الاثنين، مارس 08، 2010

مقترح تهدئة في خدمة الحرب لا السلام

نقولا ناصر


(كون المنطقة أصبحت فعلا جزءا من ولاية حلف "الناتو"، الذي تقوده الولايات المتحدة لا يترك للدول العربية خيارا سوى التساوق مع الاستراتيجية الإقليمية للناتو وقيادته الأميركية)


إن المقترح الأميركي باستئناف مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية غير مباشرة، الذي تبنته اللجنة العربية الوزارية لمتابعة مبادرة السلام العربية في القاهرة يوم الأربعاء الماضي محددة أربعة شهور كسقف زمني لهذه المفاوضات، يحتاج إلى قوة إقناع أميركية استثنائية لتبديد الشكوك العربية الرسمية والشعبية في جديته وفي صدقيته وفي الجدوى العملية منه.



ليس فقط لأنه يبني على "عملية سلام" أثبتت فشلها طوال عقدين من الزمن، أو لأن هذه العملية قد تأكد الآن بأنها أصبحت مطلوبة لذاتها أكثر مما هي مطلوبة لتحقيق الأهداف المعلنة المتوخاة منها، أو لأن حكومة الحرب التي تمخضت عنها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تؤكد يوميا على الأرض بأنها لا تمتلك الحد الأدنى لمؤهلات شريك سلام ذي مصداقية، أو لأن المفاوض الفلسطيني لا يملك الثقة الكافية في المقترح الأميركي لكي يسير فيه دون الحاجة إلى ضوء أخضر عربي، أو لأنه مقترح يتم فرضه بقرار عربي على شبه إجماع فلسطيني رافض له بقوة، بل لأن الإطار العام الأميركي – الإسرائيلي لهذا المقترح يضعه إقليميا في خدمة استراتيجية حربية لا علاقة لها بالسلام.



فالسلام المستهدف بالمقترح الأميركي، أولا، لا يعدو كونه تهدئة مؤقتة لجبهة عربية – إسرائيلية حبلى بانتفاضة فلسطينية ثالثة يتوقعها كثير من المراقبين ضد الاحتلال والحصار بقدر ما هي ضد الوعود الأميركية المتكررة الكاذبة بالسلام وحبلى كذلك باستعدادات حربية إسرائيلية للعدوان شمالا وجنوبا، وهي جبهة إن انفجرت سوف تشتت الجهد الحربي الأميركي المركز على أفغانستان والعراق وتربك الخطط الأميركية – الإسرائيلية لحرب إقليمية محتملة ثالثة على إيران.



ثم إن هذا المقترح يأتي ثانيا في سياق سياسة خارجية أميركية تقليدية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد أحد من العرب يجرؤ على إبداء الثقة بها، فمن يراجع المبادرات الدبلوماسية الأميركية لحل هذا الصراع منذ العدوان الإسرائيلي الذي انتهى باحتلال أراضي مصرية وسورية ولبنانية وأردنية – فلسطينية عام 1967 لن يفوته ملاحظة أن كل مبادرة منها إما طرحت غداة أو عشية حرب أميركية أو إسرائيلية، إما من أجل جني حصاد سياسي لمكاسب عسكرية تحققت أو من أجل نزع فتيل سياسي لانفجارات عنيفة قد تقع فتشتت التركيز الأميركي – الإسرائيلي على حرب يستعد الحليفان لها.



فمبادرة روجرز أعقبت عدوان عام 1967، ومفاوضات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية حولت حرب التحرير المصرية – السورية عام 1973 إلى ما أصبح كثير من المراقبين يصفونه بحرب تحريك لعملية سلام عربية – إسرائيلية تمخضت عن الصلح المصري المنفرد مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأعقب الغزو فالاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 إخراج فكرة "حل الدولتين" من الأدراج الأميركية بعد إخراج مقاتلي الثورة الفلسطينية من لبنان لينتهي المطاف بقيادتهم السياسية إلى تبني هذا الحل كخيار استراتيجي في وثيقة "إعلان الاستقلال" عام 1988، وأعقبت "حرب تحرير الكويت" عام 1991 المبادرة الأميركية لتنظيم مؤتمر مدريد للسلام العربي الإسرائيلي في السنة نفسها، أما المهمة الأولى للمبعوث الرئاسي الأميركي الحالي جورج ميتشل التي تمخضت عن "خريطة الطريق" الفلسطينية – الإسرائيلية عام 2002 وعن مبادرة السلام العربية في العام نفسه بعد الوعود الأميركية المعسولة للعرب بدولة فلسطينية عام 2005 فقد سبقت الغزو فالاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.



واليوم تكرر مبادرة الرئيس باراك أوباما للتوصل إلى اتفاق فلسطيني – إسرائيلي على حل الدولتين خلال عامين، كما يعد ميتشل، السيناريو الأميركي نفسه بينما تجري على قدم وساق الاستعدادات الحربية الأميركية لحسم الحربين على العراق وأفغانستان ... في إيران أو حيث يعتقد الاستراتيجيون الأميركان بتحريض إسرائيلي سافر أن لإيران امتدادات في لبنان وقطاع غزة.



كما أن قائمة الزوار الأميركيين الرسميين رفيعي المستوى إلى المنطقة، وبخاصة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، منذ تولى باراك أوباما مقاليد السلطة في البيت الأبيض، والتي ضمت وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة وقائد القيادة المركزية ومستشار الأمن القومي ومدير وكالة المخابرات المركزية ونوابهم ومساعديهم، و"الحوار الاستراتيجي" الأميركي – الإسرائيلي، وزيادة المعونات "الدفاعية" الأميركية لدولة الاحتلال، وأكبر ميزانية عسكرية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، هي وغيرها، ثالثا، دلائل على أن إدارة أوباما قد وضعت كل بيضها السياسي في سلة البنتاغون، وأن كل الموارد الأميركية مسخرة لدعم الجهد العسكري في الحروب الدائرة منذ سنوات في العراق وأفغانستان أو استعدادا لحروب تجري الاستعدادات لها على قدم وساق، وأن السياسة الخارجية الأميركية ودبلوماسيتها تعمل في خدمة هذا الجهد الحربي ولا تقوده.



ومن هنا الدور الثانوي لوزارة الخارجية ووزيرتها في رسم السياسة الخارجية لبلادها، ولا أدل على ذلك من أن الرئاسة الأميركية قد سحبت من هذه الوزارة ووزيرتها أهم ملفات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وسلمتها إلى البنتاغون ومؤسسات الأمن القومي والمخابرات، ويقوم حاليا نائب الرئيس جو بايدن والمبعوثون الرئاسيون بتنسيق ملفي الصراع العربي – الإسرائيلي والعراق مع الدوائر العسكرية والأمنية وتركت لوزارة الخارجية ووزيرتها هيلاري كلينتون مهمات تجميل صورة السياسة الخارجية الأميركية بزيارات "إنسانية" لضحايا الكوارث الطبيعية في هاييتي وتشيلي.



ومما يشكك في جدية المقترح الأميركي وصدقيته، رابعا، أنه يأتي على خلفية ما وصفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس ب"تراجع" الإدارة الأميركية ورئيسها أوباما عن مواقفهما المعلنة إلى تبني وجهة نظر حكومة الحرب التي يرأسها رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجاه الصراع مع العرب، بقدر ما يشكك فيه الضغوط الأميركية التي اعترف بها عباس وكبار مساعديه لقبول المقترح.



فمنذ فشلت زيارة كلينتون إلى المنطقة أواخر العام الماضي في تحقيق الهدف المعلن لزيارتها، وهو استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، تأكد التراجع في الموقف الأميركي، الذي أعلنت الرئاسة الفلسطينية "خيبة أملها" فيه، وتأكد تبني الإدارة الأميركية لجدول الأعمال الإسرائيلي الذي يعطي الأولوية للحروب الإقليمية ويؤجل أي عملية لصنع السلام في المنطقة إلى ما بعد حسم الملفات الحربية وبخاصة الملف الإيراني. إن الهجوم الدبلوماسي الأميركي الذي شهدته المنطقة مؤخرا كان يصب في هذا الاتجاه.



ويشكك في جدية المقترح الأميركي وصدقيته، خامسا، توقيته عشية مؤتمر قمة جامعة الدول العربية في ليبيا أواخر الشهر الحالي، فالهجوم الدبلوماسي الأميركي المكثف على الدول العربية "المعتدلة" مؤخرا لم يترك مجالا للشك في التصميم الأميركي على المشاركة في وضع جدول أعمال القمة العربية المقبلة.



ويشكك في جدية المقترح أكثر، سادسا، تراجعا آخر في دور اللجنة "الرباعية" الدولية في "عملية السلام"، وهو الأمر الذي انتبه له ونبه إليه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يوم الثلاثاء الماضي أثناء زيارته للقاهرة التي تزامنت مع الاجتماع الوزاري للجنة المتابعة العربية عندما قال إن "الرباعية" التي تبنت "خريطة الطريق" عام 2002 "لم تعد لها أهمية" في الجهود المبذولة لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.



ومن العوامل الحاسمة في الإطار الاستراتيجي العام للمقترح الأميركي، سابعا، أن المنطقة أصبحت فعلا جزءا من ولاية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي تقوده الولايات المتحدة وترهقه حاليا من أجل مساهمة عسكرية أكبر في حروبها، وبالتالي فإن "التوافق" العربي مع المقترح الأميركي كما تمخض عنه اجتماع لجنة المتابعة العربية كان متوقعا، ف"الشراكات" التي أقامها الحلف منذ "مبادرة إستانبول للتعاون" عام 2004 -- مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ومصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي العربية الست علاوة على دور الناتو في العراق بعد الاحتلال الأميركي -- لا تترك للدول العربية خيارا سوى التساوق مع الاستراتيجية الإقليمية للناتو وقيادته الأميركية.

* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*



ليست هناك تعليقات: