الجمعة، مارس 12، 2010

أولية السؤال عن الآخر على السؤال عن الوجود عند لفيناس

ترجمة زهير الخويلدي


هل الأنطولوجيا المعاصرة هي أنطولوجيا أساسية؟[1]

يشكك عمونيال لفيناس في هذا المقال الذي يمهد للأثر الكبير "الكلية واللانهائي" الذي ظهر في 1961 في أسبقية الأنطولوجيا (معقولية الوجود).يعوض لفيناس السؤال عن الوجود بالإتيقا التي تتعهد بأن تكون في مرتبة الفلسفة الأولى كرد فعل ضد فلسفة هيدجر الذي تميزت الميتافيزيقا عنده بنسيان الوجود. وتعني الإتيقا انفتاح الأنا المطابق على غيرية الآخر. هكذا ينجز لفيناس قلبا في التراتبية المتبلورة مع هيدجر بين الوجود والموجود بمعنى أنه يطرح تفوق الموجود على الوجود والموجود ليس الخضوع للوجود المجهول بل التمعن في الموجود الآخر بوصفه وجهVisage . إن السؤال عن الآخر يفيض على السؤال عن الوجود.

1- أسبقية الأنطولوجيا:

هل تستند أسبقية الأنطولوجيا بالمقارنة مع اختصاصات المعرفة على واحدة من أكثر البديهيات لمعانا؟ ألا تتضمن كل معرفة بالعلاقات التي تربط أو تعارض الموجودات الواحدة بالأخرى سلفا فهم الفعل الذي توجد به هذه الموجودات وهذه العلاقات؟

أن نمفصل دلالة هذا الفعل – وأن نستعيد مشكل الأنطولوجيا- المحلول عند كل واحد بشكل ضمني، والمنجز في صورة نسيان- يعني، على ما يبدو، أن ننشئ حكمة أساسية دونها تبقى كل معرفة فلسفية أو علمية أو عمومية معرفة مبتذلة. إن كرامة البحوث الأنطولوجية المعاصرة مدينة لهذا الطابع الملح والأصلي لهذه البداهة. إن المفكرين بالارتكاز عليها قد ارتفعوا مباشرة فوق نواقص النوادي الأدبية من أجل أن يتنفسوا من جديد هواء المحاورات الكبرى لأفلاطون وللميتافيزيقا الأرسطية.

أن نضع هذه البداهة الأساسية موضع تساؤل هو مشروع جسور. لكن اقتحام الفلسفة عبر طرح هذا السؤال هو على الأقل صعود نحو المنبع في ماوراء الأدب ومشاكله المرضية.

2- الأنطولوجيا المعاصرة:

إن الأنطولوجيا المسماة أصيلة تتفق مع حدثية الوجود الزمني. وأن نفهم الوجود من جهة كونه موجود،- يعني أن نوجد الآن هنا. ليس لأن الآن- هنا يكشف ويطهر النفس بالبراهين التي يطرحها ويسمح لها حتى ببلوغ القابلية إزاء الوجود. وليس لأن الآن- هنا يفتح تاريخا حيث يسمح التقدم وحده بادراك فكرة الوجود. لا يستقي الأنا - هنا أفضليته الوجودية من الصعود الذي يقوم به ولا من الحضارة التي أوجدته. من هنا بدأ يتعلم فهم الوجود في هذه الاهتمامات الزمنية. إن الأنطولوجيا لا تبلغ منتهاها لما ينتصر الإنسان على وضعه وإنما عند التوتر نفسه الذي يضطلع به هذا الوضع.

هذه الإمكانية في تصور العرضية والحدثية ليس بوصفها وقائع ممنوحة للتعقل بل بوصفها فعل التعقل – هذه الإمكانية في إظهار انتقالية الفهم والقصد الدلالي في خامية الواقعة ومضامين معطاة- إمكانية مكتشفة بواسطة هوسرل ولكنها ارتبطت مع هيدجر بتعقل الوجود بصفة عامة- تمثل التجديد الكبير للأنطولوجيا المعاصرة. عندئذ لا يفترض فهم الوجود موقفا نظريا فقط بل كل تصرف بشري. كل الإنسان هو أنطولوجيا. إن أثره العلمي وحياته العاطفية وإشباعه لحاجياته ولشغله وحياته الاجتماعية تمفصل فهم الوجود أو الحقيقة وفق صرامة تضمن لكل واحد في هذه اللحظات وظيفة محددة. إن الوجود الذي يخصنا ينبع برمته من هذا الفهم- وهذا الأخير يتأثر بنسيان الوجود. ليس لأنه ثمة إنسان فإنه ثمة حقيقة. بل لأن الوجود بصفة عامة يظهر غير مفصول عن قبليته- ولأنه ثمة حقيقة، أو ،لو أردنا،لأن الوجود مدرك فأنه ثمة إنسانية...

3- إلتباسية الأنطولوجيا المعاصرة:

إن المماهاة بين فهم الوجود وثراء الوجود العيني تهدد أولا باختراق الانطولوجيا للوجود. هذه الفلسفة الوجودية التي رفضها هيدجر من جهته ليست سوى الأطروحة المرفوضة ولكن التي لا يمكن تفاديها في تصوره للأنطولوجيا. إن الوجود التاريخي الذي يهم الفيلسوف بالقياس إلى كونه أنطولوجيا يهم الناس والأدب لأنه وجود مأساوي. عندما يقع الخلط بين الفلسفة والحياة، لم يعد المرء يعرف أنه يجنح إلى الفلسفة لأنها تعاش أو يتشبث بالحياة لأنها فلسفية. إن الإسهام الجوهري للأنطولوجيا الجديدة قد يظهر في معارضتها للتعقلية الكلاسيكية. فأن نفهم الأداة ليس أن نشاهدها بل أن نعرف نستعملها، وأن نعرف وضعنا من الواقع ليس أن نكتفي بتعريفه بل أن نوجده في انعطاء عاطفي، وأن نفهم الوجود يعني أن نوجد. كل هذا يشير على ما يبدو إلى قطيعة البنية النظرية للفكر الغربي. أن نفكر لا يعني البتة أن نتأمل وإنما أن نلتزم وأن نكون محاطين بما نفكر فيه وأن نكون متشابكين- مع الحدث الدرامي للوجود في العالم.

إن الكوميديا تبدأ مع الأكثر بساطة من حركاتنا. وإنها تتصرف جميعها وفق خطا لا يمكن تفاديه. اذ عندما أمدد يدي لتقريب كرسي فإنني أجرح فخذ جليسي وارسم خطا في المكان وأجعل مطفأة سجائري تسقط . وبفعل ما أردت فعله أكون قد فعلت ألف شي لم أرده. إن الحركة لم تكن خالصة لأنني تركت آثارا. ولما سعيت إلى محو هذه الآثار فإنني تركت آثارا أخرى. لقد طبق شارلوك هلمز علمه على هذه واحدة من محاولاتي الكبيرة وغير قابل للاختزال ومن هنا أمكن للكوميديا أن تدور حول التراجيديا. ولما يعود خطأ الحركة على الهدف المتبع فأننا نكون في حضن التراجيديا.

يقوم لايوس بما يجب القيام به من أجل التخلي عن التخمينات الرهيفة ومن أجل أن يتم استكمالها. إن أوديب يهتم ببؤسه لكي يتفوق. مثل الفريسة التي تهرب من ضجيج الصيادين على طبقة الثلج السميكة في خط مستقيم ولكنها تترك بالتحديد الآثار التي تؤدي إلى ضياعها.

هكذا نكون مسؤولين عن ماوراء قصدياتنا. ويستحيل علينا بالنسبة إلى النظرة التي توجه الحركة أن نتفادى الفعل بواسطة الانتباه. نحن نضع إصبعنا على الزناد والأشياء تسير ضدنا. هذا يعني أن الوعي الذي يخصنا وتحكمنا في الواقع عن طريق الوعي لا ينفذان إلى علاقتنا به ، حيث نكون حاضرين عبر كل السعة التي تخص الوجود. وأن لا يكون الوعي بالواقع متفقا مع سكننا الخاص في العالم – هذا هو الذي أنتج في فلسفة هايدغر ضغطا قويا في عالم الأدب.

بيد أن فلسفة الوجود تتلاشى أمام الأنطولوجيا. فعل اشتباك هذا وهذا الحدث الذي أكون فيه ملتزما ومرتبطا حيث أوجد مع ما ينبغي أن يكون موضوعي بواسطة روابط لا تختزل في أفكار، هذا الوجود يؤول بوصفه فهما. عندئذ يتعلق الطابع المتعدي لفعل عرف بفعل وجد.

إن الجملة الأولى من ميتافيزيقا أرسطو "كل الناس يرغبون بالطبع في المعرفة" تظل صحيحة بالنسبة إلى فلسفة كانت على الأخف قد خلقت مستهجنة من طرف المفكر. إن الانطولوجيا لا تأتي فقط لتسرع علاقاتنا العملية مع الوجود مثلما يسرع تأمل الماهيات في الكتاب العاشر من اتيقا إلى نيقوماخوس الفضائل. إن الأنطولوجيا هي ماهية كل علاقة مع الموجودات وحتى كل علاقة مع الوجود. ألا ينتمي الفعل الذي يكون به الموجود مفتوحا إلى فعل وجوده عينه؟ إن الوجود العيني الذي يخصنا يؤول وفق وظيفة دخوله في انفتاح الوجود بصفة عامة. إننا نوجد ضمن حلقة ذكاء مع الواقع- الذكاء هو الحدث عينه الذي يتمفصل معه الوجود. وكل عدم فهم ليس سوى ضرب من الانكماش في الفهم. هكذا يحدث أن تحليل الوجود وما يمكن أن نسميه إنيته Ecceité ليس إلا وصفا لماهية الحقيقة وشرط المعقولية ذاتها للوجود.

4- الغير بوصفه محاور

يرتكز الفهم عند هايدغر في نهاية المطاف على انفتاح الوجود (...) ويتمثل ذكاء الموجود حينئذ في الذهاب إلى ماوراء الموجود – في الانفتاح تحديدا – والعمل على إدراكه في أفق الوجود. هذا يعني أن الفهم عند هايدغر يلتقي بالتقليد الكبير للفلسفة الغربية: أن نفهم الوجود المخصوص يعني من الآن فصاعدا أن ننتقل إلى ماوراء الخصوصي – وان نفهم يعني أن نتصل بالخصوصي الذي وحده هو الموجود بواسطة المعرفة التي هي دائما معرفة بالكوني. لا يمكن أن نعارض المفضولات الشخصية بالتراث العجيب الذي يواصله هايدغر. ولا يمكن أن نفضل علاقة مع الموجود بوصفه شرط الأنطولوجيا على الأطروحة الأساسية التي بمقتضاها كل علاقة مع موجود خصوصي تفترض الحميمية أو نسيان الوجود.

وقعنا في الاختزال على ما يبدو منذ أن التزمنا بالتفكير وتحديدا للأسباب ذاتها التي منذ أفلاطون أخضعت الإحساس بالخصوصي للمعرفة بالكلي والعلاقات بين الموجودات لبنى الوجود والميتافيزيقا للأنطولوجيا والوجودي للوجوداني. فكيف عندئذ يمكن أن تكون العلاقة مع الموجود منذ البدء شيئا مغايرا لفهمه كموجود – وفعل التحرر يتيح له أن يوجد باعتباره موجودا؟

ما عدى الغير. إن العلاقة التي تربطنا به تتمثل بكل تأكيد في أن نريد فهمه لكن هذه العلاقة تتجاوز الفهم. وذلك ليس فقط لأن معرفة الغير تقتضي، خارج الفضول، أيضا التعاطف أو الحب وهي طرق وجود متميزة من التأمل المتعمق. ولكن لأن هذا الأخير لا يؤثر فينا في علاقتنا الخاصة مع الغير بالانطلاق من مفهوم. انه موجود ويعد كذلك.

هنا يعترض المنتمي إلى الأنطولوجيا ألا يشير قول الموجود من الآن فصاعدا إلى أنه هو الذي يهمنا من خلال اشراقة الوجود وتبعا لذلك يتحول إلى انفتاح على الوجود، وهو الذي قد تبلور منذ البدء في حضن الفهم؟ وماذا يعني بالفعل استقلال الموجود إن لم يكن إحالته على الأنطولوجيا؟

أن نتعلق بالموجود من حيث هو موجود يعني بالنسبة إلى هايدغر أن نسمح الموجود بأن يوجد وأن نفهمه بوصفه مستقلا عن الإدراك الذي يكتشفه ويدركه. انه ينعطى بواسطة هذا الفهم تحديدا بوصفه موجودا وليس فقط بوصفه موضوعا. إن الوجود مع الغير – Miteinandersein – يرتكز حينئذ بالنسبة إلى هايدغر على العلاقة الأنطولوجية.

نحن نجيب: إلا يتعلق الأمر في علاقتنا الخاصة مع الغير بالسماح بالوجود؟ وألا يستكمل الغير استقلاليته في دوره الخاص بالحوار؟ هل نفهم الذي نتحدث معه في وجوده منذ الوهلة الأولى؟

كلا. ليس الغير موضوع فهم أولا ومحاور بعد ذلك. إن العلاقتين تتطابقان. وبعبارة أخرى إن فهم الآخر لا ينفصل عن التضرع إليه Invocation. أن نفهم شخصا ما يفيد من الآن فصاعدا أن نتحدث إليه. وأن نطرح وجود الغير بالسماح له بالوجود يعني إذن أن نحسن قبول هذا الوجود وأن نعيره الاهتمام. حسن القبول وإعارة الاهتمام لا تتطلب فهما ما ولا السماح بالوجود. إن الكلام يخط علاقة أصلية. إن الأمر يتعلق بادراك وظيفة اللغة ليس بوصفها خاضعة للوعي الذي نكونها من حضور الغير أو من مجاورته أو الاجتماع به، وإنما بوصفه شرط الحصول على هذا الوعي. يقينا، ينبغي أيضا أن نفسر لماذا لا يحتل حدث الكلام مكانه على مسطح الفهم. لماذا لا يتم توسيع معنى الفهم فعليا وفق الصياغة المشهورة الراجعة إلى الفنومنولوجيا؟ ولماذا لا يتم إظهار الاندماج مع الغير بوصفه الطابع الخاص لفهمه؟

هذا الأمر يبدو لنا مستحيلا. إن معالجة المواضيع المستعملة تؤول مثلا بوصفها أشكال من فهمها. لكن توسيع معنى المعرفة يتحقق في هذا المثال من خلال تجاوز المواضيع المعروفة. انه يكتمل رغم كل ما يبديه من التزام تأملي قبلي باستعمال الأدوات. إن الموجود في حضن الاستعمال يقع تجاوزه في الحركة نفسها التي تصل إليه- وإننا نتعرف في هذا الماوراء الضروري على الحضور بالقرب من المسار عينه من الفهم. إن هذا التجاوز لا يسمح فقط بالظهور الأولي للعالم عند كل مرة نمسك فيها بالاستعمالي كما يريد هايدغر. انه يرتسم أيضا في امتلاك واستهلاك الموضوع. ليس بهذه الصورة عندما يتعلق بعلاقتي مع الغير. لو أردنا هنا أيضا أن افهم الوجود في الغير وفي ماوراء خصوصيته الموجودية. إن الشخص الذي أوجد معه على صلة أسميه وجودا، ولكن عند تسميته بالوجود فاني أنادي عليه. إني لم أفكر فقط في كونه موجودا بل إني أتكلم معه. انه كان شريكي في حضن العلاقة التي يجب أن تجعلني حاضرا فقط. لقد تكلمت معه، بمعنى أني قمت بتخفيف الوجود الكوني الذي يتقمصه من أجل الاهتمام بالموجود الخاص كماهو. هنا يجب أن تفقد الصياغة "قبل أن أكون في علاقة بالوجود ينبغي أن أقوم بفهمه بوصفه وجودا" تطبيقها الصارم: عند فهم الوجود أقول له بالتوازي فهمي. إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا استطيع أن أقابله دون أن أعبر له عن هذه المقابلة نفسها. إن المقابلة تتميز عن المعرفة تحديدا بهذا. إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يمكن أن أقابله دون أن أعبر له عن هذه المقابلة ذاتها. ثمة في كل موقف تجاه الإنسانية الخلاص- وألا يكون رفضا للتخليص. إن الإدراك لا يتم إسقاطه نحو الأفق –حقل حريتي وقدرتي وملكيتي من أجل تحصله في هذا العمق المشترك للفرد. انه يرتبط بالفرد المحض.وبالموجود من حيث هو كذلك. وهذا يعني تحديدا، لو أردنا التعبير عنه بألفاظ الفهم، أن فهمي للموجود بماهو كذلك هو من الآن فصاعدا التعبير الذي أمنحه لهذا الفهم.

هذه الاستحالة في الاقتراب من الغير دون التكلم معه تعني هنا أن الفكر غير مفصول عن التعبير. لكن التعبير لا يتمثل في تحويل بشكل ما فكر يخص الغير إلى روح الغير. هذا نعرفه ليس فقط منذ هايدغر بل منذ سقراط. والتعبير لا يتمثل البتة في تمفصل الفهم الذي أتقاسمه منذ الآن مع الغير. إن التعبير يتمثل قبل كل مشاركة مع محتوى معين بواسطة الفهم في تشييد اجتماعية عبر علاقة لااختزالية بالنتيجة في الفهم. ليس العلاقة مع الغير أنطولوجية . وهذه الصلة بالغير الذي لا يختزل إلى تمثل للغير بل إلى التوسل له ،حيث التوسل لا يكون سابقا على الفهم، نسميه الدين. إن ماهية الخطاب هي صلاة. وما يميز الفكر الذي يقصد ربط الصلة مع شخص ما هو أنه في هذا الأخير يتمفصل منادي: ما سمي وجد وفي نفس الوقت هو ما وقعت مناداته.

5- الدلالة الإتيقية للغير:

عندما يتعلق الفهم بالموجود في انفتاحه على الوجود يعثر على دلالته من خلال الوجود. في هذا المعنى لا يتضرع إليه بل يسميه فقط وهكذا فإنه يستكمله بالنسبة إليه بعنف ونفي. والعنف هو نفي سلبي. وهذه الجزئية توصف في الفعل الذي يوجد فيه الموجود دون أن يضيع تحت قدرتي. إن النفي الجزئي الذي هو عنف ينفي استقلالية الموجود: انه يكون بالنسبة إليَّ. إن الامتلاك هو النمط الذي من خلاله يكون الموجود من جهة كونه موجود منفيا جزئيا. لا يتعلق الأمر فقط بالفعل الذي يكون به الموجود آلة وأداة- أي وسيلة، وإنما هو أيضا هدف – انه غذاء مستهلك وعند الشهوة يمنح ويقدم إليَّ.

إن الرؤية بكل يقين تقيس قدرتي على الموضوع غير أنها من الآن فصاعدا أصبحت شهوة. إن مقابلة الغير تتمثل في الفعل الذي لا أمتلكه بالرغم من امتداد هيمنتي عليه ومن عبوديته لي. انه لا يدخل البتة في انفتاح الوجود حيث أمسكه من الآن فصاعدا بوصفه داخل حقل حريتي. انه يأتي إلى مقابلتي ليس بالانطلاق من الوجود بصفة عامة. كل ما يأتيني منه بالانطلاق من الوجود بصفة عامة يمنح يقينا إلى فهمي والى امتلاكي. أنا افهمه بالانطلاق من تاريخه ومن وسطه ومن عاداته. وما يستعصى فيه عن الفهم يعني هو الموجود. وأنا لا أستطيع أن أنفيه جزئيا وفي العنف ندركه ونمتلكه بالانطلاق من الوجود بصفة عامة.إن الغير هو الموجود الوحيد حيث لا يمكن أن يعلن النفي سوى تاما: القتل. الغير هو الموجود الوحيد الذي يمكنني أن أرغب في قتله. يمكنني أن ارغب. ولكن هذه الإمكانية هي العكس الكي للقدرة. ان انتصار هذه القدرة يعني خسارتها كقدرة. إذ في اللحظة التي تحقق قدرتي على القتل يكون الغير قد تخلص مني. يمكنني بكل تأكيد أن أحقق هدفا عندما أقتل ويمكن أن أقتل مثلما أصطاد أو مثلما أقطع الشجار أو الحيوانات- لكنني إذن أبلغ الغير في انفتاح الوجود بصفة عامة بوصفه عنصر من العالم الذي أمسكه واني أتصوره من جهة الأفق. إني لم أنظر إليه من جهته المقابلة ولم ألتقي بوجهه. تقاس غواية النفي التام اللانهائي في هذه المحاولة واستحالتها – انه حضور الوجه. أن نكون في صلة مع الغير وجها لوجه – انه ليس القدرة على قتله. انه أيضا منزلة الخطاب (...)

سواء كانت العلاقة بالموجود توسل من خلال الوجه وفيما ما مضى خطابا وصلة بالعمق وبالأحرى مع أفق ما – ثقب من الأفق- وأن يكون مجاوري Mon prochain الموجود بامتياز فإن كل هذا يمكن أن يظهر مفاجئا جدا إذا ما رجعنا إلى تصور الموجود، غير الدال في حدا ذاته، ظلال لأفق لامع، وهو لا يحصل على دلالة إلا من خلال حضوره في الأفق. إن الوجه يعني آخرية Autrement. وفيه تكون المقاومة اللامتناهية للموجود في متناول قدرتنا وتثبت نفسها تحديدا ضد إرادة القتل التي تتحداها، بما أنها عارية تماما- وعري الوجه ليست مجرد صورة أسلوبية- انه يدل في حد ذاته. إننا لا نقدر حتى على التصريح بان الوجه يكون انفتاحا، هذا سيؤدي إلى جعله أمرا نسبيا بالمقارنة مع الوفرة المحدقة

هل يمكن أن يكون للأشياء وجوها؟ أليس الفن هو الفاعلية التي تعطي وجوها للأشياء؟ ألا تكون واجهة منزل هو منزل يشاهدنا؟ إن التحليل الذي قادنا إلى هنا لا يمنحنا الجواب الكافي. مع ذلك نحن نطلب لو أحجمنا عن الجمع بين الانطلاق المجهول والفاتن والمدهش للإيقاع في الفن والاجتماعية والوجه والكلام. نحن نقترح دلالية الوجه ضد الفهم والدلالة الحاصلة نتيجة الأفق.

هل تمكننا الإشارات المختصرة التي من خلالها أنتجنا هذا المعنى من أن نستشف دوره في الفهم في حد ذاته وكل الشروط التي يرسمها حقل العلاقات المعرض للعطب؟ إن ما نتوقعه يبدو لنا قد لمحت إليه على الأقل فلسفة كانط العملية والتي نشعر بأنفسنا قريبين منها بالخصوص.

في ماذا لم تكون النظرة إلى الوجه نظرة بل استماع وكلام- وكيف أمكن لمقابلة الوجه بمعنى الوعي الأخلاقي- أن توصف باعتبارها شرط الوعي القصير جدا وللانكشاف، وكيف يثبت الوعي نفسه بوصفه استحالة ارتكاب الجرم، وماهي شروط ظهور الوجه، بمعنى الغواية واستحالة القتل، كيف أستطيع أن اظهر إلى نفسي بوصفي وجه، وفي النهاية وفق أية مقياس تكون العلاقة مع الغير أو مع التشاركية هي العلاقة التي تخصنا واللامختزلة إلى الفهم، ومع اللانهائي- هذه هي المباحث التي تشتق من هذه المنازعة الأولى مع أولوية الأنطولوجيا. ما انفك البحث الفلسفي في كل الأحوال بالاقتناع بالتفكير في الذات أو في الوجود. إن التفكير لا يسلمنا إلى سرد المغامرة الشخصية لنفس شخصية تعود إلى ذاتها بلا انقطاع حتى وان كانت تظهر في حالة فرار. إن الانساني لا يمنح نفسه إلا في علاقة غير متكافئة."[2]

Extrait de Revue de métaphysique et de morale « l’ontologie est-elle fondamentale ? », Janvier 1951, PUF, pp.88-98.


[1] Anthologie, les grandes questions de la philosophie, Textes réunis et présentés par Marie-Reine Morville, Delagrave Edition, 2001.p.p.77.86

[2] Emmanuel Levinas, in Anthologie, les grandes questions de la philosophie, Textes réunis et présentés par Marie-Reine Morville, Delagrave Edition, 2001.p.p.81.86.

ليست هناك تعليقات: