تأصلت في نفسي الثقافة الوطنية ، ولا أذكر اني سمعت تعبير مسيحي او مسلم في صباي وشبابي ، لا في بيتي ، حيث كان أبي متدينا ، ولا بيت اترابي المسيحيين وغالبيتهم من بيوت متدينة ، وارى بالطوائف المسيحية فصيلا وطنيا هاما ، وقوى اجتماعية ذات رؤية متقدمة وفهم أصيل لأهمية الوحدة على قاعدة وطنية غير دينية ، تملك رؤية ايضا لمفاهيم الرقي الاجتماعي والاقتصادي والعلمي ، ولأهمية الطرح القومي الموحد لجميع ابناء فلسطين ،بشكل خاص ، ولكل العالم العربي عامة.. وهذا هو تاريخهم ، الذي لا يمكن انكاره ، وهذا الدور يميزهم في المهجر أيضا، وأكاد أقول ان غيرتهم الوطنية على ما يجري في وطنهم ، رغم ما يحمله بعضهم من ذكريات صعبة ، هو مقياس للوطني الحقيقي .
ليس سرا ان ابناء الطائفة العرب الذين هاجروا قسرا من وطنهم ، وبعضهم لأسباب طائفية ضيقة الأفق وفقيرة العقل ، ترى بالمسيحيين العرب دخلاء وصليبيين ، خاصة في الفترة الأخيرة مع التراجع عن الفكر القومي الى فكر اسلاموي اصولي متخلف وفقير العقل ، ويفتقد للرؤية العقلانية ولفهم المصلحة الوطنية المصيرية للجميع ، بالاصطفاف وطنيا لكل الطوائف العربية على قاعدة وطنية وغير دينية ، ما زالوا فصيلا يرى بانتمائهم الفلسطيني مسالة انتماء اذا فقدوه فقدوا جوهر انسانيتهم .
المسيحيون العرب عامة والفلسطينيين خاصة ، باتوا يمثلون اليوم في دول المهجر ، فئة اجتماعية مميزة بمستواها العلمي والتقني الراقي ، ودورها الاقتصادي المتزايد اتساعا وتأثيرا .
يجب ان نفهم ان المهاجر المسيحي لا يجد مشكلة في الاندماج بالمجتمع الغربي ، لا حضاريا ولا دينيا ولا علميا ولا علمانيا أيضا .
هذا أعرفه من الواقع الذي أحياه . بينما ارى وألمس ، وسابقا لمست هذا في نفسي ، حتى استطعت التأقلم فيما بعد بالمجتمع الذي حضنني .
المهاجر المسلم يجد مشاكل عويصة ، وأحيانا مستحيلة في تأقلمه ، تجعله غريبا في المجتمع الغربي الجديد ورافضا لأخلاقة الاجتماعية ، ومتعصبا أكثر لتقاليده البالية ، التي هرب منها ، ليعود بعضهم اليها أكثر تعصبا في الغرب ، أي لا عقلانية في التفكير وفي التطور الشخصي ، تجعل بعض المسلمين حائرين من الحضارة المتطورة والمتغيرة دوما بسرعة الصاروخ ، بينما عقلهم لا يستوعب أكثر من سرعة الجمال ، حتى في التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تفرضها العولمة على مجتمعه .
من هنا لا ارى انه لا يمكن استعادة من غادر من المسيحيين ، لكي يعودوا الى مجتمع لا يستجيب لتطلعاتهم العلمية والحضارية والاجتماعية المنفتحة ، وخوفي ان تتحول المجتمعات العربية الى مجتمعات على هامش الحضارة ، الأمر الذي دفع همينغتون الى رؤية ان الصراع الأخطر لعالمنا سيتمحور حول الحضارة ، حقا لا ارى كل ما يراه في صراع الحضارات ، ولا ارى ان التخلف يشكل حضارة ، بل حالة انسانية بدائية ، قد تؤثر سلبا بشكل مقلق ، ولكنها ستبقى هامشية جدا .
السؤال المقلق حقا ، هل من طريق لتخليص البطركية في فلسطين والأردن من الكهنة اليونان ، او من زيادة التأثير العربي الوطني كشريك كشريك كامل في القرار بكل ما يخص شؤون الأملاك والأموال والمشاريع ؟
هذا السؤال مطروح دائما ولا أجدد به شيئا . ولكني الاحظ ان الأصوات القلقة على الواقع المسيحي العربي تتلاشى رويدا رويدا ، مع استفحال الهجرة المدمرة للمجتمع العربي من فلسطين خاصة.
ربما هناك ضرورة لأن تتبوأ الجامعة العربية مكانا متقدما في علاج قضايا المسيحيين العرب وسائر ابناء الأقليات .
هذه قضية ملحة ومصيرية ليس خوفا على المسيحية في الشرق بحد ذاتها ، انما على مستقبل مجتمعاتنا العلمي والاقتصادي ، حيث يمثل المسيحيين العرب فئة اجتماعية ، تملك دوافعها الذاتية الهامة للتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي ، والثقافي عامة . وهذا الأمر أكده العديد من أصحاب الرأي العرب ، وخاصة احد امراء العائلة السعودية الأمير طلال .
إن ما يجب ان يشغل المثقفين العرب والسياسة العربية عامة ، انقاذ هذه الطائفة العربية الوطنية من فك الكماشة اليونانية والاسرائيلية والاسلاموية !!
د. أديب المقدسي – اكاديمي فلسطيني – الولايات المتحدة
dramaqdisi@gmail.com
الخميس، مارس 18، 2010
المسيحيون الأورتوذكس العرب في فلسطين – من نشر الصحوة القومية الى الهجرة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق