حكمة أبو زيد
النهار
في كتابه القيم: "طريق المختارة... زمن كمال جنبلاط" الذي يعرض السيرة السياسية للزعيم الراحل بتفصيل ودقة وامانة، ويعرج على بعض محطات وطنية ومميزة من التاريخ اللبناني الحديث، يسجل وقائعها ويضيء خفاياها، يروي الزميل الصديق عزة صافي تفاصيل الجلسة النيابية التي عقدها مجلس النواب، قبل ظهر الاول من نيسان 1954، وناقش فيها وقائع جريمة اغتيال الطالب الشهيد حسان ابو اسماعيل برصاص رجال الامن، وجرح عدد من الطلاب بينهم مصطفى نصرالله الذي اصيب اصابة اقعدته طوال حياته ومات بسببها.
ويذكر حادثة انفعال جنبلاط وصفعه رئيس الحكومة عبدالله اليافي.
كنت من الذين حضروا تلك الجلسة التاريخية العاصفة، مندوبا برلمانيا لجريدة "الهدف" لصاحبها الاستاذ زهير عسيران. نقلت الى الجريدة التي كانت تصدر ظهرا وقائع الجلسة، فنشرتها بعنوان احمر عريض: "جنبلاط يصفع اليافي".
وصبيحة اليوم التالي، 2 نيسان 1954، قرع باب منزلنا في شارع ساسين – الاشرفية المفتش في سرية التحري، جارنا محمد بلوط، وقال لوالدتي:
"ما تواخذينا يا ست ام جوزف... جايين ناخذ الاخ حكمة عالتحقيق...".
قالت الوالدة وهي تضحك ضحكة صفراء ساخرة:
"... شو عليه؟ بيّو وخيّو سبقوه عالحبس...".
وكان المفتش بلوط نفسه اعتقل الوالد سليمان ابو زيد ليل الاول من نيسان بسبب تعليق له على قمع الطلاب كتبه في "الوكالة اللبنانية للانباء" التي كان رئيسا لتحريرها، فانضم الى ابنه لويس الذي كان اول من اعتقل من الطلاب المتظاهرين بصفته رئيسا لمجلس الطلبة الذي دعا الى التظاهر.
نقلوني الى العدلية القديمة حيث مكاتب مجلس الانماء والاعمار اليوم، وادخلوني الى نظارة المخفر قبل ان امثل امام المحقق منير محمصاني، برفقة نقيب المحامين آنذاك فريد قوزما.
قال محمصاني:
"يتهمك رئيس الحكومة عبدالله اليافي بنشر معلومات كاذبة عنه في جريدة "الهدف"، ويتخذ بحقك صفة الادعاء الشخصي، فما هو ردك؟"!
قلت:
"ردي ان ما نشرته في "الهدف" صحيح مئة في المئة، وقد حدث امام عشرات العيون. ومع ذلك فانا اطلب الاستماع الى اقوال كل من النواب السادة: كمال جنبلاط، احمد الاسعد وانور الخطيب ورئيس مجلس النواب عادل عسيران كشهود على صحة معلوماتي...".
تبادل المحقق محمصاني النظرات مع النقيب قوزما قبل ان يقول:
"خلّي الرئيس اليافي يلاحق دعواه قدام المحكمة. الله معك".
بعد مضي اسبوع على توقيف الوالد والشقيق لويس والطلاب في سجن الرمل مثلوا، وسط حشد جماهيري ونيابي، امام القاضي الجزائي المنفرد اميل نمر شمعون، وتولى الدفاع عنهم فريق من المحامين على رأسهم عملاق محامي الجزاء، يومذاك، نائب المتن اميل جرجس لحود، الذي ارتجل دفاعا رائعا ختمه بقوله:
"اذا كانت الدعوة الى الاضراب جريمة فهذا العهد قائم على الجريمة".
وكان يشير بلباقة ودهاء الى ان عهد شقيق رئيس المحكمة انما قام نتيجة التظاهرات والاضرابات ضد عهد الشيخ بشارة الخوري صديق النائب لحود. وصدر الحكم ببراءة الجميع.
بعد حوالى شهر استدعيت للمثول امام القاضي الجزائي المنفرد جورج شحاده بتهمة "الاساءة الى رئيس الحكومة والمس بسمعة الدولة"، وصدر في حقي حكم بالحبس خمسة عشر يوما "لان ما نشرته في جريدة "الهدف"، على الرغم من صحته، لا يجوز نشره لانه يسيء الى مسؤول كبير هو رئيس الحكومة ويمس بسمعة الدولة...".
والقاضي شحاده هو نفسه الذي حكم على كمال جنبلاط بدعوى مشابهة اقامتها عليه النيابة العامة.
اما محكمة الجنايات والجنح التي كانت تنظر في قضايا المطبوعات فقد نقضت الحكم وبرأتني من تهمة المس بسمعة الدولة. وجاء في حيثيات حكمها "وبما ان جلسة مجلس النواب كانت علنية ولا سرية على وقائعها، وبما ان الواقعة التي يُحاكم المستأنف بسببها هي واقعة ثابتة، واكيدة، تقرر المحكمة، بالاجماع، فسخ الحكم المستأنف واعلان براءة المستأنف...".
وكانت المحكمة برئاسة وديع طرابلسي وعضوية كامل مزهر واميل روحانا صقر ومثل النيابة العامة راجي الراعي.
هذه بعض تداعيات وذيول تلك الجلسة النيابية العاصفة والتي كان للنائب "الشاب" غسان تويني دور مهم جدا في منع انتشار لهيبها الى خارج المجلس، عندما نجح في انتزاع موافقة نيابية جماعية على تأليف لجنة تحقيق برلمانية في احداث التظاهر واطلاق النار كانت مدخلا الى التهدئة في ذلك الوقت العصيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق